لا أعتقد أن كثيرا من المصريين قد أسعدتهم نتائج المرحلة الأولي من الانتخابات الرئاسية التي يعلمون أنها كانت نزيهة إلي حد كبير وحرة إلي حد ما. فقد انتقصت الفضائيات المصرية شيئا من حريتها. فالقلق والتوتر يسيطران علي الجميع بدون استثناء والخوف من القادم أصبح أكثر إيلاما من الواقع المأزوم. عشرة ملايين ناخب منحوا أصواتهم لاثنين فقط من المرشحين فحصروا اختيار المصريين في المرحلة التالية في خيارين أحلاهما مر. راحت أصوات أحد عشر مليونا هباء منثورا في سباق الرئاسة بينما خيم الصمت علي نحو تسعة وعشرين مليون ناخب مصري لم تكن القضية برمتها تعنيهم في شيء. وفيما يبدو فإن هذا العدد في ضوء ما أسفرت عنه نتائج المرحلة الأولي مرشح للزيادة. فالندم يسيطر الآن علي كثير من الناخبين وبعض المرشحين علي السواء. الناخبون لم يدركوا أن الانتخابات في نهاية الأمر لعبة لها أصولها وقواعدها وألاعيبها أيضا وأنها أكبر من اختيارات الأفراد خاصة إذا كانت الأغلبية تفتقر إلي ثقافة الاختيار السياسي علي الأقل. جاءت النتائج لتؤكد للجميع أن الديمقراطية مثلما تمنح السعادة تصيب أيضا ببعض الآلام ولكنها في كل الأحوال آلام محتملة. العبارة التي نسبت للرئيس السابق أنا أو الفوضي فسرت يوما علي أنها رغبة منه للبقاء في الحكم إلي ما شاء الله, ولكن الانتخابات الأخيرة جاءت لتمنح تلك العبارة تفسيرا آخر. لم تعد العبارة كما كانت مثار سخرية وتندر بل أصبحت واقعا مارسه كثير من الناخبين في المرحلة الأولي وسوف تظل عاملا فاعلا في تقرير من يحكم مصر لأربع سنوات مقبلة. لم تعد المفاضلة بين مبارك والفوضي بل أصبحت مفاضلة بين نظامه وفلسفة حكمه وبين المجهول في ثقافة ترضي بالواقع المأزوم بدلا من المغامرة مهما كانت نتائجها. رفعت الثورة شعارات الحرية والعيش والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية, وهي شعارات ظلت آمالا تداعب خيالات الناس في مواجهة واقع مأزوم بالأمن الغائب والأزمات الاقتصادية المتتالية والقلق علي مستقبل البلاد بصرف النظر عن الأسباب التي أدت إلي ذلك كله. فمغالبة الألم تشغلك عن التفكير في أسبابه. في مراحل التحول لاتعرف الشعوب ماذا تفعل بالحرية إن هي أصبحت متاحة لهم. فالحرية تأتي بقيود جديدة وهياكل جديدة يخضعون لها فيشعرون بالقلق والغموض في حين يأتي نقص الحرية بالراحة واليقين. الشعوب تتطلع إلي الحرية حينما لايكونوا أحرارا, وحينما تأتي فإنها تجلب معها مسئوليات مفاجئة وغير متوقعة والنتيجة أن كثيرين يختارون أن يريحوا أنفسهم من هذا القلق بالخضوع للقوي المسيطرة عليهم. الحرية غريزة وكذلك التسلط والخضوع. الأولي تمنح الفردية والطموح والإبداع والثانية توفر الأمن والنظام والهروب من المسئولية التي هي أكبر الأعباء في التاريخ. لقد ناضل الإنسان طويلا من أجل الحرية ولكنه في كل مرة يحقق فيها الحرية يتحول إلي الصراع معها. لقد اختار المصريون في الانتخابات الرئاسية بين نظام مبارك وبين المجهول الذي لايعرفونه ويشعرون نحوه بالكثير من المخاوف. الأخطاء علي الجانبين أكثر من أن تحصي ولكنها الديمقراطية التي حصرت الاختيار في اثنين لاثالث لهما. الايام التي تفصلنا عن انتخابات الإعادة سوف تشهد خطابا مختلفا سوف يكون مسرفا في وعود من نوع خاص. وعود وتطمينات تقترب من حد الاستجداء وهي جميعها مقبولة في عالم السياسة وفي مثل تلك الظروف. سوف يجتهد الفريق شفيق في التنصل من كل سلبيات النظام السابق وتجاوز كل خصائصه. وسوف يجتهد الدكتور محمد مرسي في تهدئة المخاوف الكثيرة من فكر الإخوان وتفنيد أخطائهم في حق الثورة. سوف يصدق تلك الوعود من يريد أن يصدق وهي أيضا إحدي أزمات الاختيار في الممارسة الديمقراطية. ومهما يكن اختيار المصريين في المرحلة الثانية من انتخابات الرئاسة, فإنهم مطالبون بالوعي واليقظة الكاملة حتي لاندفع ثمنا باهظا دفعناه كثيرا وطويلا. لم يعد ممكنا ولا مقبولا أن نكون علي دين ملوكنا, ولكن آن الأوان أن يخضع ملوكنا لديننا وأن يكونوا علي ما نحن عليه قولا وفعلا. لن نقبل أن يحصل فصيل الإسلام السياسي من الدكتور محمد مرسي علي استحقاقات دعمهم له. ولن نقبل أن يحصل أصحاب المصالح الذين أفقروا شعبا بأسره علي استحقاقات من الفريق أحمد شفيق نظير ما قدموه من خدمات في الانتخابات أملا في استعادة ما كان. نحن الذين سوف نقرر أي طريق سوف يسلكه الرئيس القادم مهما كانت نواياه. لقد أدركنا بعد قرون طالت أكثر من اللازم أننا نحن الذين صنعنا الفرعون ثم عبدناه. لن نخرج بعد اليوم من أي معادلة. نحن جزء من مشاكلنا وجزء من حلولها. ولن نمنح أي رئيس تفويضا بأن يحل وحده مشكلاتنا في التعليم والصحة والأمن والاقتصاد. سوف نتحمل العبء معه يدا بيد. فقد أوهمنا حكامنا من قبل أنهم سوف يجدون الحلول وحدهم لكل مشكلة فذهبوا بمقدراتنا ولم يقدموا حلا واحدا لأي منها. فالديكتاتورية تبدأ بتخدير إحساسنا بالمشكلات وتغييب وعينا بالحلول. سوف ننسي أوهام البرامج الانتخابية لنصبح شركاء فاعلين في تشخيص مشكلاتنا والبحث عن حلول لها. واتمني لو أن القوي الليبرالية وغيرها من القوي السياسية تحملت مسؤولية تلك الدعوة بين المصريين حتي نطمئن إلي أن الحل في كل حين من صنع أيدينا. المزيد من مقالات د. حمدي حسن أبوالعينين