تبدو فلسفة نظام الحكم اليوم واضحةً ومعلنة. تقوم هذه الفلسفة على ترتيب للأولويات تتقدم فيه قضايا التنمية وإطلاق المشروعات الكبرى والأمن على قضايا الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان. جاء أحدث تعبير عن هذه الفلسفة من خلال طرح مقولةٍ مفادها أن الأولوية في ظل الظروف الحالية للمجتمع المصري يجب أن تكون للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مثل الحق في الغذاء والحق في العمل والحق في السكن.. والصحة والتعليم إلى آخر ما هنالك في هذا المجال. وان منظومة حقوق الإنسان لا يجب اختزالها فقط في حقوقه السياسية مثل حريات الرأي والتعبير. يُحسب لهذه الفلسفة صراحتها وواقعيتها بقدر ما يؤخذ عليها تجاهلها لحقائق العصر وعدم وضوحها الداخلي. الصريح والواقعي في هذه الفلسفة أنها تعبر عن حقيقتين سوسيولوجية وأمنية. الحقيقة السوسيولوجيّة مؤداها أن المصريين في أكثريتهم يعانون من الفقر والبطالة وارتفاع الأسعار وتدني مرافق التعليم والصحة بأكثر مما يحتاجون إلى ممارسة حريات الرأي والتعبير، بل وبأكثر مما يحتاجون إلى الديموقراطية نفسها وفقاً لرؤية البعض. تتأكد هذه الحقيقة (المُرّة ) حين نتأمل كيف أن قطاعاً شعبياً واسعاً من الذين صنعوا ثورة 25 يناير قد ارتدوا عليها ولم يعودوا مكترثين بمطالبها السياسية. أما الحقيقة الأمنية فتعبر عن احتياج المجتمع إلى الانضباط بعد أن عانى الناس من ظواهر الفوضى والبلطجة والانفلات الأمني التي أعقبت ثورة يناير بصرف النظر عن التساؤلات التي أحاطت بهذه الظواهر والأجزاء الطافية والمغمورة فيها. أصبحت قضية الأمن ركيزةً في فلسفة نظام الحكم لا سيما في ظل المخاوف من أن تنتقل إلى مصر شرر الاضطرابات والصراعات الأهلية المتطايرة في سوريا والعراق وألسنة النار التي أمسكت باليمن وليبيا ثم ظهور التنظيمات الإرهابية الدموية مثل داعش وغيرها ووصولها إلى سيناء. في ظل هذا الواقع تبلورت رؤية أمنية لم تعد تنظر باطمئنان إلى قضية الحريات العامة بمتطلباتها المعروفة من إتاحة حرية الصحافة وحقوق التظاهر والتجمع السلمي وحريات العمل النقابي والأهلي. نحن إذن أمام فلسفة للحكم تتبنى نموذج الدولة التنموية السلطوية باعتبار التنمية والأمن ركيزتين وأولويتين يجب استيفاؤهما أولاً قبل الانتقال إلى مرحلة أخرى. نقل هذا التشخيص من المستوى المؤسسي إلى مستوى الفرد لا يعني أكثر من العودة إلى فكرة "المستبد العادل" التي عرفها تاريخ العالم قديمه وحديثه ، والتي عرفتها مصر على نحو ما في الحقبة الناصرية. الأمثلة المعاصرة خلال الخمسين عاماً الأخيرة لا تخلو من نموذج الدولة التنموية السلطوية كما في الصين، وإيران، وسنغافورة على نحو ما في حقبة مؤسسها الأول "لي كوان". ما يجمع بين هذه الدول برغم ما يوجد بينها من فوارق وخصوصيات هو إرادة الطموح الوطني، والانجاز الاقتصادي والتكنولوجي، والقدرة على التماسك الداخلي وتفادي تأثيرات عولمة الديمقراطية وحقوق الإنسان (خصوصاً في حالتي الصينوإيران). نجح نموذج الدولة التنموية السلطوية أولاً في استنهاض دول تبدو اليوم قوية اقتصادياً ومتقدمة تكنولوجياً (الصين وسنغافورة) أو ناهضة مثل إيران خصوصاً في ظل حصار غربي ضُرب عليها طويلا. ونجح هذا النموذج ثانياً في تعظيم الدور السياسي العالمي للصين والإقليمي لإيران. ونجح النموذج ثالثاً في الحفاظ على كيان الدولة وجغرافيتها السياسية من أعاصير العولمة فعبرت الصين أحداث ميدان السلام السماوي في عام 1988 ونجحت إيران في تجاوز فترات حرجة حاول الغرب فيها تصدير بعض القلاقل والاضطرابات إليها. لكن هذا لا ينفي أن قضية الحريات العامة وحقوق الإنسان في مثل هذه الدول ما زالت تمثل أرقاً وسؤالاً مكتوماً سيتوجب عليها مواجهته غداً أو بعد غد. السؤال الصعب والدقيق في الحالة المصرية هو ما إذا كانت فلسفة الدولة التنموية السلطوية قادرة على العبور بمصر إلى بر الأمان والنجاح في تقديم نموذج مصري وسط منطقة تلفها الاضطرابات والأعاصير؟ ربما يبدو مفيداً في الإجابة على هذا السؤال استدعاء التجربة الناصرية التي يعتبرها البعض شبيهة بتجربة نظام الحكم الحالي. نعم كان جمال عبدالناصر نموذجاً للمستبد العادل لدى الكثيرين. لكن المصريين بصفة عامة تحملوا استبداد هذه المرحلة لاعتبارات كثيرة منها النزاهة الشخصية لعبد الناصر وطهارة يده، وتعاطفه مع الفقراء، ولأنه استطاع رسم الحدود جيداً بين أدوات الدولة الأمنية وبين وظيفة دولة العدالة الاجتماعية. وكان السياق التاريخي يومها مواتياً في ظل احتدام الصراع العسكري مع إسرائيل، وانتشار المد القومي العربي، والتطلع لدولة الاستقلال الوطني التي كانت تسود المنطقة والعالم كله في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وشرق آسيا فيما كان الاستعمار (التقليدي) يلفظ أنفاسه. تحتاج فلسفة الحكم في مصر لإجراء مراجعة شجاعة لركيزتي التنمية والأمن. فالفساد يستنزف جهود التنمية ، والتفاوت الصارخ بين الطبقات لا يُشعر الناس بمردودها فضلاً عن كونه يهدد وحدة النسيج الاجتماعي للأمة. ليس دقيقاً ما يزعمه البعض من أن التفاوت موجود في كل المجتمعات، الظاهرة في مصر تتجاوز بهذا بكثير. والتعليم يحتاج إلى ثورة بلا هوادة. فالدولة التي قضت على تنظيم بعمر ثمانين عاماً مثل الإخوان المسلمين ليس صعباً عليها أن تقضي على الدروس الخصوصية والمراكز المسماة بالسناتر التعليمية. وقطاع الصحة يحتاج إلى تقويم وتهذيب وإصلاح وقد أصبحت العديد من ممارساته تمثل بذاتها ضرباً من الجرائم التي يعاقب عليها القانون. هذا ما نجحت فيه الدولة التنموية في عهد عبد الناصر ويجب أن تنجح فيه مصر اليوم. قالوا.. " رجل واحد لديه الشجاعة يمثل أغلبية " لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم