من منظور سيميوطيقى، تبدو العلامات التى نطالعها فى المقطعين الأول والثانى دالة على الموت، حتى الشكل الخارجى للڤيلا المهجورة يبدو كما لو كان مقبرة دالة بالحجر «الدبش» الذى يحيط بالڤيلا بلا ألوان، فى الوقت الذى تجمع فيه علامات الاحتضار والموت بين الشخصيات المحيطة بالبطل، وهى شخصيات أودى بحياتها السرطان أو الموت غرقا. فندرك منذ المقطع الأول والثانى أن كل شىء فى الڤيلا رغم فخامته، إنما هو علامة دالة على الموت أو الاحتضار، ولذلك فالفترة التى يقضيها «سامر» وزوجه المحتضرة فى الڤيلا التى تشبه القبر الفخيم من الخارج، لا تستغرق وقتا طويلا من حيث الزمن، إذ إن الزمن الذى تستغرقه أحداث الرواية ليس زمنا طويلا ممتدا يعد بالسنوات أو حتى بالأشهر، وإنما هو زمن قصير لأنه زمن احتضار، ولا يوازى هذا الزمن القصير سوى قلة عدد الشخصيات، فليس فى الرواية سوى شخصية «سامر» الزوج المكلوم، و«ريم» المحتضرة، وابنتهما «نور»، و«غادة» التى تأتى لكى تخفف وطأة الاحتضار على «سامر» والقارئ فى الوقت نفسه، وسائق التاكسى الذى حاول أن يخلق بعض البهجة فى هذا المشهد المعتم، وما يبقى بعد ذلك شخصيات بالغة الثانوية ليس لها أثر واضح فى الأحداث، وإنما هى مكتوبة على سبيل الرتوش التى تملأ بعض فراغات اللوحة التى يمكن أن نطلق عليها لوحة الاحتضار التى يسارع الموت إلى أن يغطى فيها على كل شىء. وبما أن البطل الأساسى فى هذه الرواية هو «سامر الدرينى» الزوج, فإننا نرى كل شىء من خلال منظور وعيه- الذى يلوذ بالذاكرة كى يستعين بها فى استعادة الزمن الجميل الذى قضاه وزوجه «ريم» بين عواصم الدنيا؛ خصوصا قاعات الأوبرا فى هذه العواصم. ويعنى ذلك أن الغالب على زمن الرواية ليس هو الزمن الحاضر، وإنما هو الزمن الماضى؛ زمن الاستعادة الذى تلعب فيه الذاكرة دورا أساسيا، بالغ الحميمية. هكذا يهرب «سامر» من وطأة ما يشاهده فى الحاضر ويعانيه إلى بهجة ما استمتع به فى الماضى، وما مر به من ذكريات بهيجة، تحمله إلى كل العواصم الأوروبية التى يصحب «ريم» إليها متنقلا معها بين دور الأوبرا فى هذه العواصم، مستمعا إليها ومستمعا معها إلى أعظم ما أبدعته قرائح المبدعين العالميين فى الموسيقى. ولذلك كان من الضرورى أن نرى على جدران الڤيلا لوحات ونسخا من لوحات لرينوار وديجا وبيكاسو، وصورا لختشا دوريان وشوبان وموزارت وفرانز ليست وأستراڤنسكى ومحمد عبد الوهاب وسيد درويش وعمر خيرت، وكلها فى براويز خشبية صنعت وجهزت فى مصنعه بأيدى عماله المهرة، مطعمة جوانبها كلها بالصدف. والحق أن هذه اللوحات ليست سوى علامات دالة بدورها على عوالم الإبداع التى لم يكن يكف «سامر» عن التحليق فيها مع زوجه التى كانت تقوده ليشعر بلذة الإبداع، وهى تحمله إلى عوالم سامية، يكاد يلمس فيها الملائكة، وهى تطير فى السماوات حوله، حيث تنطلق أصابع «ريم» على البيانو، حاملة إياه إلى عوالم لم يرها وأصوات معجزة لم يسمع عنها أو حتى لم يسمعها من قبل أن يعرف «ريم»، التى تقوده إلى عوالمها الأثيرية ودنيا الموسيقى الملائكية التى انتقلت عدواها منها إلى زوجها وابنتهما «نور» على السواء. وهكذا نرى فى كل مقطع من مقاطع الرواية جزءًا قليلا يراه هو فى الواقع أو الآن مقابل أجزاء كبيرة، تنتقل بنا عبر الذاكرة إلى العوالم الجميلة فى الماضى، فنقع على أول ثنائية ضدية فى الرواية، وهى ثنائية: حاضر الاحتضار والموت وماضى الحياة والحب والجمال والفن. هذه الثنائية الضدية هى ثنائية الزمن ودلالات الشخصيات والأحداث والأماكن على السواء. وطبيعى أن تكون الكثرة الكاثرة فى العالم الذى تصفه بالإيجاب أو بالجمال على السواء، فى مقابل عالم الاحتضار والموت أو حتى القبح الذى لا يسرف الكاتب فى إغراقنا فيه؛ حرصا على متابعتنا للرواية، فلو كانت الرواية كلها مُقبضة، مغرقة فى وصف عوالم الموت، ما استطاع أحد قراءتها، أو احتمال قراءتها، ولذلك تأتى الذاكرة بما ينعش الروح ويقضى على الحضور الآنى للقبح والعتمة بنقيضهما من الجمال والنور. ولا تسيطر الذاكرة على أزمنة السرد