يوم الجمعة الماضى نشرت صحيفة «الشروق» مقالا ممتازا (كالعادة) للدكتور جلال أمين، عنوانه «التحليل الطبقى للثورة المصرية»، انصب على محاولة تحليل وفهم أسباب المأزق الحالى الذى تعيشه ثورة 25 يناير من حيث علاقتها بالسلطة الحالية (المجلس العسكرى)، التى ورثت حكم مبارك وعصابته بعدما نجحت الثورة فى خلعه من دون أن تملك القدرة على احتلال سلطة الدولة لتتولى تنفيذ أهدافها بنفسها، وخلص الدكتور جلال إلى ما معناه أن مظاهر التضاد والتناقض الصارخ بين طموحات الثوار وسلوك وأفعال (أو لا أفعال) جنرالات المجلس التى راحت تتراكم بسرعة على مدى تسعة أشهر، تؤكد صواب فكرة كارل ماركس الشهيرة أن الدولة (بمعنى المؤسسات وليس بمعنى الإقليم أو البلد) ليست محايدة بين طبقات المجتمع وأن «أصحاب السلطة فى أى بلد وأى عصر هم ممثلو الطبقة المسيطرة اقتصاديا، وهم يستخدمون (مؤسسات) الدولة، وعلى الأخص الشرطة والجيش، لضمان استمرار تمتع هذه الطبقة بامتيازاتها، ومن ثم يستخدمون (المؤسسات المذكورة) فى قهر الطبقات المظلومة ومنع أى محاولة من جانب هذه الطبقات للثورة عليها». وانطلاقا من هذه الفكرة استعرض الدكتور جلال أمين ملامح الوضع الطبقى الذى خلفه حكم حسنى مبارك وسلفه أنور السادات، لا سيما ما يتعلق بطبيعة الطبقة التى عبرا عنها وغذياها وعملا بدأب على تسمينها حتى توحشت «وسخرت كل سلطات الدولة لخدمتها من جيش وشرطة وقضاء ورؤساء الوزارات والوزراء، حتى إذا ما جاءت آخر حكومة من حكومات مبارك وجدنا سلطات الدولة تتوحد مع رجال هذه الطبقة توحدا لم تعرف له مصر مثيلا من قبل، ورأينا تزاوجا تاما ومكشوفا بين أصحاب المال وأصحاب السلطة إلى درجة تولية منصب الوزير لمن كانت أعماله الخاصة وشركاته تخضع لهذه الوزارة». إذن، وبناء على هذا التشريح والتحليل للوضع القائم والمهيمن تماما على مؤسسات دولتنا عشية قيام الثورة، فإن الدكتور جلال يرى خطأ الثوار (هو خطأ اضطرارى على كل حال) يكمن فى «ظنهم أن الدولة يمكن أن تكون محايدة بين الطبقات، وأن المجلس العسكرى، الذى عايش وصادق وزامل الحكام، الذين كان الثوار يطالبون بعزلهم، يمكنه أن يتنكر بين يوم وليلة للطبقة التى ينتمى إليها». والحال أننى ليس عندى ما أضيفه إلى الحقائق التى تتبعها ورصدها الدكتور جلال أمين، فقط أسمح لنفسى (بقدر ما تسمح هذه العجالة) بمحاولة إلقاء الضوء على جانب أو بُعد آخر من أبعاد الوضع الطبقى، الذى تكابده ثورتنا ويضغط عليها حاليا من أعلى ومن أسفل، فإذا كان مقال الدكتور جلال آنف الذكر اجتهد لإزاحة الغيم عن طبيعة السلطة، التى سقطت فى يدها مهمة إدارة المرحلة الثورية الانتقالية، بينما هى لا تكاد تقتنع بأغلب أهداف الثورة، خصوصا ضرورة اجتثاث النظام المدحور بكل ما يمثله طبقيا وسياسيا، بل وتقاوم ابتلاع حقيقة أن ثمة ثورة تفجرت أصلا، وإذا كان ذلك يمثل الضغط العلوى على هذه الثورة، فإن الضغط السفلى عليها (أظنه الأهم والأخطر) يأتى من مجمل البناء الطبقى والمجتمعى القائم الذى صنع بدوره بيئة ذات سمات وملامح معينة من شأنها أن تقاوم إنزال شعاراتها وأهدافها وأحلام أصحابها من فضاء الهتافات والشعارات إلى أرض الواقع. وحتى يتضح قصدى أبدأ بأن ما فعله نظام حكم الثنائى (السادات ومبارك) فى مجتمع المصريين طوال سنوات العقود الأربعة الأخيرة من تاريخنا الحديث، لم يتوقف عند حدود رعاية وتسمين طبقة فاسدة متوحشة، وتمكينها من الهيمنة المطلقة والمباشرة على مؤسسات وسلطات الدولة التشريعية والتنفيذية جميعا، وإنما رافق تصنيع وتخليق هذه الطبقة عملية «ترييف» (من الريف) وإفقار قاسٍ وواسع النطاق وإشاعة ألوان مختلفة ومبتكرة من البؤس، بحيث صار هذا الأخير عنوانا شاملا للحياة فى مجتمعنا (ريفا وحضرا) فهو ليس بؤسا ماديا فحسب (40 فى المئة من السكان تحت خط الفقر)، وإنما بؤس فكرى وقيمى وروحى وعقلى تجاوز حدود الطبقات المحرومة من التعليم والثقافة وجرى تسييده وتعميمه (بوسائل لا حصر لها) كنمط حاكم وعابر للطبقات جميعا، فقيرها ومتوسطها بل وغنيها.. هذا «الترييف» وذاك البؤس المتنوع ماذا يعنيان؟ وما علاقتهما بقدرة ثورتنا على المرور بقيمها الراقية وأهدافها النبيلة فى مجتمعنا الراهن؟ سأحاول الإجابة غدا إن شاء الله..