«مرحبا بكم فى الحدائق المفتوحة التى تحتل مساحات شاسعة، تصل إلى أحجام بلدان كاملة على امتداد القارة الأفريقية، فى أنظمة بيئية متعددة، أعشاب وأنهار وبحيرات ومستنقعات وغابات قصيرة وقليلة الأشجار، وأخرى كثيفة الأشجار، وهذا التنوع البيئى يساهم فى انتشار العديد من الحيوانات. كان الموسم مناسبا للزيارة. فى الفترة بين موسم سقوط الأمطار وحلول وقت الجفاف ( مايو إلى سبتمبر). نسلك الممرات، ونتبع الإرشادات، ونتوقف فى أماكن تجمع الحيوانات، وأماكن اختبائها فى انتظار ظهورها. رؤية الحيوانات البرية على الطبيعة فى غابات أفريقيا متعة لا نظير لها. أتيحت لى الفرصة فى رحلات سفارى فى ناميبيا وتنزانيا. وسفارى safari كلمة سواحيلية من أصل عربى وتعنى رحلة، واقتصر استخدامها فى الماضى على زيارة المحميات الطبيعية، لكنها الآن تعنى الرحلات الثقافية والبيئية الأخري. والغريب أنها لم تكن رحلات ترفيهية أيام الاحتلال كما هو الحال الآن، وكانت بغرض الصيد الجائر، وقتل الحيوانات البرية، لاستغلال جلودها وقرونها ولحومها. وكان منظر الأوروبى بالشورت الكاكى وقبعته الشهيرة والبندقية على كتفه، ومن خلفه ومن أمامه المواطنون السود، من المشاهد المألوفة فى الأفلام التى تصور فى أحراش أفريقيا. أصبح العالم الآن أخلاقيا، وأكثر تحضرا فى تعامله مع الحيوانات، حيث حلَّت كاميرات التصوير محل الأسلحة القاتلة، ولم تعد تسيل دماء الحيوانات على يد الإنسان إلا عند الضرورة القصوي، مثل اختلال التوازن الطبيعى فى النظام البيئي، كأن تجور مجموعة حيوانية على مجموعة أخري، مع النظر بعين الرعاية للحيوانات المهددة بالانقراض مثل الخرتيت الأبيض، والغوريلا. ورغم كل الاحتياطات التى تتخذها الإدارات المعنية لمنع وتجريم الصيد الجائر، إلا أن الأمر لا يخلو من بعض الانتهاكات خاصة فى المناطق الزراعية، حيث يتعرض القرويون والرعاة لمضايقات من بعض الحيوانات الشاردة أو المغيرة التى قد تدمر محاصيلهم وتقتل حيواناتهم، ولا يجدون سبيلا إلى ردعهم إلا بقتلهم، ومع ذلك فقد لجأ المزارعون إلى حيل أخرى لصد هجمات تلك الحيوانات، مثل إحاطة مزارعهم بأشجار بروائح منفرة وطاردة للحيوانات. ففى زامبيا مثلا قاموا بتطويق مزارعهم بسياجات من نباتات الفليفلة الحريفة الحمراء «الشطة» لصد الأفيال ومنعهم من مهاجمة المحاصيل. زُرت حدائق «إتوشا» فى شمال ناميبيا مع صديق من المواطنين السود المحليين، صحبنى فى سيارته، وأطلعنى على كتيب بالإنجليزية يضم الإرشادات والتعليمات، وقرأت فيه : «نرجو اتباع القواعد والتعليمات والالتزام بها، وإلا تعرضتم لغرامة كبيرة والحرمان من التجول فى الحديقة، ربما لمدى الحياة، هذا بالعلاوة على أننا غير مسئولين عن أى ضرر يصيبكم حال مخالفتكم لأى من تلك التعليمات، فالأمر يتعلق بسلامتكم، وأنتم وسط عالم الحيوانات البرية وهى تمارس حياتها فى بيئتها الطبيعية فى أمان، بدون أسوار، وبلا رقيب». وأكدوا على «الاحتفاظ بمسافة مناسبة بينك وبين الحيوانات لا تقل عن عشرين مترا، وتجنب الضوضاء لتفادى استثارة الحيوانات، وعدم إلقاء أى طعام إليها، وعدم الخروج من السيارة لالتقاط بقايا حيوانية أو نباتات، وعدم ركن السيارة فى غير الأماكن المخصصة، والالتزام بالممرات المرسومة فى خط السير لتجنب إفساد المزروعات، أو الشرود فى مناطق الخطر، وتجنب الملابس زاهية الألوان لأنها تزعج الحيوانات، فالكاكى والبنيات ألوان مناسبة، والبلوزات والتى شيرتات بنصف كم والشورتات أنسب الملابس. ومن أطرف التعليمات «لا تقترب من حيوان يطارد فريسته وهو على وشك الإيقاع بها، حتى لا تفوت عليه وجبة ثمينة من الممكن أن يكون جائعا هو أو أشباله ويبحث عنها لساعات طويلة، تحرمه منها وتجعله ينتظر ربما لساعات طويلة أخري. إضافة لإرشادات صحية ينبغى مراعاتها لتفادى لدغات الحشرات، والتطعيم ضد الحمى الصفراء المتوطنة. وكلمة «إتوشا» بلغة القبائل المحلية تعنى الأرض البيضاء الكبيرة، وهى تتمتع بجمال جذاب، فهى توليفة رائعة من طبيعة تخطف الأبصار، وتشكيلة من الحيوانات الثديية والطيور. وتتراقص الألوان وهى تنعكس على سطح هائل الاتساع من أرض جفت بعد أن كانت بحيرة هائلة، لتترك أرضا ملحية صلبة ناصعة البياض، تسحرك بما