تنقسم رواية أداچيو إلى مجموعة من المقاطع السردية عددها عشرون مقطعا، ويتراوح المقطع ما بين ست صفحات إلى ما يزيد على ست عشرة صفحة. والسرد الغالب على الرواية هو ما ينطقه الراوى العليم بكل شىء فى منحى محايد من حيث الظاهر، موجّه من حيث الباطن، إذ سرعان ما نكتشف أن هذا السارد المحايد هو راوٍ متضمن فى الأحداث والوقائع، ويعرف نوعية المحكى عليه، ولذلك يقدم له ما يراه هو، ساردا وقاصا على السواء. وكالعادة فى روايات إبراهيم عبد المجيد، نجد أنفسنا إزاء مجموعة من الموازيات الرمزية التى تقوم بالتمهيد والإيحاء بالحدث، مستخدمة ما يمكن أن يغدو نوعا من الاستعارات أو الكنايات الموسّعة التى توازى الحدث الأساسى أو تمهد له أو تستبقه دون أن تتطابق وإياه بالضرورة. وأول ذلك الرائحة العفنة التى نراها فى المقطع الأول من الرواية؛ حيث يقابلنا سائق سيارة الإسعاف والمسعف الذى يجلس إلى جواره مندهشا من المكان الذى يدخلان إليه، ويسيران بسيارة الإسعاف على مهل فوق مطبات طريق زلقة، بين ڤيلات تبدو مهجورة، ويبدو المسعف مندهشا من المكان وينظر إلى الڤيلات التى يبدو بعضها جميلا محاطا بالأشجار والحدائق التى تقع فيها حمامات سباحة خالية من الماء فى موازاة الڤيلات الأخرى التى تبدو مهملة ومهجورة. ويمضيان فى طريق وعر لم تنقطع منه المياه العفنة التى تظهر بين الحين والآخر، وتزداد كلما تقدموا، وتعلو على الأرض. فيقول المسعف: "المجارى طافحة فى كل مكان"، فيرد السائق "يبدو لى أنها مياه جوفية أيضا. الظاهر أنهم يعتمدون على الصرف التقليدى. آبار أمام البيوت. تأتى سيارات الصرف الصحى لنزحها عند الطلب"، لكن مع توقف النزح تتصاعد المياه الجوفية وترتفع فوق سطح الأرض مهددة البيوت بالسقوط إذا لم تواجه ويتم التعامل معها، والدليل على ذلك ما يراه المسعف والسائق من مبانٍ ترتفع المياه الجوفية داخلها وتحاصر الحيطان، فتنشع من جدران الدور الأول إلى الخارج الذى تعلوه طحالب خضراء. ويعلق السائق على الصمت الذى يراه حوله: "واضح أن السكان طفشوا فعلا من زمان". قال السائق ذلك، وهو يشير إلى حائط ينشع بالمياه، ناظرا إلى عصفور صغير ينقر فى الطحالب الخضراء ثم يطير ويرفرف عاليا ويختفى. وأخيرا يصلان إلى الڤيلا التى يقودهما إليها رجل الأعمال "سامر الدرينى"، ويفتح "سامر" البوابة الحديدية للسور ثم الباب الخشبى للڤيلا. وما إن فتحه حتى اندفعت المياه خارجة منه بقوة إلى حذائيه، فيقف حائرا لحظة ويرتفع الماء فوق الأرض، فيجد الماء وقد ارتفع فى غيابه وغطى خشب الأرضية الباركيه كله وأتلفه، فيبحث "سامر" عن عدد من البلاطات كى يضعها وسط المياه لتكون معبرا ينقلهم إلى الدور الثانى. وفى ذلك الوقت كان السائق يقول للمسعف: "هذا الرجل يبدو رجلا مهما لكن أن يأتى بمريضة هنا يعنى أنه مجنون". وما إن ينتهى من جملته حتى يظهر "سامر" عائدا وموجها إليهما الأمر بنقل المريضة إلى الدور الثانى من الڤيلا، حيث غرفة النوم. هكذا نعرف من المقطع الأول لمحة عن المكان الذى سوف تدور فيه أحداث الرواية القليلة التى سنعبر فيها مع "ريم" الفترة الزمنية المحدودة التى ستقضيها فى غيبوبتها المستمرة إلى أن تنتهى حياتها بسبب المرض اللعين، وهو السرطان الذى يبدو كما لو كان قد أصاب الكثيرين من الذين يقعون فى دائرة معرفة الزوج المنكوب الذى قرر أن يحمل زوجه المحتضرة، عازفة البيانو