جمال فهمى بعض الناس، خصوصًا قطع من شبابنا العائش فى «مهرجان» الحالة الثورية حتى الآن، يركِّزون أو لا يرون بتاتًا أى معوقات أو ضغوط على الأهداف والشعارات التبشيرية لثورتَى يناير ويونيو، خصوصًا شعار الحرية والديمقراطية، إلا تلك التى تأتى من «أعلى» (أى جهاز الدولة العتيد) ويحول الوعى المحدود والثقافة البائسة وعذرية التفكير وفقر الخبرة المدقع، دون إدراك المعوقات الأخطر والأقوى الآتية من «أسفل» حيث المجتمع نفسه المحشور بين تقاطعات خارطة معقّدة جدًّا ترزح تحت وطأة تركيبة مجتمعية وطبقية خلَّفتها عقود حكم الثنائى أنور السادات وحسنى مبارك.. أبرز معالم هذه التركيبة الموروثة، إضافة إلى الطبقة المتوحشة التى رعاها وسمَّنها نظام الثنائى المذكور وأجلسها فوق قمة هرم المجتمع والدولة، هو حال الإفقار الهائل والبؤس المتنوع (ماديًّا وفكريًّا وروحيًّا وأخلاقيًّا) والمتحوّل إلى نمط حياة شامل وعابر لكل الطبقات تقريبًا وتجسَّد فى حال «ترييف» متفشٍّ وواسع النظاق تآكلت معه أغلب الحدود والفروق الفكرية (وربما الجغرافية أيضًا) بين الريف والحضر. لا بد أنك هنا ستسأل عن علاقة هذا الترييف وذاك البؤس بقدرة القيم والأهداف والشعارات الراقية التى ردَّدها الملايين فى المشاهد الافتتاحية للثورتَين الينايرية و اليونيوية على النفاذ والمرور والانتقال من فضاء الهتاف إلى أرض الحقيقة؟ وللإجابة عن هذا السؤال لا بد أولًا من لفت الانتباه إلى ملاحظة بالغة الأهمية ربما تكون محجوبة أو مشوشًا عليها بسبب لوحة الضجيج والعشوائية الهائلة التى نغوص فيها يومًا بعد يوم على مدى أربع سنوات، تلك الملاحظة خلاصتها أن الثورة الأولى (25 يناير) بالذات كانت ذات طابع حضرى (من الحَضَر) ومدينية بامتياز على ما تدل شواهد وإشارات كثيرة أقربها للنظر أن الأغلبية الساحقة من فاعلياتها وأحداثها جرت فى ساحات وميادين التحرير فى المدن والحواضر. وتتفرَّع عن هذه الملاحظة حقيقتان مركزيتان وساطعتان سطوع الشمس، أولاهما أنها ثورة فتية وشابة هيمنت عليها الأجيال الجديدة بكل عنفوان غضبها وأحلامها وتطلعاتها، فضلًا عن حداثة وعصرية أدواتها (إنترنت وخلافه)، فأما الحقيقة الثانية فهى تنوُّع تشكيلة القوى والشرائح الطبقية التى فجَّرتها وأبقت على جذوتها مشتعلة، وهى تقع كلها فى المساحة الاجتماعية الشاسعة الممتدة من الطلاب وشباب الطبقات المتوسطة (بشرائحها الدنيا والعليا) وحتى العمال وفقراء المدن وكتل المهمشين.. إلخ. هذا الطابع المدينى الشبابى عكس نفسه ببلاغة فى الأهداف والشعارات الرئيسية التى شق بها الثوار حناجرهم عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية ، ومع ذلك لأن هذه القوى التى كانت محرك الثورة ووقودها ضعيفة تنظيميًّا وفكريًّا، فقد تمكَّنت عصابة الإخوان الفاشية من السطو على ثورتهم والصعود فوق جثتها إلى أعلى هرم السلطة لمدة عام كامل، حتى تفجَّرت ثورة ثانية هائلة وأوسع مدى شعبى من الأولى.. هنا بالضبط يمكننا رؤية خط المواجهة، كما نستطيع أن نتحسَّس نقطة الصدام والضغط اللذين تتعرض لهما الأهداف والشعارات الثورية الراقية، من أسفل أى من واقع اجتماعى وطبقى مروع خلفته أربعة عقود كاملة من النهب والسحق والتخريب، وقد صار الفقر فيه ليس ماديًّا فحسب وإنما تطور بالزمن واستفحل وأضحى منظومة بؤس معنوى متكاملة ورهيبة جرى إشاعتها عمدًا باستخدام سياسات هوجاء أحدثت ترييفًا للمجتمع كله عقلًا وجغرافيًّا معًا.. بمعنى عدم الاكتفاء بالحفاظ على فقر الريف وحرمان أهله من أغلب أسباب الرفاه والتقدُّم، ولكن دائرة التهميش والتخلُّف المادى والفكرى اتسعت جدًّا بحيث اجتاحت مدن البلاد أيضًا، ومن ثَمَّ المدن لم تعد هناك فروقات كبيرة بين سمات ومنغصات الحياة فى الريف والحضر. وإذا كانت المظاهر المادية للبؤس الريفى المعمم على المدن صارت أسبابها الاقتصادية ومظاهرها الاجتماعية واضحة ومشهورة (تفاقم النزوح للمدن بحثًا عن رزق شحيح وفرصة عمل رث، وتضخم العشوائيات.. إلخ) فإن المظاهر الفكرية والثقافية لهذا البؤس لا تقع رغم خطورتها تحت ضوء يكفى لإظهار معالمها الفاقعة التى منها على سبيل المثال لا الحصر، مد حبال الصبر الطويلة للظلم، والنفور من التمرد، والمبالغة فى تمجيد السلطة والاستعداد للتجاوب مع دعاياتها والشعارات التى تبثها أبواقها، فضلا عن التجاوب مع أى محاولة لاستخدام الدين فى تبرير وتسويغ المواقف والمسلكيات الاجتماعية والسياسية. هل رأيت منطقة الصدام بين شعارات الثورة وأحلام الثوار وبين البؤس المزروع فى جسد مجتمعنا؟ هل أدركت صعوبة المعركة؟ ومع ذلك.. النصر ممكن جدًّا، بل هو الممكن الوحيد.