حلم «أخبار اليوم» يتحقق| قرار جمهورى بإنشاء جامعة «نيو إيچيبت»    محمد فريد يشارك في نقاش مع رواد الأعمال حول مستقبل التكنولوجيا المالية    بعد تهديد ال50 يومًا.. ترامب يجبر أوكرانيا على التفاوض مع روسيا    «سانا»: بدء دخول الحافلات إلى السويداء لإخراج العائلات المحتجزة داخل المدينة    محاضرة فنية من فيريرا للاعبي الزمالك    ظهرت الآن.. رابط نتيجة الثانوية العامة 2025 علمي وأدبي كاملة بالدرجات ورقم الجلوس    «مايقدرش يعنفها».. إنجي علاء تدافع عن راغب علامة بعد قرار إيقافه    أحمد سعد يكشف تفاصيل وموعد طرح أغنية «اتحسدنا» من ألبوم «بيستهبل»    أمين الفتوى يحذر من إفشاء الأسرار    3 أطعمة لخفض الكوليسترول يجب إضافتها إلى نظامك الغذائي    استشارى تغذية علاجية يحذر من هذه المشروبات: ليس لها علاقة بالدايت    بالفيديو.. رقص محمد فراج وريهام عبدالغفور من كواليس "كتالوج" وبسنت شوقي تعلق    رئيس مجلس الشيوخ: حاولنا نقل تقاليد العالم القضائي إلى عالم السياسة    اعتماد أولى وحدات مطروح الصحية للتأمين الشامل.. وتكامل حكومي - مجتمعي لرفع جودة الخدمات    أوكرانيا تراهن على الأصول الروسية والدعم الغربي لتأمين الإنفاق الدفاعي في 2026    عروض زمن الفن الجميل في ثاني أسابيع "صيف بلدنا" بالعلمين    أهم أخبار الكويت اليوم.. ضبط شبكة فساد في الجمعيات التعاونية    هل يجوز الوضوء مع ارتداء الخواتم؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    أمين الفتوى: الإيذاء للغير باب خلفي للحرمان من الجنة ولو كان الظاهر عبادة    رئيس اتحاد عمال الجيزة: ثورة 23 يوليو أعادت الكرامة للطبقة العاملة    محافظ شمال سيناء يفتتح "سوق اليوم الواحد" بالعريش لتوفير السلع بأسعار مخفضة    ضبط 4120 قضية سرقة تيار كهربائى خلال 24 ساعة    هل يواجه المستشار الألماني ضغوطا لاتخاذ موقف أكثر صرامة تجاه إسرائيل؟    الجريدة الرسمية تنشر قرارين للرئيس السيسي (تفاصيل)    «انتهت رحلتي».. نجم اتحاد طنجة يوجه رسالة إلى جماهيره قبل الانتقال للزمالك    تير شتيجن يغيب عن جولة برشلونة الآسيوية ويؤجل قرار الجراحة    انطلاق المبادرة الوطنية للتطعيم ضد السعار من الإسماعيلية    وزير قطاع الأعمال يبحث مع هيئة الشراء الموحد التعاون بقطاع الأدوية والمستلزمات الطبية    أدعية لطلاب الثانوية العامة قبل النتيجة من الشيخ أحمد خليل    «لوي دراع».. سيد عبدالحفيظ يهاجم وسام أبو علي بعد فيديو الاعتذار للأهلي    وزيرة التخطيط تلتقي ممثلي شركة ميريديام للاستثمار في البنية التحتية لبحث موقف استثمارات الشركة بقطاع الطاقة المتجددة    نقابة أطباء قنا تحتفل بمقرها الجديد وتكرم رموزها    حملات مكثفة على مخابز الوادي الجديد ومتابعة تطبيق مبادرة حقك بالميزان    البورصة المصرية تخسر 12.5 مليار جنيه في ختام تعاملات الثلاثاء    انتظام محمد السيد في معسكر الزمالك بالعاصمة الإدارية    تنسيق كلية تجارة 2025 علمي وأدبي.. مؤشرات الحد الأدنى للقبول بالجامعات    مصر وفرنسا تبحثان سُبل تعزيز التعاون في مجال الطيران المدني    مصرع دكتور جامعي وإصابة 5 من أسرته في حادث مروع بالمنيا    حملة دعم حفظة القرآن الكريم.. بيت