الشهيرة، إلى حيث لا يراها أحد، ويعتزل وإياها فى هذه الڤيلا المجهولة من الجميع، والمحاطة بالرائحة العفنة والمنتنة، منتظرا نهاية الغيبوبة التى لا علاج لها ولا نهاية إلا بالموت. وقد كان الزوج المكلوم يعرف أن زوجه "عازفة البيانو الشهيرة" لا تحب أن يراها أحد فى ضعفها أو عجزها، فيهرب بها على مسؤوليته الخاصة إلى هذه الڤيلا النائية فى العجمى كى يكون وإياها فقط فى انتظار الموت الذى لن يطول غيابه، والذى تدل عليه رمزيا أول ما تدل هذه الرائحة العفنة التى تبشر به وتمهد له فى آن. وتأتى بعد ذلك موازيات أخرى مثل البرق والرعد الذى يبدو، كما لو كان فى انتظار هذه المريضة المحتضرة التى كانت تعشق رؤية البرق والعواصف الممطرة فى غابات أوربا. ولكن البرق والرعد هذه المرة أشبه بضربات القدر التى تبدو فى سيمڤونيات بيتهوڤن منذرة بالموت، تومئ إليه بضربات الأنامل القوية على أصابع البيانو. ولكن لا يقتصر الأمر على هذا الحال، فتبدو كلمة السرطان نفسها كثيرة التردد دالة، منسربة فى حياة كل من يقترب من دائرة الزوج رجل الأعمال وزوجه التى أخرجها من معهد السرطان لكى تحتضر بين أحضانه بعيدا عن الدنيا كلها، فهناك سائق التاكسى الذى يتصادف ركوبه معه فى سيارة الأجرة، حيث يعرف أن هذا السائق قد ماتت زوجه بالسرطان منذ وقت قريب، وهناك الطاهية التى يستعينان بها فى كل صيف، عندما كانا يأتيان فيه إلى هذه الڤيلا، حيث يفاجئ بأن زوجها قد مات هو الآخر بالسرطان. وهناك فضلا عن– الموت بالسرطان- الموت غرقا الذى يراه رأى العيان عندما يقذف البحر بجثة يفاجئ بها رجل الأعمال والسائق الذى أصبح قريبا منه فى بلواه. هكذا يبدو مشهد الطبيعة الذى يحيط بالڤيلا التى تقبع فى دورها الثانى "ريم" التى كانت فتنة الدنيا والناس فى عزفها للبيانو- دالا على مدلول واحد، هو الموت. هذا الدال المجازى ومدلولاته هى أبرز علامات المشهد الذى يرسمه إبراهيم عبد المجيد لصورة "مريم" الراقدة وسط ڤيلا تحاصرها بالموت الذى يحاصر الكائنات التى تقع فى دائرة الڤيلا أو يتصل بها. وحتى عندما يسعى إبراهيم عبد المجيد إلى تخفيف هذه القتامة التى تنسرب كغبار الموت، وذلك بنوع من الجنس الذى يبدو شبيها برمزية "الإيروس" (اللذة) التى تريد أن تقطع مسار "الثاناتوس" (الموت)، ولكن الإيروس سرعان ما يذبل وينسحب فى حضرة الثاناتوس، كما لو كان قارب اللذة الحسية الذى حمل سامر وغادة للحظات يتحول عن عالم "الإيروس" ليعود بهما سريعا إلى دنيا الموت التى يكون فيها "الثاناتوس" هو الوجه الآخر والأبقى من "الإيروس". ولكن هناك مع كل هذه العتمة التى يتخللها البرق والرعد وعفن الموت، رمزية الجسد الإنسانى نفسه الذى يتحلل تدريجيا فيفقد ألقه وبهاءه كما لو كان هذا الجسد لم يكن يوما مثيرا للذة أو الشهوة، فقد أصبح بعيدا عن الحياة بعرامتها، قريبا من شاطئ الموت الذى ينتظره قارب خارون ليحمله إلى ضفة أخرى من النهر الواصل بين الحياة والموت. لكن ما بين العالمين هناك دائما رُسل، هى الملائكة التى تحلق فى سماوات القاعات التى تنطلق فيها الموسيقى التى كانت تعزف فيها "ريم"، حين كانت ممتلئة بلذة الفن التى هى الوجه الآخر لعرامة الحياة التى كانت تتفجر فنا وإبداعا ونغما هو السحر بعينه. هكذا نقرأ عن الفراشة التى تظهر كل مساء قبل مغادرة المحتضر الحياة تطوف حوله كل مساء مع مغيب الشمس، وزوجة السائق