تتوهمه ينعكس على سطحها من سراب، وعلى حواف هذه الأرض الصلدة تتغير طبيعة المكان حيث تتنوع الطبيعة النباتية والطبيعة الحيوانية «الفلورا والفونا». من الحمر الأبقار الوحشية، والأسود النمور، والضباع، حيوانات الكودو، وهو نوع من الظباء واسع الانتشار فى ناميبيا حتى إنهم يضعون لافتات تحذيرية فى الأماكن التى يحتمل وجوده فيها على طول الطرق السريعة، وهو يمتاز بارتفاع جسده وطول قرونه الملتوية التى تصل لمتر، وأنثاه ليس لها قرون. وتتميز الحديقة أيضا بوحيد القرن الأسود النادر، والغزلان المتقافزة برشاقة استعراضية مثيرة للإعجاب، والأفيال الأكثر طولا فى القارة، إضافة لأنواع عديدة من الطيور، وثمة طيور وحيوانات أخرى تصعب رؤيتها إلا فى مواسم معينة مثل طائر «الفلامنجو الوردي»، بسيقانه الطويلة الرفيعة، وهو لا يظهر فى المكان إلا بعد سقوط الأمطار الغزيرة حيث يرتفع منسوب المياه فى البحيرة الملحية، واللون الوردى الذى يشتهر به يرجع إلى غذائه على الجمبرى والطحالب التى تحتوى على الكاروتين، حيث تتكسر هذه المادة فى كبد «الفلامنجو» وتتحول إلى صبغة تكسبه لونه الأحمر. ومن أشهر أماكن تجمع الحيوانات فى تنزانيا، وأسعدنى حظى بالتجول فيها، سهول «سرنجيتي» المنبسطة، ومعناها بلغة قبائل الماساى «السهول التى لا نهاية لها»، وهى أكبر حديقة وطنية فى شمال تنزانيا، الحديقة الوطنية «كروجر» فى جنوب أفريقيا، وهما أكبر مأوى للثدييات فى العالم، وفى «سرنجيتي» وحدها أكثر من ثلاثة ملايين حيوان ثديي، وتضم أكبر عدد من الأسود على مستوى العالم، وأكبر عدد من الأفيال فى العالم يوجد فى «حديقة بوتسوانا القومية» «تشوبى Chobe»، ولأن أرض «سرنجيتي» عشبية خالية من الأشجار، إلا من بعض أشجار الأكاسيا المتناثرة، فإنها تجتذب عشرات الآلاف من الحيوانات آكلة الأعشاب التى ترعى فى أماكن غنية بالعشب والماء، مثل الزراف، والحمر الوحشية، والغزلان، والخنازير البرية، حيوان النو، والجاموس البري، ولتكتمل السلسلة الغذائية فلابد من وجود الحيوانات آكلة اللحوم مثل الأسود والفهود والنمور والذئاب، إضافة إلى الحيوانات المترممة مثل الضباع والجوارح، والعديد من الطيور. ومع حلول موسم الجفاف تهاجر الحيوانات آكلة العشب من «محمية سرنجيتي» بشمال تنزانيا إلى محمية «ماساى مارا» فى جنوبكينيا»، وهى من أعظم الحدائق الوطنية على وجه الأرض، حيث الأماكن التى تتوافر فيها المياه والعشب الأخضر. ومشاهدة الحيوانات أثناء النزوح الكبير، وتدافعها الغريب، جماعات بالآلاف، والملايين، منظر يخلب الألباب. ويتهافت آلاف السياح سنويا من كل أنحاء العالم لرؤيته فى موسمه، مسلحين بأحدث وأدق أنواع الكاميرات، ولكن ما يمتعنا مشاهدته ليس فى الحقيقة إلا نوع من المعاناة بالنسبة للحيوانات التى تقطع مئات الكيلومترات فى رحلة تحفها المخاطر فى كل مراحلها، حيث تزهق أرواح العديد منهم من الأعداء الطبيعيين، الأسود والفهود على البر، والتماسيح التى يموج بها نهر «مارا» الذى لا مفر من عبوره ذهابا وإيابا، من تنزانيا إلى كينيا، وبالعكس فى دائرة فى اتجاه عقارب الساعة. ومن المحميات الأخرى الشهيرة فى تنزانيا، فوهة بركان «نجورو نجورو» وهو عميق الغور والنزول إليه عبر المدقات مغامرة تحبس الأنفاس، وبحيرة «مانيارا» التى تحتوى على نوع فريد من الأسود متسلقة الأشجار، أفراس النهر، والأفيال، ومحمية سيلوس التى يشقها نهر «روفيجي» الذى يعد واحدا من أنهار أفريقيا الساحرة، يخترق المحمية لمسافة 250 كم لينتهى إلى الدلتا قبل أن يصب فى المحيط الهندي. حيث تسكن الطيور بكل أنواعها، ويؤوى العديد من التماسيح. حول الضفاف ترعى الأفيال، والأبقار الوحشية. وعلى اليابسة يمكن مشاهدة النمر والشيتا. ولم يزعجنى فى تلك الرحلات سوى «التسى تسي» وهى ذبابة بإحدى لغات جنوب أفريقيا «tsetse fly»، وتحمل طفيلا «تريبانوسوما» وتنقله من دم الحيوانات إلى الإنسان بلدغة، وتسبب مرض النوم، ولم تنقشع غُمَّة هذه الذبابة إلا حين طمأننى مرافقى بأن نوع الذبابة الذى يدخل إلينا عُنوة من سقف العربة المفتوح الذى نتطلع منه إلى الحيوانات، ليس هو الحامل للطفيل، وأن المرض آخذ فى الانحسار، ومع ذلك ظللت أتجنب لدغة هذا العدو سيئ السمعة بكل الوسائل.