الزكاة والصدقات يصل المنوفية لدعم 5400 طفل من حفظة كتاب الله    فيلم الشاطر ل أمير كرارة يحصد 22.2 مليون جنيه خلال 6 أيام عرض    خاص| دنيا سامي: نفسي أعمل "أكشن كوميدي".. ومبسوطة بنجاح مصطفى غريب    تفاصيل تجربة يوسف معاطي مع الزعيم عادل إمام في الدراما    افتتاح نموذج مصغر للمتحف المصري الكبير بالجامعة الألمانية في برلين (صور)    حملة «100 يوم صحة» قدّمت 8 ملايين خدمة طبية مجانية خلال 6 أيام    طقس السعودية اليوم الثلاثاء 22 يوليو 2025.. أجواء شديدة الحرارة    اجتماع طارئ بجامعة الدول العربية لبحث الوضع الكارثي في غزة    "صندوق دعم الصناعات الريفية" ينظم أولى ورش العمل الاستطلاعية ضمن "حياة كريمة"    نتيجة الثانوية العامة 2025.. بالاسم ورقم الجلوس نتيجة الثانوية العامة بالقليوبية    استخراج جثامين طفلين من الأشقاء المتوفين في دلجا بالمنيا    ضبط شخص لإدارته كيانا تعليميا دون ترخيص للنصب والاحتيال على المواطنين بالجيزة    الخطيب يطمئن على حسن شحاتة في لفتة إنسانية راقية    حقيقة مفاوضات الأهلي مع أحمد حسن كوكا    وزير الخارجية يسلم رسالة خطية من الرئيس السيسي إلى الرئيس النيجيري    العش: معسكر تونس مفيد.. ونتطلع لموسم قوي مع الأهلي    وزير خارجية فرنسا: ما يحدث في غزة فضيحة.. ولا مبرر لعمليات إسرائيل العسكرية    «حرب الجبالي» الحلقة 43 تتصدر التريند.. أسرار تنكشف وصراعات تشتعل    «الداخلية» تعلن شروط قبول دفعة جديدة بكلية الشرطة    من الهند إلى أوروبا.. خطة سرية كبرى بين نتنياهو وترامب لليوم التالي بعد إنهاء الحرب في غزة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«أداجيو» لإبراهيم عبد المجيد تدوّن زمن المراثي المصرية
نشر في صوت البلد يوم 26 - 05 - 2016

أن يكتب إبراهيم عبد المجيد عن خراب الروح، فإنه يعني الكتابة عن خراب الأمكنة، تلك التي تخص وجودنا، وتخص ظاهراتية ما تمثله من إحالات للثقافي والنفسي.
هذا الخراب يتحول إلى فضاء للعلامات، يستدعي الكثير من الأفكار التي تخص الصراع الداخلي، والصراع من مظاهر العنف والقهر، بدءا من عنف السلطة إلى عنف التاريخ، وانتهاء بعنف المرض والموت..
رواية «أداجيو» للكاتب إبراهيم عبد المجيد الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية/ القاهرة تضعنا أمام حدث واقعي، لكنه يتشظى إلى أحداث نفسية، وإلى صراعات تنطوي على تفجرات داخلية تحيل إلى الواقع والذات والتاريخ والمكان والذاكرة والوجود..
فكرة الحدث المهيمن تقوم على وحدات سردية متقابلة، تتمثلها الشيفرة الإيحائية ل»أداجيو» الموسيقية، بوصفها نوعا من السينوغرافيا الإيحائية التي تُحيل إلى أجواء الرواية الحزينة، ويوميات شخصياتها الرئيسية والساندة، مثلما تتمثلها شيفرة المكان الباعثة على تخليق رؤاها السردية، فهو مكان للعزلة، والتطهير، الذي يُحيل أيضا إلى توصيف معين للحدث ولتلك الشخصيات، وللكشف عن الطبيعة الصراعية التي ستؤطر الثيمة الرئيسية للرواية، على مستوى علاقة سامر تاجر التحف ورجل الأعمال المعروف بزوجته ريم العازفة المميزة في الفرقة السيمفونية، أو على مستوى الصراع بين سامر وذاته، من خلال منولوجاته المسكونة بهواجس الاستعادة والوفاء والذاكرة..