المحتضرة تنظر إليها وتبتسم سعيدة، ثم تختفى الفراشة لتظهر فى اليوم الثانى وفى الموعد نفسه، ولكن هذه الفراشة سرعان ما تختفى بعد موت الجسد، كما لو كانت ملاكا من السماء جاء ليرعى الزوجة المريضة، ويكون فى وداعها عندما ترحل عن الدنيا. هذا ما حدث مع زوجة السائق ولم نر هذه الفراشة إلا عندما تفارق "ريم" الحياة، فيلمح الزوج المكلوم الفراشة نفسها، وهى تحلق بعيدا عن "ريم". وهناك أيضا "الهدهد" الذى يرفرف فى الرواية وتتردد أصداؤه عبر السماوات الحزينة كما لو كان يحمل رسالة لأهل المريض الذى على أهبة الرحيل. والهدهد يرتبط دائما برمزية الرسائل التى تأتى من الآلهة أو من الأنبياء، وكلنا يذكر "هدهد سليمان" ودلالاته الرمزية التى تتجلى فى رواية إبراهيم عبد المجيد، حيث يبدو ظهور الهدهد المتكرر كما لو كان رسالة قادمة من السماء إلى البشر، ولكن البشر لا يحسنون قراءة الرسائل التى تأتيهم من السماء فلا يبقى لهم سوى قراءة الموت الذى سرعان ما يتجسد دالا فى الفضاء المحيط بالڤيلا فى مشهدها الأخير، حيث يزداد طين الأرض، وتتكاثر الشقوق فى الجدران من الخلف، وتتسع الشقوق فى أسوار الڤيلا. ويتساقط كل شىء حول "سامر الدرينى" وهو ينتظر عربة سحب المياه من تحت الڤيلا، قبيل انتظاره عربة نقل الموتى التى تحمل ريم إلى مثواها الأخير. أضف إلى ذلك السحب السوداء المنذرة بالمطر، فيقول "سامر" لنفسه: "ما الذى تفعله يا "سامر"؟ لِمَ توقف القدر الذى يحاصرك بالذهاب فى كل وقت ومكان، الأفضل أن تطل على "ريم" "الطلة الأخيرة". ويطل بالفعل على "ريم" ويؤدى مراسم وداعها الأخير ويجلس صامتا أمام الڤيلا منتظرا سيارة نقل الموتى، فيرى فجأة مجموعة كبيرة من العصافير تطير فوق الأرض محلقة فى الفضاء، فيبتسم، كيف لم ير هذه العصافير حقا؟! وتأتى عربة نقل الموتى ومعها عدد من عازفى الأوبرا لكى يعزفوا ل "ريم" الأداچيو التى كانت تحبه لكى يكون أداچيو الوداع. ويرى هو فراشة تحوم فوق وجه "ريم" كأنها آخر رسالة تأتى إليه من صاحب الملكوت، وليس بعد ذلك سوى الموت، فتموت "ريم" بين يديه وتصل ابنته عائدة لتكون فى وداع أمها فى اليوم الخامس عشر الذى نطقت فيه "ريم" ثم عاودت دخولها إلى الغياب. وفى لحظة الموت نفسها، يدخل غرفة "ريم" فيقف مذهولا: "هذه هى الفراشات تطير فوق وجهها. ليست فراشة واحدة كما رأى أمس. فراشات بيضاء تدور ولا تتوقف". ويودع زوجه التى تصعد روحها إلى السماء كالفراشات التى كانت ترفرف حولها. وينزل الجثمان إلى العربة فيؤدى أعضاء الفرقة الموسيقية الستة الذين جاءوا يعزونه فى وفاة زميلتهم، حبيبتهم كما قالوا، نغمات "أداچيو ألبينونى" كأنهم يعرفون ما تحبه زميلتهم، وكأنها تنتظر منهم أن يعزفوا لها "أداچيو ألبينونى" دون غيره. وتحمل العربة النعش وتتبعها سيارة "سامر" الذى قرر أن يقودها "عثمان" صديقه سائق التاكسى ومعهما "نور". ويرى "عثمان" الفراشات تطير قليلا خلف العربة التى تحمل الجثمان إلى أن ابتعدت العربة، فتفرقت الفراشات فى الفضاء. ويأتى مشهد النهاية باستماعهم إلى صوت انفجار بسيط ثم صوت آخر أقوى وأشد، ويكتشف أن الڤيلا تسقط مهدمة، فيقول "عثمان" باكيا وهو يقود السيارة: "حتى الجماد يا ربى لم تعد به رغبة فى البقاء بعد أن فارقته صاحبته". ولم يعد أحد يسمع صوت نغمات الأوتار، وهى تعزف على الكمان أداچيو الوداع. لمزيد من مقالات جابر عصفور