مؤتمر مستقبل وطن | الفنان أحمد فؤاد سليم: "الرئيس بيثق فينا ولازم نكون قد الثقة"    البورصة تطلق مؤشرا جديدا للأسهم منخفضة التقلبات السعرية الشهر المقبل    شباب العمال يدين دعوات حصار السفارات: تضعف من موقف الدول الداعمة للقضية    بريطانيا: سنعترف بدولة فلسطين في سبتمبر إذا لم تُنه إسرائيل حربها على غزة    بالتوفيق في جنوب أفريقيا.. موقف طريف بين كول بالمر وجواو فيليكس    مران الزمالك - عودة صلاح مصدق.. وبنتايك يواصل التأهيل    أنغام تستأصل"كيس حميد" من البنكرياس.. محمود سعد يكشف تطورات الحالة الصحية    أمين الفتوى: الشبكة ليست هدية بل جزء من المهر يرد فى هذه الحالة    أمين الفتوى: تأخير الصلاة عن وقتها دون عذر ذنب يستوجب التوبة والقضاء    ما حدود تدخل الأهل في اختيار شريك الحياة؟.. أمين الفتوى يجيب    التريند الحقيقي.. تحفيظ القرآن الكريم للطلاب بالمجان في كفر الشيخ (فيديو وصور)    خالد الجندي: الذكاء الاصطناعي لا يصلح لإصدار الفتاوى ويفتقر لتقييم المواقف    الغزو الصينى قادم لا محالة.. عن قطاع السيارات أتحدث    من أجل قيد الصفقة الجديدة.. الزمالك يستقر على إعارة محترفه (خاص)    بدء انتخابات التجديد النصفى على عضوية مجلس نقابة المهن الموسيقية    إكسترا نيوز ترصد تفاصيل وصول مساعدات مصرية إلى غزة ضمن قافلة "زاد العزة"    لطلاب مدارس STEM.. تعرف على جدول امتحانات الدور الثاني للثانوية العامة 2025    حريق بمركز للطب النفسي في الأقصر بدون معرفة الأسباب.. صورة    جدول امتحانات الثانوية العامة 2025 الدور الثاني (نظام قديم)    ضخ المياه بعد انتهاء إصلاح كسر خط رئيسى فى المنصورة    وزير الدفاع يلتقي رئيس هيئة الأركان المشتركة الباكستانية - تفاصيل المناقشات    الحوثيون يحتجزون 10 أفراد من طاقم سفينة أغرقوها قبالة سواحل اليمن كانت متجهة لميناء إيلات    هآرتس تهاجم نتنياهو: ماكرون أصاب الهدف وإسرائيل ستجد نفسها في عزلة دولية    المشدد للمتهم بطعن طالب في الرقبة بالشرابية    تجديد حبس 12 متهما في مشاجرة بسبب شقة بالسلام    وزير العمل: مدرسة السويدي للتكنولوجيا تمثل تجربة فريدة وناجحة    حتى لا تسقط حكومته.. كيف استغل نتنياهو عطلة الكنيست لتمرير قرارات غزة؟    38 قتيلا حصيلة ضحايا الأمطار الغزيرة والفيضانات العارمة فى الصين    النقابات العمالية تدشن لجنة الانتقال العادل لمواجهة التحول الرقمي    "الطفولة والأمومة": مبادرة جديدة لمناهضة العنف ضد الأطفال    نقابة الموسيقيين تكشف تفاصيل التحقيق مع محمود الليثي ورضا البحراوي |خاص    من عبق الحضارة إلى إبداع المستقبل| فعاليات تبهر الأطفال في «القومي للحضارة»    أحمد التهامي يكشف كواليس العمل مع عادل إمام ويشاركنا رحلته الفنية|خاص    وزير العمل ومحافظ الإسكندرية يفتتحان ندوة للتوعية بمواد قانون العمل الجديد    خاص.. الزمالك يفتح الباب أمام رحيل حارسه لنادي بيراميدز    "ياعم حرام عليك".. تعليق ناري من شوبير على زيارة صلاح للمعبد البوذي    وزارة الأوقاف تعقد (684) ندوة علمية بعنوان: "خيرُكم خيرُكم لأهله وأنا خيرُكم لأهلي"    أمين الفتوى: مخالفات المرور الجسيمة إثم شرعي وليست مجرد تجاوز قانوني    وزير الصحة يشهد توقيع مذكرة تفاهم بين وزارة الصحة وشركة روش مصر لتطوير رعاية مرضى التصلب المتعدد    لماذا يتصدر الليمون قائمة الفاكهة الأكثر صحة عالميا؟    ماء المخلل.. هل هو مفيد؟    الأمراض المتوطنة.. مذكرة تفاهم بين معهد تيودور بلهارس وجامعة ووهان الصينية    انتخابات مجلس الشيوخ 2025.. 8 محظورات خلال فترة الصمت الانتخابي    جولة مفاجئة لمحافظ الدقهلية للوقوف على أعمال تطوير شارع الجلاء بالمنصورة    «بيفكروا كتير بعد نصف الليل».. 5 أبراج بتحب السهر ليلًا    مقتل وإصابة خمسة أشخاص في إطلاق نار بولاية نيفادا الأمريكية    منال عوض: تمويل 16 مشروعا للتنمية بمصر ب500 مليون دولار    رئيس الوزراء يستعرض خطة إحياء واستدامة الحرف اليدوية حتى 2030    «الإسعاف»: نقل أكثر من 4 آلاف طفل مبتسر على أجهزة تنفس صناعي خلال النصف الأول من 2025    أُسدل الستار.. حُكم نهائي في نزاع قضائي طويل بين الأهلي وعبدالله السعيد    الخارجية الفلسطينية: الضم التدريجي لقطاع غزة مقدمة لتهجير شعبنا    أسعار الأسماك اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025 في شمال سيناء    معيط: دمج مراجعتي صندوق النقد يمنح مصر وقتًا أوسع لتنفيذ الإصلاحات    الكهرباء: الانتهاء من الأعمال بمحطة جزيرة الذهب مساء اليوم    خالد الغندور يكشف مفاجأة سارة بشأن بطولة دوري أبطال أفريقيا    موعد مرتبات شهر أغسطس.. جدول زيادة الأجور للمعلمين (توقيت صرف المتأخرات)    «هنلعب باللعيبة الصغيرة».. نصر أبوالحسن يصدم جماهير الإسماعيلي بشأن الصفقات الصيفية    السيطرة على حريق بمولد كهرباء بقرية الثمانين في الوادي الجديد وتوفير البديل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«أداجيو» لإبراهيم عبد المجيد تدوّن زمن المراثي المصرية
نشر في صوت البلد يوم 26 - 05 - 2016

أن يكتب إبراهيم عبد المجيد عن خراب الروح، فإنه يعني الكتابة عن خراب الأمكنة، تلك التي تخص وجودنا، وتخص ظاهراتية ما تمثله من إحالات للثقافي والنفسي.
هذا الخراب يتحول إلى فضاء للعلامات، يستدعي الكثير من الأفكار التي تخص الصراع الداخلي، والصراع من مظاهر العنف والقهر، بدءا من عنف السلطة إلى عنف التاريخ، وانتهاء بعنف المرض والموت..
رواية «أداجيو» للكاتب إبراهيم عبد المجيد الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية/ القاهرة تضعنا أمام حدث واقعي، لكنه يتشظى إلى أحداث نفسية، وإلى صراعات تنطوي على تفجرات داخلية تحيل إلى الواقع والذات والتاريخ والمكان والذاكرة والوجود..
فكرة الحدث المهيمن تقوم على وحدات سردية متقابلة، تتمثلها الشيفرة الإيحائية ل»أداجيو» الموسيقية، بوصفها نوعا من السينوغرافيا الإيحائية التي تُحيل إلى أجواء الرواية الحزينة، ويوميات شخصياتها الرئيسية والساندة، مثلما تتمثلها شيفرة المكان الباعثة على تخليق رؤاها السردية، فهو مكان للعزلة، والتطهير، الذي يُحيل أيضا إلى توصيف معين للحدث ولتلك الشخصيات، وللكشف عن الطبيعة الصراعية التي ستؤطر الثيمة الرئيسية للرواية، على مستوى علاقة سامر تاجر التحف ورجل الأعمال المعروف بزوجته ريم العازفة المميزة في الفرقة السيمفونية، أو على مستوى الصراع بين سامر وذاته، من خلال منولوجاته المسكونة بهواجس الاستعادة والوفاء والذاكرة..
لا تمتثل الرواية لتقديم توصيف عن شواهد تاريخية معينة، أو حتى لتوصيف سياسي مباشر، بقدر ما تنحاز أكثر لتقديم مرثاة وشجنٍ إنسانيٍ عميق، قد تخصّ أي إنسان يحسّ بآسى الفقد والخذلان، فهي تلامس وجع الروح والجسد، وتلامس ما يحيطه من تحولات مفارقة قد تكون المحنة الوجودية والسياسية بعض إرهاصاتها، فالشخصية الرئيسية تبدو مسكونة بهاجس تعبيري داخلي، أكثر من أيٍّ بُعدٍ سيميائي آخر، وحتى المكان الطبقي/العجمي يفقد الكثير من بريقه ليبدو متسقا مع محنة الشخصية، إذ هو مكان شاحب مهجور ومحاط بالمياه الجوفية المجارير، وبدوريات الشرطة، وهذا ما يجعل سياق الأحداث ينسج لمتنه الروائي إيقاعا سرديا يتناظر فيه الإيقاع البطيء للموسيقى الراثية، ومع إيقاع الشخصيات التي تتحرك ببطء هي الأخرى، وكأن التناظر ما بين الشخصيات والمكان والموسيقى يتحول إلى بناء مشهدي تتبدى من خلاله أزمة الشخصية وصراعها الداخلي، وكذلك أزمة المكان الذي تتقشر مظاهره الطبقية ليبدو عاريا، قلقا، مُهددا بالغرق الواقعي والغرق الرمزي، وحتى شيفرة الموت في نهاية الرواية تكشف هي الأخرى عن الموت الرمزي لنمط طبقي مصري معروف، وعن خطورة التهميش والتجريف اللذين باتا يطالان رمزية المكان المصري ويصنعان الكثير من مراثيه..
تبدو الرواية وكأنها (رواية شخصية) فهي تنهض على أنموذج البطلة (ريم)، وعلى علائق الأحداث كلها بحضور هذه البطلة أو غيابها، وحتى الراوي كلي العلم يعمد عبر تشييده أحداث الرواية إلى إعطاء هذه الشخصية بعدا سيميائيا، فهي صورة للشخصية المثقفة التي تواجه رحلة الموت، بما يجعل غيابها في هذه الرحلة إيقاظا للمضمر النفسي في شخصية البطل الآخر (سامر)، حيث تتحول هذه المسافة (الغياب- الموت) إلى مجال للاعتراف، وإلى مواجهة ملتبسة لمشاعر الإحباط بالفقد والغياب، عبر استعادة الكثير من الذكريات التي تجعل البطل وكأنه مروي له من الماضي، أو بما يجعله أكثر تماهيا مع لذة امتلاكها، واستعادة صورتها بوصفها مشاعر يشتبك فيها التطهير بالإشباع الرمزي «اقترب منها، ثم انحنى إليها وقبل جبينها الدافئ، لقد فعل ما أحب أن يفعله، خلع عنها جلبابها وما تحته، غير لها «البامبرز» الكبير وأحضر إناء فيه ماء دافئ وراح يمسح ما قد يكون علق بجسدها، عطر جسدها كله الذي صار يتهدل فيه الجلد حاملا اللحم القليل حول ذراعيها وساقيها ورأى نهديها يزدادان ضمورا، لكن أيضا يزدادان ترهلا «.
المكان الروائي له قصدية معينة، فهو يتناغم مع رغبة البطل في العزلة والخلوة بحبيبته الغائبة، مثلما هو الأقرب إلى المكان الحلمي الذي يحاول من خلال استعادة الخلوة بتلك الحبيبة الغائبة عن حضورها الجسدي، كما يضعنا هذا المكان المعزول الموحش أمام امتلاء داخلي للبطل، ولضجيج ما تتفجر به مشاعر رغبته، إذ يعمد الروائي عبر هذه الترسيمة إلى تفكيك رمزية المكان/ الملاذ، فهو يضع الفقد علامة لموت وجوده، مثلما يضع خيانته مع صديقته (غادة) علامة لتفكك تماسكه الداخلي، فرغم ما يبدو هذا الفعل استيهاما مع جسد حبيبته ريم «لم يعد يعرف أين هو بحق، كل هذا الألم خرج من جسده، في لحظة البداية كاد يتراجع كل شيء فيه، ففكر على الفور أن يتخيلها ريم». إلّا أنه يدرك أن جسد غادة ظل يوهبه إشباعا كان مؤجلا «لكنه تحدى نفسه ورآها هي غادة الجميلة بحق الشهية التي منع نفسه عنها سنوات».
