لا يترك الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء شيئاً فى مصر إلا أخضعه للبحث الكمى الدقيق المصحوب ببعض التفسيرات التحليلية أحياناً. وهذا جهد كبير من أحد الأجهزة التى مازالت تعمل بجدية وبدرجة عالية من الكفاءة بخلاف الحال فى كثير من الأجهزة الأخرى. ولا يستطيع باحث فى الشئون المصرية، أو أى شخص يريد أن يطلع على التطورات التى تحدث فى مصر، الاستغناء عن المعلومات والبيانات التى يتيحها هذا الجهاز. ويلفت الانتباه فى أحد البيانات الأخيرة الصادرة عنه بمناسبة اليوم العالمى للأسرة أن البحث الذى قام به على صعيد التوزيع الجغرافى للأسر المصرية أظهر أننا وصلنا إلى مرحلة يتساوى فيها تقريباً هذا التوزيع بين الحضر والريف. فهناك الآن 10.8 مليون أسرة تعيش فى الريف مقابل 9.3 مليون أسرة فى الحضر، أى بنسبة 54% و46% تقريباً على التوالى. و يكن الوضع على هذا النحو قبل عقود قليلة. فكان سكان الريف أكثر بكثير ممن يعيشون فى الحضر. وإذا عدنا إلى فترة أبعد، نجد أن الحضر لم يكن إلا هامشاً فى مجتمع ريفى بالأساس. غير أن هذا التغير الكبير لم يؤد إلى النتائج الايجابية والتى ترتبت على مثله فى كثير من البلاد الأخرى، فى إطار ما نسميه التطور الحضرى. فقد نتج هذا التغير فى معظمه عن هجرة عشوائية من الريف هرباً من الفقر والبطالة، بعد أن دمرت السياسة المتبعة منذ الستينات الزراعة المصرية. فلم يعد معظم أبناء الأجيال الجديدة فى الريف منذ السبعينات يجدون مكاناً لهم فى ريف اكتظ بسكانه وتقلصت خيراته نتيجة عشوائية السياسة الزراعية وآثارها الفادحة. ولأن الهجرة من الريف كانت عشوائية، ومازالت، فقد أدت إلى ترييف المدن، وليس إلى توسع نطاق المناطق الحضرية. فلم تعد المدن فى مصر حضراً بالمعنى المعروف فى العالم، بل فقدت طابعها الحضرى وصارت هجيناً يجمع نقائض اجتماعية فى حالة عشوائية. وأدى ذلك، مع رؤية لمعالجة هذه الظاهرة، إلى ترييف المدن التى أصبحت عشوائيتها هى نفسها أكثر خطراً من المناطق العشوائية التى تكاثرت على أطراف بعضها، بل وفى قلبها، وخاصة فى القاهرة. وقل مثل ذلك عن القرى التى لم يعد لأغلبيتها الساحقة من اسمها نصيب. فلا هى بقيت ريفاً كما كانت، ولا تحولت إلى مدن، بل باتت بدورها هجيناً لا تعرف له طابعاً ولا معنى. لمزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد