اعتبر كثير من المحللين أن اللقاء التاريخى بين فضيلة الإمام الأكبر د.أحمد الطيب شيخ الأزهر والبابا فرانسيس بابا الفاتيكان خلال الأيام القليلة الماضية، أسس لمصالحة بين المؤسستين الدينيتين الكبيرتين بعد عشر سنوات من التوتر، على خلفية تصريحات للبابا السابق بنديكتوس السادس عشر ربطت بين العنف والإسلام، غير ان الأمر بدا لى أكثر من ذلك، فقد تطرق اللقاء إلى «السلام فى العالم ونبذ العنف والإرهاب». لذا نتمنى ان يفتح هذا اللقاء بين شيخ الأزهر والبابا، بابا للتعارف ليس فقط بين الجانبين وإنما أيضا بين العالم الإسلامى والغرب المسيحي، بل بين المسلمين والعالم اجمع. هذا التعارف ينطلق من قيمة محورية فى العلاقات الإنسانية بين البشر عبر عنها قوله تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا...» (الحجرات: 13) فهذه الآية الكريمة توضح جانبا من حكمة خلق الناس بحيث يعرف بعضهم بعضا بحسب انتسابهم جميعا إلى أب واحد وأم واحدة ثم بحسب الدين والشعوب والقبائل، بحيث يكون ذلك مدعاة للألفة والوئام لا إلى التنافر، وهذا التعارف مقدمة للتعاون على البر والتقوى وليس على الإثم والعدوان. غير ان هذا التعارف يجب ان يبنى على الصراحة والحقائق والمعلومات الصحيحة بعيدا عن تأثيرات جماعات المصالح او تدليس بعض وسائل الإعلام، وأن يبرأ من تراكمات الماضى وحروبه. فى تصورى ان هذه المعانى سادت هذا اللقاء الذى يمثل حلقة مهمة فى سلسلة لقاءات للدكتور أحمد الطيب، وتعد دفعة جديدة من الانفتاح على الآخر لعرض رسالة الإسلام من مصدرها الأصيل مقابل الصورة المشوهة له التى يصنعها التطرف ويروجها الإعلام،فقد اتفق الجانبان على عقد مؤتمر دولى للسلام، والتنسيق من أجل نشر ثقافة الحوار والتعايش بين الشعوب والمجتمعات. وذكر شيخ الأزهر أنه وبابا الفاتيكان التقيا على طريق واحدة لخدمة الإنسان أولاً على اعتبار أن الديانات السماوية جاءت لتسعد الإنسان وتخدمه لا أن تسيل دماءه أو تشقيه فى هذه الحياة. وقبل هذه اللقاء بأسابيع تحدث شيخ الأزهر أمام البرلمان الألماني، بكل صراحة عارضا حقائق الدين ومطالبا بإنصافه فى وجه الصورة الذهنية المشوهة للإسلام والمسلمين بسبب أفعال قلة تنتسب للدين، باعثا برسالة سلام وحوار ومحبة من الأزهر والمسلمين للعالم، ووضع فضيلته النقاط على الحروف فى العديد من القضايا التى تشكل صورة الإسلام بالغرب مؤكدا أن شريعة الإسلام مؤسسة على مبادئ العدل والمساواة والحرية وحفظ كرامة الإنسان، مفندا الشبهات المثارة، بالدليل والبرهان مثل فرية أن الإسلام دين قتال أو دين سيف، فلفظة «السيف» لم ترد فى القرآن.. بل على العكس يؤمن المسلمون بأنه لا إكراه فى الدين، وأن الله تعالى أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم ، رحمة للعالمين، وليس رحمة للمسلمين فقط. وقال فضيلته للنواب الألمان: لو أنَّ كل دين «حُوكِم بما يقترفه بعض أتباعه من جرائم والقتل والإبادة لَمَا سَلِمَ دين من تُهمَة العُنف والإِرهاب، وأنَّ الإرهابيين الَّذين يُمارسون جرائمهم باسم الأديان خائنون لأمانات الأديان التى يزعمون أنهم يقاتلون من أجلها». وبلور المعادلة التى تحكم العلاقة بين الطرفين فى وضعها الصحيح حينما كشف ان الصورة المشوهة متبادلة بين الشرق والغرب قائلا «الكثيرون فى الشَّرق العَربيِّ والإسلاميِّ لا يعرفون من الغرب إلا سياسة الكيل بمكيالين، وسياسة المصالح الخاصة التى لا تراعى مصالح الشعوب، ويضربون من الأمثلة على ذلك ما حدث فى «العراق» و«ليبيا» وغيرهما»، وإنَّ الديمقراطيَّة، «لَا يمكن أن تتحقَّق بالحروب وصراع الحضارات والفوضى الخلَّاقة وأنهار الدِّماء وقعقعة السِّلاح، بل بالتبادل الحضارى بيننا وبينكم، والحوار المتكافئ غير المستبد، وبرامج تبادل التعليم والصناعة والتكنولوجيا.» وبعد ذلك اللقاء التاريخى تحدث شيخ الازهر بنبرته الصريحة ذاتها فى ملتقى «الشرق والغرب نحو حوار حضاري»، بباريس الذى حضره ممثلون وأكاديميون من مختلف الأديان ، ملقيا على الساحة الأوروبية جملة من الرسائل المهمة ، أبرزها: مطالبته ل «أصحاب القرار النافذ»، بالتدخل لصد الإرهاب العالمي، وحل القضية الفلسطينية حلا عادلا ، والتصدى لتغيير هوية المسجد الأقصى. وتجاوز الصورة النمطية للشرق والغرب، بعد أن انطوت المسافات وهاجر المسلمون واستوطنوا الغرب كما أن الغرب أثر فى تفكير المسلمين وسلوكهم. ودعا إلى التفكير فى العالمية بدلا من العولمة كحل لإنهاء الصراع العالمي، كما حث مسلمى أوروبا على الاندماج فى المجتمع، مطالبا الدعاة هناك بالانتقال من (فقه الأقليات إلى فقه الاندماج). هناك العديد من القضايا الإنسانية التى تحتاج الى تعاون هذين القطبين الكبيرين وتنطلق من الحوار بين الأديان والثقافات، مثل تحقيق السلام العادل ومواجهة العنف والإرهاب، والفقر والتفكك الأسرى وحماية البيئة. بمثل هذا النهج من المصارحة بالحقائق يمكن ان يحدث التعارف والحوار الذى نتمنى ان يمتد ليحدث أيضا بين المسلمين والمسلمين سواء كان سنيا/شيعيا او حتى سنيا/ سنيا! لمزيد من مقالات د. محمد يونس