هيمنة فكرة الموت في الرواية تتحول إلى بؤرة لموت وجودي، تتبدى علاماته من خلال ما يقدّمه الروائي من صور متعددة لهذا الموت، فهو شيفرة لرهاب العزلة، ولهجرة الناس عنه، مثلما يكتسب دلالته عبر غرق/ موت الأرض بالمياه الجوفية، وعبر موت أبناء الهداهد، فضلا عن كونه موتا للبطلة الرئيسية (ريم) وهذه الهيمنة تتحول إلى مخاض لتوليد سؤال فلسفي عن الموت، وعن علاقته بالمكان، وبالمعاني التي تخص حياة البطل وعلاقاته بالآخرين، والتي يضعنا الروائي من خلالها أمام تراجيديا متاهة عالمٍ يساكنه الرعب والخوف والموت، والإحساس بالفقد والضياع..
استهلال الرواية بسؤال سائق سيارة الإسعاف – «ألا يوجد هنا سكان»، يؤشر إلى زمن وجودي يغيب عنه الناس، فالتوصيف المكاني يتحول إلى توصيف زماني بدلالة الفقد والغياب، وبدلالة ما يؤشره المسعف بقوله- «ياه، واضح أن السكان طفشوا فعلا منذ زمان». هذا الاستهلال نجده في ختام الرواية أيضا حين يهرب الجميع من الفيلا/ الرمز المكاني للوجود- «انطلق يا عثمان لا تنتظر». وكأن قدر هروب الناس من المكان هو تعبير عن الموت، وأن انهيار الفيلا هو تمثل رمزي لغياب البطلة التي كانت تعيش زمنها الوجودي، إذ يتقابل الغياب مع مظاهر للموت والانهيار والهروب..
الزمن الدائري المحكوم بثنائية (الموت- الموت) يقابل الزمن السردي الذي هو الزمن الذي يرسم تشكلاته الراوي العليم، فتجليات هذا الزمن تتحايث مع أنا الراوي/ السارد، حيث تتكشف عبر تقصياته الكثير من عوالم شخصياته وأزماتها، تلك التي- رغم حضورها الشخصي- لا يمكن فصلها عن الزمن السياسي العام، فبقدر ما تتجوهر به الأحداث حول الزمن الشخصي للبطل- البطلة، إلّا أن تداخل هذا الزمن مع الزمن السياسي يبدو واضحا، وربما يمثل منظورا لتجلية بعض سرائره الصراعية، فالمكان المهجور هو تعبير عن تحول عميق له دلالته في مكان كان مترعا بالحياة، وله شيفراته الدالة على زمن للارستقراطية المصرية، والموت البطيء للبطلة/ المثقفة، ولعزلة البطل/ التاجر/ هو كناية عن عزلة الطبقة البرجوازية وانزوائها بعيد عن زمن التحولات العاصفة في مصر، وحتى هجرة البنت (نور) إلى الخارج لإكمال دراستها لا يمكن عزله عن هجرة الجيل الجديد الذي لم يجد في زمن الوقائع المصرية ملاذا للانشداد للحياة..
أن يكتب إبراهيم عبد المجيد عن خراب الروح، فإنه يعني الكتابة عن خراب الأمكنة، تلك التي تخص وجودنا، وتخص ظاهراتية ما تمثله من إحالات للثقافي والنفسي.
هذا الخراب يتحول إلى فضاء للعلامات، يستدعي الكثير من الأفكار التي تخص الصراع الداخلي، والصراع من مظاهر العنف والقهر، بدءا من عنف السلطة إلى عنف التاريخ، وانتهاء بعنف المرض والموت..
رواية «أداجيو» للكاتب إبراهيم عبد المجيد الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية/ القاهرة تضعنا أمام حدث واقعي، لكنه يتشظى إلى أحداث نفسية، وإلى صراعات تنطوي على تفجرات داخلية تحيل إلى الواقع والذات والتاريخ والمكان والذاكرة والوجود..
