حاجة غريبة ! تذهب الغالبية من الممثلين المصريين الآن للغناء وتمضي فيه ومهما كانت النتيجة ! إلى الغناء وإن إمتلأت أفلامهم كلها بأغاني الممثل ! وإن غني كل ممثل منهم «كوميدي كان أو غير كوميدي» حتي أصبح يبدو «مطربا سينمائيا» ! وإن ذهب «الممثل المغني» مثل محمد سعد إلي الغناء في كل أفلامه دون إنقطاع (فيلم اللمبي، فيلم تتح، بوشكاش، كتكوت، حياتي مبهدله، تك تك بوم، إسعاف 55، بوحه، عوكل، اللي بالي بالك، اللمبي 8 جيجا ...) وإن فعلها الهنيدي بكل أفلامه (أغنية فيلم أمير البحار، أغنية «كاجولو» لفيلم صعيدي في الجامعة الأمريكية، أغنية «مين حبيب بابا» لفيلم عندليب الدقي ...) أو أوكا وأورتيجا، شحتة كاريكا وغيرهم ! بل وإن إتصف فيلم اليوم بأغنية خاصة تميزه وتسمي باسمه (أغنية فيلم جمهورية إمبابة، أغنية فيلم زنقة الستات، أغنية فيلم جوازة ميري، أغنية فيلم القشاش، أغنية فيلم الخلبوص، أغنية فيلم ريجاتا، أغنية فيلم عيال حريقة، أغنية إذاعة حب، أولاد رزق .. ) يذهبون للغناء إلي أن تنتشر «أغنية الممثل» كما انتشرت من قبلها «أغنية المسلسل» ! ولا يعنيهم إن كان هناك مبرر فني لذلك ! يذهبون وإن أصبحت مصر لا تضع تمثيلا – إذاعيا أو تلفزيونيا أو مسرحيا - دون «أغانيه» ! والعجيب حقا ان «غناء الممثل» في مصر إنما يجري الآن دون أدني موهبة موسيقية ! وتلك المشكلة ليست في الواقع وليدة اليوم وإنما ظهرت في الجيل السابق من الممثلين (منذ ستينيات القرن العشرين) حين أقدم أحمد زكي – على سبيل المثال – على الغناء في أفلامه مرارا .. ومحمود عبد العزيز تكرارا رغم النغمات «الناشزة» الكثيرة والمستمرة التي أصدرها هذا أو ذاك ! منذ ستينيات القرن العشرين وكل نجم يذهب إلى مائدة «الغناء» دون أن تتوفر لديه أهم شروط العمل الموسيقي «آذان موسيقية» ! وإن لم يقرأ أو يعزف لحنا واحدا في حياته! وكأن الغناء «ضرورة تمثيلية» يقسم كل ممثل ألا يتركها «ألا ميتا « ! هل كان التمثيل المصري بحاجة لذلك ؟ كان التمثيل المصري «زمن النشأة» يجري في أحضان المسرح وكان آنذاك بحاجة للغناء ! ولابد إن بدايات التمثيل الغنائي عند يعقوب صنوع 1839 - 1912 وعند أبو خليل القباني 1833 – 1903 كانت مدفوعة دفعا لغرس «الغناء التمثيلي» داخل المسرحية .. بين التمثيل وبعضه، فالتمثيل على خشبة مسرح وداخل قاعة خاصة مقفلة كان أمر جديد تماما على الواقع المصري، وكانت نتائجه مرفوضة كثيرا ومستهجنة اجتماعيا على الدوام .. الأمر الذي دفع المسرحيين لإستجلاب الاغاني الشعبية المنتشرة في المدن وترديدها بين فصول المسرحية – ترديدها بحد ذاتها ودون صلة بينها وبين موضوع المسرحية – آملين في انتشار التمثيل .. الانتشار الذي لتلك الأغاني .. قانعين بأن للتمثيل نفس هدف «الترويح» و«الإمتاع» .. ساعيين بكل ما لديهم لجذب الجمهور لقاعات المسرح! كان تمثيل «زمن النشأة» بحاجة ماسة للغناء لأسباب كثيرة أخري إذ كان الكثير من القصص التمثيلية مقتطع من التاريخ العربي أو من الأدب الاجنبي المترجم أو من الأساطير .. يلقونها بالعربية الفصحي .. كما كان تمثيلا خشن الحركة متكلف المظهر وبدرجة أو أخري مصطنع السلوك وعلى الأخص في قصص الفروسية والقصص الديني ! وكان استحضار الغناء الشعبي البسيط يعيد للمتفرج اتصاله بالواقع اليومي وثقته في «طبيعية» هذا التمثيل . ولما كان هذا التمثيل بحاجة للاقتراب من الحياة المصرية وتصوير واقعها اليومي فقد تبلورت فقرات الغناء (المقتطعة من آهازيج العامة والمتصلة بمواضيع الحياة اليومية) لتصبح مقدمة وإستراحة ما بين الفصول ، تماما كفقرة الرسوم المتحركة ما قبل فيلم اليوم. أما الأن فما الحاجة لكل هذا الغناء وقد استقر التمثيل واختلفت أنواعه واستتبت دوره وتخصصت رجاله ونمت صناعته وتفردت روؤس أمواله ؟. إنهم وياللعجب مازالوا يحلمون بالإنتشار الذي للأهازيج الغنائية ! يحلمون اليوم رغم أن آهازيجهم لم تعد شعبية .. بل مؤلفة خصيصا ! يحلمون مع ان آهازيجهم لم تعد «منتشرة» ولا مأخوذة من اهازيج العامة ! يحلمون وكأن الموسيقي المصرية ماتزال ناهضة وألحانها ماتزال متقدمة! متناسيين حقيقة إن موسيقي اليوم ليست موسيقي الأمس، ومطلع القرن العشرين ليس مطلع الواحد والعشرين وأن موسيقي اليوم تخوض في الواقع مرحلة تراجع كبيرة ! واللجوء إليها قد أصبح كإمساك السابح بعوامة مثقوبة !. لاشك إن علاقة التمثيل بالموسيقي – كعلاقته بالادب القصصي أو الرقص أو الفن التشكيلي – إنما تقوم على أساس المصلحة المشتركة .. على أساس حاجة كل فن للتطور.. التطور بالتفاعل مع غيره. وعندما ذهب الغناء المصري إلي التمثيل المسرحي «مرحلة النشأة» وأرتبط به فذلك لأنه عرف إنه سوف يجني الكثير .. عرف إنه بذلك سيقيم فن موسيقي جديد هو «الحوار الغنائي» وانه بذلك سوف يخرج بالموسيقي المصرية من سجن «الاغنية الفردية» .. عرف أن ألحانه سوف تتعلم مبدأ جديدا «هام للغاية» : «تقسيم اللحن الواحد الغنائي إلى عدة ألحان تتوزع على شخصيات مسرحية مختلفة» ولتمضي كل شخصية بغناء جزء مختلف من اللحن فهو «الحوار الغنائي» وياله من كسب .. ياله من تقدم عندما تتخفف هذه الموسيقي من وطأة الأغنية الفردية! هكذا نهض المسرح الغنائي المصري انتصارا لتلك العلاقة بين التمثيل والغناء ، وقد تقدم كل منهما : الموسيقي من ناحية والتمثيل المسرحي من ناحية أخري. وموسيقي اليوم في تراجع كبير وتمثيلنا الحالي من سينمائي وإذاعي وتلفزيوني لم ينتشلها من سجن «الاغنية الفردية» بل تأكدت الفردية الممجوجة وظل اللحن مفردا والممثل المغني فردا .. وظلت الأغنية فردية على لسان هنيدي آم محمد سعد آم عبد الخالق .. داخل التمثيل كما خارجه !. وإذا كان تمثيل اليوم وبعد تمكنه من جمهوره واستقرار كل وسائله وأدواته بحاجة لهذا العون الموسيقي – لغالبية الأفلام والمسرحيات والتمثيليات – فلابد إن التمثيل يعاني هو الآخر «هبوط حثيث» ! هي نكات القدر ومزاح المجتمعات : عندما تحلم رجال السينما بالنجدة الموسيقية ولا تري كيف تهرع الموسيقي اليهم للنجدة السينمائية ! يستنجد التمثيل بالغناء والغناء بالتمثيل .. ثم يحصل كل منهما على « قربة مخرومة «.