لا تمتثل الرواية لتقديم توصيف عن شواهد تاريخية معينة، أو حتى لتوصيف سياسي مباشر، بقدر ما تنحاز أكثر لتقديم مرثاة وشجنٍ إنسانيٍ عميق، قد تخصّ أي إنسان يحسّ بآسى الفقد والخذلان، فهي تلامس وجع الروح والجسد، وتلامس ما يحيطه من تحولات مفارقة قد تكون المحنة الوجودية والسياسية بعض إرهاصاتها، فالشخصية الرئيسية تبدو مسكونة بهاجس تعبيري داخلي، أكثر من أيٍّ بُعدٍ سيميائي آخر، وحتى المكان الطبقي/العجمي يفقد الكثير من بريقه ليبدو متسقا مع محنة الشخصية، إذ هو مكان شاحب مهجور ومحاط بالمياه الجوفية المجارير، وبدوريات الشرطة، وهذا ما يجعل سياق الأحداث ينسج لمتنه الروائي إيقاعا سرديا يتناظر فيه الإيقاع البطيء للموسيقى الراثية، ومع إيقاع الشخصيات التي تتحرك ببطء هي الأخرى، وكأن التناظر ما بين الشخصيات والمكان والموسيقى يتحول إلى بناء مشهدي تتبدى من خلاله أزمة الشخصية وصراعها الداخلي، وكذلك أزمة المكان الذي تتقشر مظاهره الطبقية ليبدو عاريا، قلقا، مُهددا بالغرق الواقعي والغرق الرمزي، وحتى شيفرة الموت في نهاية الرواية تكشف هي الأخرى عن الموت الرمزي لنمط طبقي مصري معروف، وعن خطورة التهميش والتجريف اللذين باتا يطالان رمزية المكان المصري ويصنعان الكثير من مراثيه..
تبدو الرواية وكأنها (رواية شخصية) فهي تنهض على أنموذج البطلة (ريم)، وعلى علائق الأحداث كلها بحضور هذه البطلة أو غيابها، وحتى الراوي كلي العلم يعمد عبر تشييده أحداث الرواية إلى إعطاء هذه الشخصية بعدا سيميائيا، فهي صورة للشخصية المثقفة التي تواجه رحلة الموت، بما يجعل غيابها في هذه الرحلة إيقاظا للمضمر النفسي في شخصية البطل الآخر (سامر)، حيث تتحول هذه المسافة (الغياب- الموت) إلى مجال للاعتراف، وإلى مواجهة ملتبسة لمشاعر الإحباط بالفقد والغياب، عبر استعادة الكثير من الذكريات التي تجعل البطل وكأنه مروي له من الماضي، أو بما يجعله أكثر تماهيا مع لذة امتلاكها، واستعادة صورتها بوصفها مشاعر يشتبك فيها التطهير بالإشباع الرمزي «اقترب منها، ثم انحنى إليها وقبل جبينها الدافئ، لقد فعل ما أحب أن يفعله، خلع عنها جلبابها وما تحته، غير لها «البامبرز» الكبير وأحضر إناء فيه ماء دافئ وراح يمسح ما قد يكون علق بجسدها، عطر جسدها كله الذي صار يتهدل فيه الجلد حاملا اللحم القليل حول ذراعيها وساقيها ورأى نهديها يزدادان ضمورا، لكن أيضا يزدادان ترهلا «.
المكان الروائي له قصدية معينة، فهو يتناغم مع رغبة البطل في العزلة والخلوة بحبيبته الغائبة، مثلما هو الأقرب إلى المكان الحلمي الذي يحاول من خلال استعادة الخلوة بتلك الحبيبة الغائبة عن حضورها الجسدي، كما يضعنا هذا المكان المعزول الموحش أمام امتلاء داخلي للبطل، ولضجيج ما تتفجر به مشاعر رغبته، إذ يعمد الروائي عبر هذه الترسيمة إلى تفكيك رمزية المكان/ الملاذ، فهو يضع الفقد علامة لموت وجوده، مثلما يضع خيانته مع صديقته (غادة) علامة لتفكك تماسكه الداخلي، فرغم ما يبدو هذا الفعل استيهاما مع جسد حبيبته ريم «لم يعد يعرف أين هو بحق، كل هذا الألم خرج من جسده، في لحظة البداية كاد يتراجع كل شيء فيه، ففكر على الفور أن يتخيلها ريم». إلّا أنه يدرك أن جسد غادة ظل يوهبه إشباعا كان مؤجلا «لكنه تحدى نفسه ورآها هي غادة الجميلة بحق الشهية التي منع نفسه عنها سنوات».
هيمنة فكرة الموت في الرواية تتحول إلى بؤرة لموت وجودي، تتبدى علاماته من خلال ما يقدّمه الروائي من صور متعددة لهذا الموت، فهو شيفرة لرهاب العزلة، ولهجرة الناس عنه، مثلما يكتسب دلالته عبر غرق/ موت الأرض بالمياه الجوفية، وعبر موت أبناء الهداهد، فضلا عن كونه موتا للبطلة الرئيسية (ريم) وهذه الهيمنة تتحول إلى مخاض لتوليد سؤال فلسفي عن الموت، وعن علاقته بالمكان، وبالمعاني التي تخص حياة البطل وعلاقاته بالآخرين، والتي يضعنا الروائي من خلالها أمام تراجيديا متاهة عالمٍ يساكنه الرعب والخوف والموت، والإحساس بالفقد والضياع..
استهلال الرواية بسؤال سائق سيارة الإسعاف – «ألا يوجد هنا سكان»، يؤشر إلى زمن وجودي يغيب عنه الناس، فالتوصيف المكاني يتحول إلى توصيف زماني بدلالة الفقد والغياب، وبدلالة ما يؤشره المسعف بقوله- «ياه، واضح أن السكان طفشوا فعلا منذ زمان». هذا الاستهلال نجده في ختام الرواية أيضا حين يهرب الجميع من الفيلا/ الرمز المكاني للوجود- «انطلق يا عثمان لا تنتظر». وكأن قدر هروب الناس من المكان هو تعبير عن الموت، وأن انهيار الفيلا هو تمثل رمزي لغياب البطلة التي كانت تعيش زمنها الوجودي، إذ يتقابل الغياب مع مظاهر للموت والانهيار والهروب..
الزمن الدائري المحكوم بثنائية (الموت- الموت) يقابل الزمن السردي الذي هو الزمن الذي يرسم تشكلاته الراوي العليم، فتجليات هذا الزمن تتحايث مع أنا الراوي/ السارد، حيث تتكشف عبر تقصياته الكثير من عوالم شخصياته وأزماتها، تلك التي- رغم حضورها الشخصي- لا يمكن فصلها عن الزمن السياسي العام، فبقدر ما تتجوهر به الأحداث حول الزمن الشخصي للبطل- البطلة، إلّا أن تداخل هذا الزمن مع الزمن السياسي يبدو واضحا، وربما يمثل منظورا لتجلية بعض سرائره الصراعية، فالمكان المهجور هو تعبير عن تحول عميق له دلالته في مكان كان مترعا بالحياة، وله شيفراته الدالة على زمن للارستقراطية المصرية، والموت البطيء للبطلة/ المثقفة، ولعزلة البطل/ التاجر/ هو كناية عن عزلة الطبقة البرجوازية وانزوائها بعيد عن زمن التحولات العاصفة في مصر، وحتى هجرة البنت (نور) إلى الخارج لإكمال دراستها لا يمكن عزله عن هجرة الجيل الجديد الذي لم يجد في زمن الوقائع المصرية ملاذا للانشداد للحياة..
أن يكتب إبراهيم عبد المجيد عن خراب الروح، فإنه يعني الكتابة عن خراب الأمكنة، تلك التي تخص وجودنا، وتخص ظاهراتية ما تمثله من إحالات للثقافي والنفسي.
هذا الخراب يتحول إلى فضاء للعلامات، يستدعي الكثير من الأفكار التي تخص الصراع الداخلي، والصراع من مظاهر العنف والقهر، بدءا من عنف السلطة إلى عنف التاريخ، وانتهاء بعنف المرض والموت..
رواية «أداجيو» للكاتب إبراهيم عبد المجيد الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية/ القاهرة تضعنا أمام حدث واقعي، لكنه يتشظى إلى أحداث نفسية، وإلى صراعات تنطوي على تفجرات داخلية تحيل إلى الواقع والذات والتاريخ والمكان والذاكرة والوجود..