فكرة الحدث المهيمن تقوم على وحدات سردية متقابلة، تتمثلها الشيفرة الإيحائية ل»أداجيو» الموسيقية، بوصفها نوعا من السينوغرافيا الإيحائية التي تُحيل إلى أجواء الرواية الحزينة، ويوميات شخصياتها الرئيسية والساندة، مثلما تتمثلها شيفرة المكان الباعثة على تخليق رؤاها السردية، فهو مكان للعزلة، والتطهير، الذي يُحيل أيضا إلى توصيف معين للحدث ولتلك الشخصيات، وللكشف عن الطبيعة الصراعية التي ستؤطر الثيمة الرئيسية للرواية، على مستوى علاقة سامر تاجر التحف ورجل الأعمال المعروف بزوجته ريم العازفة المميزة في الفرقة السيمفونية، أو على مستوى الصراع بين سامر وذاته، من خلال منولوجاته المسكونة بهواجس الاستعادة والوفاء والذاكرة..
لا تمتثل الرواية لتقديم توصيف عن شواهد تاريخية معينة، أو حتى لتوصيف سياسي مباشر، بقدر ما تنحاز أكثر لتقديم مرثاة وشجنٍ إنسانيٍ عميق، قد تخصّ أي إنسان يحسّ بآسى الفقد والخذلان، فهي تلامس وجع الروح والجسد، وتلامس ما يحيطه من تحولات مفارقة قد تكون المحنة الوجودية والسياسية بعض إرهاصاتها، فالشخصية الرئيسية تبدو مسكونة بهاجس تعبيري داخلي، أكثر من أيٍّ بُعدٍ سيميائي آخر، وحتى المكان الطبقي/العجمي يفقد الكثير من بريقه ليبدو متسقا مع محنة الشخصية، إذ هو مكان شاحب مهجور ومحاط بالمياه الجوفية المجارير، وبدوريات الشرطة، وهذا ما يجعل سياق الأحداث ينسج لمتنه الروائي إيقاعا سرديا يتناظر فيه الإيقاع البطيء للموسيقى الراثية، ومع إيقاع الشخصيات التي تتحرك ببطء هي الأخرى، وكأن التناظر ما بين الشخصيات والمكان والموسيقى يتحول إلى بناء مشهدي تتبدى من خلاله أزمة الشخصية وصراعها الداخلي، وكذلك أزمة المكان الذي تتقشر مظاهره الطبقية ليبدو عاريا، قلقا، مُهددا بالغرق الواقعي والغرق الرمزي، وحتى شيفرة الموت في نهاية الرواية تكشف هي الأخرى عن الموت الرمزي لنمط طبقي مصري معروف، وعن خطورة التهميش والتجريف اللذين باتا يطالان رمزية المكان المصري ويصنعان الكثير من مراثيه..
تبدو الرواية وكأنها (رواية شخصية) فهي تنهض على أنموذج البطلة (ريم)، وعلى علائق الأحداث كلها بحضور هذه البطلة أو غيابها، وحتى الراوي كلي العلم يعمد عبر تشييده أحداث الرواية إلى إعطاء هذه الشخصية بعدا سيميائيا، فهي صورة للشخصية المثقفة التي تواجه رحلة الموت، بما يجعل غيابها في هذه الرحلة إيقاظا للمضمر النفسي في شخصية البطل الآخر (سامر)، حيث تتحول هذه المسافة (الغياب- الموت) إلى مجال للاعتراف، وإلى مواجهة ملتبسة لمشاعر الإحباط بالفقد والغياب، عبر استعادة الكثير من الذكريات التي تجعل البطل وكأنه مروي له من الماضي، أو بما يجعله أكثر تماهيا مع لذة امتلاكها، واستعادة صورتها بوصفها مشاعر يشتبك فيها التطهير بالإشباع الرمزي «اقترب منها، ثم انحنى إليها وقبل جبينها الدافئ، لقد فعل ما أحب أن يفعله، خلع عنها جلبابها وما تحته، غير لها «البامبرز» الكبير وأحضر إناء فيه ماء دافئ وراح يمسح ما قد يكون علق بجسدها، عطر جسدها كله الذي صار يتهدل فيه الجلد حاملا اللحم القليل حول ذراعيها وساقيها ورأى نهديها يزدادان ضمورا، لكن أيضا يزدادان ترهلا «.
المكان الروائي له قصدية معينة، فهو يتناغم مع رغبة البطل في العزلة والخلوة بحبيبته الغائبة، مثلما هو الأقرب إلى المكان الحلمي الذي يحاول من خلال استعادة الخلوة بتلك الحبيبة الغائبة عن حضورها الجسدي، كما يضعنا هذا المكان المعزول الموحش أمام امتلاء داخلي للبطل، ولضجيج ما تتفجر به مشاعر رغبته، إذ يعمد الروائي عبر هذه الترسيمة إلى تفكيك رمزية المكان/ الملاذ، فهو يضع الفقد علامة لموت وجوده، مثلما يضع خيانته مع صديقته (غادة) علامة لتفكك تماسكه الداخلي، فرغم ما يبدو هذا الفعل استيهاما مع جسد حبيبته ريم «لم يعد يعرف أين هو بحق، كل هذا الألم خرج من جسده، في لحظة البداية كاد يتراجع كل شيء فيه، ففكر على الفور أن يتخيلها ريم». إلّا أنه يدرك أن جسد غادة ظل يوهبه إشباعا كان مؤجلا «لكنه تحدى نفسه ورآها هي غادة الجميلة بحق الشهية التي منع نفسه عنها سنوات».
هيمنة فكرة الموت في الرواية تتحول إلى بؤرة لموت وجودي، تتبدى علاماته من خلال ما يقدّمه الروائي من صور متعددة لهذا الموت، فهو شيفرة لرهاب العزلة، ولهجرة الناس عنه، مثلما يكتسب دلالته عبر غرق/ موت الأرض بالمياه الجوفية، وعبر موت أبناء الهداهد، فضلا عن كونه موتا للبطلة الرئيسية (ريم) وهذه الهيمنة تتحول إلى مخاض لتوليد سؤال فلسفي عن الموت، وعن علاقته بالمكان، وبالمعاني التي تخص حياة البطل وعلاقاته بالآخرين، والتي يضعنا الروائي من خلالها أمام تراجيديا متاهة عالمٍ يساكنه الرعب والخوف والموت، والإحساس بالفقد والضياع..
استهلال الرواية بسؤال سائق سيارة الإسعاف – «ألا يوجد هنا سكان»، يؤشر إلى زمن وجودي يغيب عنه الناس، فالتوصيف المكاني يتحول إلى توصيف زماني بدلالة الفقد والغياب، وبدلالة ما يؤشره المسعف بقوله- «ياه، واضح أن السكان طفشوا فعلا منذ زمان». هذا الاستهلال نجده في ختام الرواية أيضا حين يهرب الجميع من الفيلا/ الرمز المكاني للوجود- «انطلق يا عثمان لا تنتظر». وكأن قدر هروب الناس من المكان هو تعبير عن الموت، وأن انهيار الفيلا هو تمثل رمزي لغياب البطلة التي كانت تعيش زمنها الوجودي، إذ يتقابل الغياب مع مظاهر للموت والانهيار والهروب..
الزمن الدائري المحكوم بثنائية (الموت- الموت) يقابل الزمن السردي الذي هو الزمن الذي يرسم تشكلاته الراوي العليم، فتجليات هذا الزمن تتحايث مع أنا الراوي/ السارد، حيث تتكشف عبر تقصياته الكثير من عوالم شخصياته وأزماتها، تلك التي- رغم حضورها الشخصي- لا يمكن فصلها عن الزمن السياسي العام، فبقدر ما تتجوهر به الأحداث حول الزمن الشخصي للبطل- البطلة، إلّا أن تداخل هذا الزمن مع الزمن السياسي يبدو واضحا، وربما يمثل منظورا لتجلية بعض سرائره الصراعية، فالمكان المهجور هو تعبير عن تحول عميق له دلالته في مكان كان مترعا بالحياة، وله شيفراته الدالة على زمن للارستقراطية المصرية، والموت البطيء للبطلة/ المثقفة، ولعزلة البطل/ التاجر/ هو كناية عن عزلة الطبقة البرجوازية وانزوائها بعيد عن زمن التحولات العاصفة في مصر، وحتى هجرة البنت (نور) إلى الخارج لإكمال دراستها لا يمكن عزله عن هجرة الجيل الجديد الذي لم يجد في زمن الوقائع المصرية ملاذا للانشداد للحياة..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.