نكأت رسالة القرار الخطير جراحي التي لم تلتئم بعد ودفعتني الي ان اكتب اليك تجربتي عسي ان تجد لي مخرجا مما انا فيه من حيرة وتردد. فاذا كان كاتب الرسالة قد مات اثنان من ابنائه في حادث سيارة بالبلد العربي الذي يعمل به, وفسر ما حدث له بانه يرجع الي الحسد بعد ان اقام مشروعا كبيرا في قريته صار حديث الناس ولذلك قرر الاستمرار في الغربة وعدم العودة الي الوطن.. اقول اذا كان قد حسم امره ويسألك عن رأيك في قراره. فإنني لم اصل بعد الي قرار لمشكلتي التي لا أري لها حلا قاطعا حتي الآن. ودعني أحكي لك قصتي منذ البداية, فأنا رجل في منتصف الاربعينيات, نشأت في اسرة بسيطة لاب يعمل مزارعا بالاجر اليومي. وأم ربة بيت, وأخت واحدة تصغرني بعامين, وكانت القروش القليلة التي يحصل عليها أبي كل يوم هي كل دخلنا الذي تدبر به أمي شئوننا, ومضت الحياة مستقرة, ونحن راضون بالقليل, وكان شغلي الشاغل هو أن اذاكر واتفوق, وكبرت احلامي بمرور السنين, وساعدني علي ذلك حبي للقراءة والاطلاع, ولم توقفني امكانياتنا المادية عن تحقيق الحلم, ووضعت أمامي هدفا واحدا هو أن اكون ذا شأن في المستقبل, وشجعني أبي علي ذلك وحمل هموم البيت وحده, ولم يكلفني باي عمل أو يطلب مني مساعدته كما يفعل الآباء عادة في القري. وحصلت علي الثانوية العامة والتحقت بكلية العلوم وتفوقت فيها, وبعد التخرج مباشرة التحقت باكثر من عمل لكي افاضل بين عدد من الوظائف واستقر علي العمل الذي يناسبني, وحصلت علي دورات تدريبية عديدة ثم راسلت العديد من الجهات البحثية بالخارج, وجاءتني البشري من احدي هذه الجهات بدولة اوروبية بالموافقة علي منحي تأشيرة زيارة لمدة ثلاثة أشهر.. ولا استطيع ان اصف لك مدي سعادتي بهذه التأشيرة.. وقد هرولت الي اسرتي, وابلغتها باعتزامي السفر فثار ابي في وجهي لاول مرة, وقال انه كان ينتظر اليوم الذي اتخرج فيه بفارغ الصبر لكي اخفف عنه عبء الاسرة, فهو مريض ولايقوي علي العمل, فكيف سأتركه يلاطم امواج الحياة بمفرده, وأخذله ولا افكر إلا في نفسي.. واكمل كلامه بشدة.. لو سافرت لا انت ابني ولا اعرفك.. وبكت امي بشدة ورجتني ألا أسافر الي البلد الاوروبي, وان ابحث عن عمل في أي دولة عربية زي كل الناس علي حد تعبيرها وقالت احنا مالناش غيرك ياابني.. لكن هيهات ان يلين لي جانب.. فقراري بالسفر لا رجعة فيه.. ولكن لكي استرضيهما بذلت محاولات مضنية معهما من اجل انتزاع موافقتهما ووعدتهما بانني سأعود بعد ان تتحسن احوالي, فلم يعيرا ما قلته ادني اهتمام, ولم اتراجع عن موقفي. وسافرت غير عابئ بتوسلاتهما, وتسلمت العمل تحت الاختبار في الجهة الاجنبية, وقبل ان تنتهي فترة التأشيرة جددوها لي, وشيئا فشيئا حصلت علي الاقامة. وحرصت علي كتابة خطاب الي اسرتي كل اسبوع اطمئنهم فيه علي حالي حيث لم تكن توجد وقتها تليفونات في المنطقة التي نسكن بها, وليس لنا اقارب اتواصل من خلالهم مع اسرتي, وكنت اتلقي كل عدة أسابيع خطابا بخط اختي, واستمررنا علي ذلك شهورا ثم اخذني العمل وانشغلت بحياتي وانتقلت للاقامة في مسكن جديد, وتعرفت علي فتاة من البلد الذي اعمل به, وربطتنا قصة حب, وتزوجنا.. وكنت وقتها قد حصلت علي جنسية هذه الدولة, وبعد عام رزقنا الله بطفلة جميلة حرصت علي تربيتها علي عاداتنا وتقاليدنا المصرية, لكن بصمات امها عليها ظلت هي الاكثر تأثيرا بحكم انها تقضي معها الوقت الاكبر, ولم اهتم في البداية بذلك, وانشغلت بعملي الذي أخذ كل وقتي, وحرصت علي ان اقضي عطلة نهاية الاسبوع بصحبتهما.. وكبرت البنت ووصلت الي سن الخامسة عشرة, ولا تسألني كيف مرت هذه السنوات الطويلة وأنا منهمك في العمل ولم اهتم بمراسلة اسرتي او حتي افكر في زيارة مصر ولو مرة واحدة؟ وجاء اليوم الذي لم اعمل له حسابا, أو قل لم يخطر لي علي بال, اذ فوجئت بابنتي وقد جاء معها شاب قالت لي أمها إنه صديقها, فسألتها عما يريد, فقالت انه سيبيت معها فجن جنوني, وطردته من البيت, وانهلت علي ابنتي ضربا, وركلا بالاقدام, وصرخت من أعماقي وأنا ابكي بحرقة كيف تفعلين ذلك وانت فتاة مسلمة لابد ان تتزوج من مسلم زواجا شرعيا.. ومضيت اقول لها بصوت عال إذا كان متمسكا بك عليه ان يشهر اسلامه ويتزوجك.. هذا هو شرع الله.. ثم وجهت كلامي الي امها التي لم تفهم ما اقول: لقد تزوجتك وانت علي دينك لان من حق المسلم ان يتزوج كتابية من اهل الديانات السماوية الثلاث ولكن المسلمة لا تتزوج الا مسلما.. كما ان علاقات الصداقة القائمة علي المعاشرة بلا زواج محرمة ولن أقبلها فلم تقتنع بكلامي واخذت البنت وحررت لي محضرا في قسم الشرطة, فتركت لهما المنزل وانتقلت الي مسكن آخر وانطويت علي نفسي اجر أذيال الخيبة والندم! وساءت حالتي النفسية والصحية, وانعكس ذلك علي عملي فاضطررت الي طلب اجازة لمدة شهرين, وجئت الي مصر قاصدا اسرتي التي لم ارها منذ خروجي منها, وابي وامي واختي غاضبون مني.. وعندما وطئت قدماي ارض قريتنا وجدتها قرية غير التي عشت فيها, وقابلني اناس غير الذين عرفتهم, ولم استطع الوصول الي منزلنا بعد ان تغيرت كل المعالم, واقتربت من احد الاهالي وعرفته بنفسي وسألته عن اسرتي. فنظر الرجل الي بدهشة وقال الله يرحم اباك وامك. فقد ماتا منذ سنوات طويلة. أما اختك فقد تزوجت وسافرت مع زوجها, ولا يعرف احد لها مكانا. سمعت كلمات الرجل التي نزلت علي كالصاعقة, وأنا في ذهول.. يا إلهي ماذا فعلت؟! كيف سرقني الزمن؟.. وكيف اوصلتني اطماعي وأنانيتي الي ما أنا فيه الآن من حسرة وكمد؟.. فقد مات ابي وأمي غير راضيين عني بعد ان تخليت عنهما في الوقت الذي كانا يتطلعان فيه الي ان اساندهما علي شظف العيش ومرض ابي.. انني لن اسامح نفسي ابدا علي هذا الجرم الذي اقترفته في حقهما.. ثم اين اختي وكيف اصل اليها؟.. ومن لي في هذا العالم الآن؟ إنني حائر يا سيدي, ولا ادري ما هو القرار المناسب لحالتي؟.. هل اقدم استقالتي من عملي بالخارج واعود الي مصر؟.. وإذا فعلت ذلك هل سأعيش وحيدا بين جدران شقة استأجرها أو اشتريها. ولا احد يعلم عني شيئا وأحيا غريبا في وطني بلا اهل أو اقارب.. ام اسافر من جديد واتقوقع علي نفسي ويكون منهجي من العمل الي البيت, ومن البيت الي العمل ثم كيف استعيد ابنتي التي أوغرت امها صدرها تجاهي, واتهمتني بالتطرف والغباء. لانني اريد الحفاظ عليها؟.. صحيح ان أمها هي التي ربتها علي مبادئ الغرب التي تقر الصداقة بين الشاب والفتاة لدرجة المعاشرة الزوجية.. برغم إخباري لها بأن ذلك يتنافي مع تعاليم ديننا الحنيف وعاداتنا وتقاليدنا لكني أتحمل المسئولية الكاملة عما وصلت إليه. وكم تمنيت الموت قبل ان اصل الي هذه اللحظة القاسية التي قلبت حياتي رأسا علي عقب, واحالت حياتي الي جحيم. أعلم يا سيدي انني احصد جزاء عقوقي لابي وامي اللذين لم يعرفا طعم الراحة وظلا يعلقان الامل علي لكني خذلتهما, وها أنا افيق بعد ان خسرت كل شيء, وتكاد شمس حياتي أن تأفل فهل من سبيل لتدارك ما فات فالقي الله وهو راض عني؟ .. وأقول لكاتب هذه الرسالة: الرجل الذي يفكر في نفسه فقط.. رجل تدعو حاله الي الرثاء إنه أمي النفس بغض النظر عن مدي تعليمه. كما يقول د. نيكولاس بتلر.. والحقيقة انك سرت حياتك كلها بهذا المنطق المعوج, فكان طبيعيا ان تصل الي ما وصلت اليه, حيث فكرت في نفسك فقط حين تركت اباك يعمل ويكدح في المزارع والحقول وحده دون ان تسعي إلي مساعدته حتي ولو لم يطلب ذلك, وكان الواجب عليك ان تنهض من تلقاء نفسك لتقديم يد العون اليه احساسا منك بقيمة عطائه لكم ومعاناته من اجلكم خصوصا وانت تعترف بأن زملاءك كانوا يساعدون آباءهم امام ناظريك, لكنك اقنعت نفسك بان العمل معه ولو لمدة ساعة واحدة يوميا سوف يضيع عليك بعض الوقت مع أن كل العباقرة والناجحين ولدوا في بيئات كادحة, فعرفوا طريق النجاح.. أما انت فكان طريقك نحو الانانية وانحصار تفكيرك فيما يعنيك وحدك, ثم تماديت في ذاتيتك بقطع كل صلة لك باهلك بعد ان استقرت أوضاعك في الخارج, ولم تعبأ بحاجة ابويك اليك معنويا قبل حاجتهما ماديا, فماتا حسرة وكمدا علي ما آلت اليه احوالهما بينما انت غارق في أنانيتك, ثم تزوجت دون حسابات دقيقة من سيدة اجنبية تركت لها التصرف في حياة ابنتك, فصار طبيعيا ان تكون علي شاكلتها بكل عاداتها وتقاليدها. حدث كل ذلك وانت لاتدري, او ربما كنت تدركه في عقلك الباطن لكنك لم ترد ان تصدقه.. ولان البناء الهش يسقط ولو بعد حين. فقد جاءتك اللحظة القاسية التي لم تحسب حسابها, فافقت من غيبوبتك علي الحقيقة المرة من تفكك اسرتك ووقوع ابنتك في فلك صديقها برعاية امها, وموت ابويك, وهجرة أختك الوحيدة مع زوجها إلي مكان لايعرفه الجيران الي جانب انه ليس لكم اقارب من الممكن سؤالهم عما حدث خلال غيابك الطويل. إن الانانية التي سيطرت عليك سادها الطمع, فالاخلاص للنفس يعني الاخلاص للعمل والاهل, وهو سلسلة متصلة من نور لاينطفئ أبدا, لكنك لم تقر هذا المبدأ الذي يوازن بين المتطلبات الشخصية والاسرية, واخترت الطريق الاسهل الذي يحقق غاباتك ناسيا أو متجاهلا انه ليس الطريق الصحيح. والآن وبعد ان تكشفت كل هذه الحقائق عليك ان تتوقف امام الماضي لا لكي تستعيده وتعيش آلامه, ولكن لكي تتخذ منه نقطة الانطلاق الي المستقبل فتستفيد من الاخطاء, وتمضي قدما نحو الطريق القويم الذي يرضي الله, ويجعلك هادئ النفس مطمئن البال.. فبالنسبة لأبويك الراحلين بامكانك ان تدعو لهما بالعفو والمغفرة, وان يتجاوز الله سبحانه وتعالي عن عقوقك لهما.. وان تقيم صدقة جارية علي روحيهما وعليك ان تتأسي بحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم اذا مات ابن ادم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أوعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له.. وان تحاول ايضا ان تصل اختك واتصور انك لو بذلت بعض الجهد بالسؤال عنها في محيط قريتك فسوف تعرف مكانها وتزورها وتسترضيها وعليك ان تتذكر دائما ان صلة الرحم من أهم ما اوصانا به الرسول الكريم, ونأتي الي المحور الرئيسي لمشكلتك الذي زلزل كيانك, وهو ابنتك فيمكنك ان تتبع معها منهجا مختلفا بعيدا عن املاء القرارات الذي لايصلح في حالتك ابدا, وهو ان تحاول مد جسور التواصل مع زوجتك فتكون هي حلقة الوصل معها, وان تشرح لها انك لاتمانع ابدا في ارتباط ابنتك بصديقها, وتعتبر علاقتهما زواجا فيه اشهار بين الناس حتي وان لم يتم توثيقه بشرط ان ينطق بالشهادتين لانها تدين بالاسلام, ولا يمكن لغير المسلم ان يتزوج مسلمة, فالطبيعي انها مسلمة باعتبار انك مسلم, وقل لها ايضا انك ارتبطت بها وهي علي ديانتها لانه يحل للمسلم ان يتزوج من كتابية من اهل الديانات السماوية الثلاث. واعتقد انك لو سعيت للقاء هذا الشاب بعد ما حدث وناقشته في هذا الامر فسوف يعمل من تلقاء نفسه علي تقريب المسافات باعلان اسلامه أو الانصراف عن ابنتك, فهكذا يكون العقلاء دائما. وأرجو ان تكون قد استوعبت الدرس فلا تنشغل بعملك عن حياتك وأسرتك فيما تبقي لك من عمر في هذه الدنيا, ولتواصل عملك وسعيك موازنا بين اقامتك في الخارج ورعاية اسرتك التي تأمل أن تعود اليك في اسرع وقت, والتواصل مع اختك في مصر حين تلتقي بها قريبا بإذن الله.