فكرة الحدث المهيمن تقوم على وحدات سردية متقابلة، تتمثلها الشيفرة الإيحائية ل»أداجيو» الموسيقية، بوصفها نوعا من السينوغرافيا الإيحائية التي تُحيل إلى أجواء الرواية الحزينة، ويوميات شخصياتها الرئيسية والساندة، مثلما تتمثلها شيفرة المكان الباعثة على تخليق رؤاها السردية، فهو مكان للعزلة، والتطهير، الذي يُحيل أيضا إلى توصيف معين للحدث ولتلك الشخصيات، وللكشف عن الطبيعة الصراعية التي ستؤطر الثيمة الرئيسية للرواية، على مستوى علاقة سامر تاجر التحف ورجل الأعمال المعروف بزوجته ريم العازفة المميزة في الفرقة السيمفونية، أو على مستوى الصراع بين سامر وذاته، من خلال منولوجاته المسكونة بهواجس الاستعادة والوفاء والذاكرة..
لا تمتثل الرواية لتقديم توصيف عن شواهد تاريخية معينة، أو حتى لتوصيف سياسي مباشر، بقدر ما تنحاز أكثر لتقديم مرثاة وشجنٍ إنسانيٍ عميق، قد تخصّ أي إنسان يحسّ بآسى الفقد والخذلان، فهي تلامس وجع الروح والجسد، وتلامس ما يحيطه من تحولات مفارقة قد تكون المحنة الوجودية والسياسية بعض إرهاصاتها، فالشخصية الرئيسية تبدو مسكونة بهاجس تعبيري داخلي، أكثر من أيٍّ بُعدٍ سيميائي آخر، وحتى المكان الطبقي/العجمي يفقد الكثير من بريقه ليبدو متسقا مع محنة الشخصية، إذ هو مكان شاحب مهجور ومحاط بالمياه الجوفية المجارير، وبدوريات الشرطة، وهذا ما يجعل سياق الأحداث ينسج لمتنه الروائي إيقاعا سرديا يتناظر فيه الإيقاع البطيء للموسيقى الراثية، ومع إيقاع الشخصيات التي تتحرك ببطء هي الأخرى، وكأن التناظر ما بين الشخصيات والمكان والموسيقى يتحول إلى بناء مشهدي تتبدى من خلاله أزمة الشخصية وصراعها الداخلي، وكذلك أزمة المكان الذي تتقشر مظاهره الطبقية ليبدو عاريا، قلقا، مُهددا بالغرق الواقعي والغرق الرمزي، وحتى شيفرة الموت في نهاية الرواية تكشف هي الأخرى عن الموت الرمزي لنمط طبقي مصري معروف، وعن خطورة التهميش والتجريف اللذين باتا يطالان رمزية المكان المصري ويصنعان الكثير من مراثيه..
تبدو الرواية وكأنها (رواية شخصية) فهي تنهض على أنموذج البطلة (ريم)، وعلى علائق الأحداث كلها بحضور هذه البطلة أو غيابها، وحتى الراوي كلي العلم يعمد عبر تشييده أحداث الرواية إلى إعطاء هذه الشخصية بعدا سيميائيا، فهي صورة للشخصية المثقفة التي تواجه رحلة الموت، بما يجعل غيابها في هذه الرحلة إيقاظا للمضمر النفسي في شخصية البطل الآخر (سامر)، حيث تتحول هذه المسافة (الغياب- الموت) إلى مجال للاعتراف، وإلى مواجهة ملتبسة لمشاعر الإحباط بالفقد والغياب، عبر استعادة الكثير من الذكريات التي تجعل البطل وكأنه مروي له من الماضي، أو بما يجعله أكثر تماهيا مع لذة امتلاكها، واستعادة صورتها بوصفها مشاعر يشتبك فيها التطهير بالإشباع الرمزي «اقترب منها، ثم انحنى إليها وقبل جبينها الدافئ، لقد فعل ما أحب أن يفعله، خلع عنها جلبابها وما تحته، غير لها «البامبرز» الكبير وأحضر إناء فيه ماء دافئ وراح يمسح ما قد يكون علق بجسدها، عطر جسدها كله الذي صار يتهدل فيه الجلد حاملا اللحم القليل حول ذراعيها وساقيها ورأى نهديها يزدادان ضمورا، لكن أيضا يزدادان ترهلا «.