فحسب، بل إنها تصرفه فى الأغلب إلى الماضى؛ فرارا من وطأة الحاضر وأوجاعه؛ فلا تتوقف أمام الحاضر إلا بلوحات ذكية لا تسرف فى قبحها أو فى تفاصيلها، وإنما تنثر القبح هونا، فى تفاصيل التعامل مع جسد «ريم» فى زمن احتضارها، وذلك حتى لا يصاب القارئ بالاكتئاب، وهو يقرأ هذه التفاصيل التى لا يعرفها ولا يدرك قسوتها إلا من ابتلاه الله بزوجة مريضة بهذا المرض اللعين مثل «ريم». ويعنى ذلك أن العلاقة بين الزمنين: الحاضر والماضى بقدر ما هى علاقة عدم تساوٍ فإنها علاقة تداخل وتفاعل، يتحكم فيها التداعى ويحكمها الحاضر الذى يعود دائما إلى نقيضه أو شبيهه. ولذلك يتحرك عقرب الزمن فى الرواية، سرديا، حركة أشبه بحركة بندول ساعة الحائط يمينا ويسارا، أو حاضرا وماضيا، منجذبا دائما إلى الماضى الذى يعود فى النهاية إلى الحاضر الذى سرعان ما ينتهى إلى الموت. وفى حركة الزمن هذه ترد وقائع ذات أبعاد سياسية عن التعددية التى كانت تعيشها مصر قبل ثورة يوليو 1952، حينما كان يعيش المصريون مع الأجانب، وتنعم مصر بالسماحة الدينية التى كانت تضم اليهود والمسيحيين والمسلمين فى دولة مدنية. هكذا تلتقط لنا الذاكرة المطرب المصرى «بوب عزام» فى أغنيته الشهيرة التى لحنها «محمد فوزى» وهى عن مصطفى، قائلين: «إن مصطفى الذى تذكره الأغنية، هو «مصطفى النحاس باشا» زعيم الوفد، وقيل إن جملة «سبع سنين فى العطارين وانا باحبك يا مصطفى»، إشارة إلى مرور سبع سنوات على قيام ثورة يوليو وإلغاء الملكية وقيام الجمهورية وإلغاء الأحزاب وإبعادها عن الحكم بما فيها حزب الوفد وزعيمه مصطفى النحاس. لكن الدولة ما لبثت أن سمحت بالأغنية التى اشتهرت فى العالم كله، وغناها مطربون إنجليز وفرنسيون وأتراك وغيرهم». وبعد ذلك يأتى مشهد «موستاكى» اليونانى الذى يقدم «ريم» إلى الجالسين فى مطعمه فى باريس، ويغنى معهم «سامر» الذى لاحظ من بين النساء امرأة عجوزا تنزل دمعة من عينها، وتجفف الدمعة لتنزل أخرى، وينتهى الغناء ويجلس «جورج موستاكى» معهما على المائدة، ويسأله «سامر» هل يعرف السيدة التى كانت تبكى بهدوء، فيقول له موستاكى: «من لا يعرفها. ولدت فى الإسكندرية، وعاشت بها حتى سن الثلاثين ثم هاجرت منها فى الستينيات». نظر إليها «سامر» مشفقا. وجد نفسه ينهض متجها إليها يصافحها ويقبل يدها. قامت وجاءت معه إلى منضدتهما، فسألها: «إلى هذا الحد سيدتى تحبين مصر؟. فتأتى الإجابة: «من لا يحب مصر؟! أنا من الأزاريطة. من شارع شامبليون فى إسكندرية. كان لدينا فرن يصنع الخبز الأوربى، فرن صغير وحلوانى لم يتركوه لنا. تم تأميمه. تركت العائلة الإسكندرية وأنا معها طبعا. ومن يومها لم أعد إلى مصر». ويعنى ذلك أن الراوى الذى يتطابق وشخصية «سامر» فى أغلب الأحيان يتكشف فى لحظات دالة عن المؤلف المضمر فى السياق. وينقل لنا بعض آرائه السياسية، وهى آراء سبق أن صرح بها بطريقة مضمرة أيضا فى رواياته السابقة مثل «طيور العنبر» وغيرها. هذه الذكريات البهيجة التى تفترش أغلب الرواية كان لا بد منها فنيا لمواجهة عتمات المرض ومشاهده المزعجة. أما عن الوصف الذى يتخلل السرد، فمن الملاحظ أن «إبراهيم» كأقرانه من كتاب الستينيات- وإن كان البعض يزعم أنه من كتاب السبعينيات- لا يستخدمون الأساليب البديعية أو الحيل البلاغية، فيندر، إن لم يكن من المستحيل، أن تجد تشبيها صريحا أو استعارة مباشرة فى أوصاف الرواية أو سردها؛ فالأسلوب هو أسلوب تقريرى، ومع ذلك ينطوى على فقرات شعرية إلى أبعد حد، خصوصا فى اللحظات التى يتسامى فيها الحزن ويصبح أسى شفيفا. وفيما عدا ذلك لا يرد التناص سوى مرة واحدة، على هيئة اقتباس لبيت من الشعر القديم، وهو: قل لمن يحمل همًا إن همًا لا يدوم مثلما يفنى السرور هكذا تفنى الهموم وظنى أن القارئ سيطوى الصفحة الأخيرة من الرواية، وهو يستعيد مشاهدها المملوءة بالحزن، ولكنه الحزن الذى يحيله سحر الفن إلى أسى شفيف، ممزوج بنغمات الموسيقى وحركات السيمفونيات، فضلا عن كل وتريات الأداچيو الذى سيبقى أطول فى الذاكرة. لمزيد من مقالات جابر عصفور