المكان الروائي له قصدية معينة، فهو يتناغم مع رغبة البطل في العزلة والخلوة بحبيبته الغائبة، مثلما هو الأقرب إلى المكان الحلمي الذي يحاول من خلال استعادة الخلوة بتلك الحبيبة الغائبة عن حضورها الجسدي، كما يضعنا هذا المكان المعزول الموحش أمام امتلاء داخلي للبطل، ولضجيج ما تتفجر به مشاعر رغبته، إذ يعمد الروائي عبر هذه الترسيمة إلى تفكيك رمزية المكان/ الملاذ، فهو يضع الفقد علامة لموت وجوده، مثلما يضع خيانته مع صديقته (غادة) علامة لتفكك تماسكه الداخلي، فرغم ما يبدو هذا الفعل استيهاما مع جسد حبيبته ريم «لم يعد يعرف أين هو بحق، كل هذا الألم خرج من جسده، في لحظة البداية كاد يتراجع كل شيء فيه، ففكر على الفور أن يتخيلها ريم». إلّا أنه يدرك أن جسد غادة ظل يوهبه إشباعا كان مؤجلا «لكنه تحدى نفسه ورآها هي غادة الجميلة بحق الشهية التي منع نفسه عنها سنوات».
هيمنة فكرة الموت في الرواية تتحول إلى بؤرة لموت وجودي، تتبدى علاماته من خلال ما يقدّمه الروائي من صور متعددة لهذا الموت، فهو شيفرة لرهاب العزلة، ولهجرة الناس عنه، مثلما يكتسب دلالته عبر غرق/ موت الأرض بالمياه الجوفية، وعبر موت أبناء الهداهد، فضلا عن كونه موتا للبطلة الرئيسية (ريم) وهذه الهيمنة تتحول إلى مخاض لتوليد سؤال فلسفي عن الموت، وعن علاقته بالمكان، وبالمعاني التي تخص حياة البطل وعلاقاته بالآخرين، والتي يضعنا الروائي من خلالها أمام تراجيديا متاهة عالمٍ يساكنه الرعب والخوف والموت، والإحساس بالفقد والضياع..
استهلال الرواية بسؤال سائق سيارة الإسعاف – «ألا يوجد هنا سكان»، يؤشر إلى زمن وجودي يغيب عنه الناس، فالتوصيف المكاني يتحول إلى توصيف زماني بدلالة الفقد والغياب، وبدلالة ما يؤشره المسعف بقوله- «ياه، واضح أن السكان طفشوا فعلا منذ زمان». هذا الاستهلال نجده في ختام الرواية أيضا حين يهرب الجميع من الفيلا/ الرمز المكاني للوجود- «انطلق يا عثمان لا تنتظر». وكأن قدر هروب الناس من المكان هو تعبير عن الموت، وأن انهيار الفيلا هو تمثل رمزي لغياب البطلة التي كانت تعيش زمنها الوجودي، إذ يتقابل الغياب مع مظاهر للموت والانهيار والهروب..
الزمن الدائري المحكوم بثنائية (الموت- الموت) يقابل الزمن السردي الذي هو الزمن الذي يرسم تشكلاته الراوي العليم، فتجليات هذا الزمن تتحايث مع أنا الراوي/ السارد، حيث تتكشف عبر تقصياته الكثير من عوالم شخصياته وأزماتها، تلك التي- رغم حضورها الشخصي- لا يمكن فصلها عن الزمن السياسي العام، فبقدر ما تتجوهر به الأحداث حول الزمن الشخصي للبطل- البطلة، إلّا أن تداخل هذا الزمن مع الزمن السياسي يبدو واضحا، وربما يمثل منظورا لتجلية بعض سرائره الصراعية، فالمكان المهجور هو تعبير عن تحول عميق له دلالته في مكان كان مترعا بالحياة، وله شيفراته الدالة على زمن للارستقراطية المصرية، والموت البطيء للبطلة/ المثقفة، ولعزلة البطل/ التاجر/ هو كناية عن عزلة الطبقة البرجوازية وانزوائها بعيد عن زمن التحولات العاصفة في مصر، وحتى هجرة البنت (نور) إلى الخارج لإكمال دراستها لا يمكن عزله عن هجرة الجيل الجديد الذي لم يجد في زمن الوقائع المصرية ملاذا للانشداد للحياة..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.