ما يحدث بتركيا جدير بالتأمل ؛ لقد دفعوا بتجربتهم المميزة نحو التقهقر، وجروها من منطلقاتها الإيجابية إلى عكسها تماماً ؛ فبعد «لا للأدلجة»انغمسوا فى الصراعات الأيدلوجية، وقالوا فى البداية لا للمشكلات مع الخارج، والآن من الصعب أن تحصى عدد أعداء تركيا، وأعلنوا لا للشمولية ولا للصدام مع العلمانية والأقليات، والآن وضعت العلمانية والأكراد بل قيم التنوع والتعددية والحريات ذاتها على قائمة المستهدفين . العدالة والتنمية بدأ منسجماً مع برنامجه المكتوب لسنوات قليلة فابتعد عن صراعات الهوية وكان تركيزه على الخدمات ومشكلات الناس الحياتية والحوار مع القوى المختلفة، وأظهر احتراماً لحقوق المواطنين بدون تفرقة على أساس الدين أو العرق كما جاء فى لائحة الحزب الداخلية وظهر التناغم بين قادة الحزب ووضح من خلال الأداء العام أنهم يولون الأكفأ، أما اليوم فكأن كل ما سبق كان صرحاً من خداع فهوى؛ حيث تمضى التجربة إلى هاوية الاستبداد السياسى بغلاف دينى وإسكات جميع الأصوات وكسر جميع الأجنحة ليظل صوت أردوغان وحده باسطاً أجنحته لا يعارضه أحد من داخل حزبه أو من خارجه، لذا سعى للسيطرة على القضاء وضيق على الإعلام وحبس مخالفيه وأقصى معارضيه، ولم يعد هناك حديث عن محاربة الفساد بل عن ثروات أبنائه بلال وأحمد مع تراجع الاقتصاد ومعدلات النمو، وصار يعتقد أنه لن يقدر على إحكام سيطرته على مقاليد الحكم إلا بطمس أثر أية ممارسة سياسية مخالفة لتوجهه، سواء من يساريين أو ليبراليين وعلمانيين وعلويين وأكراد وحتى من رفاق دربه ، ولكيلا يتحدث أحد عما يرتكبه أردوغان فى حق تجربة حزبه والتيار الذى يمثله وفى حق بلده صادر ملكية الصحف وطرد إدارتها خلال ساعات معدودة ، بل علق على قرار للمحكمة الدستورية العليا بإخلاء سبيل أحد معارضيه من الصحفيين بقوله «لا أحترم قرار هذه المحكمة ولن ألتزم به»! وينقل عنه نائب فى حزبه قوله «نحن لا نحتاج إلى الإستشارة بل إلى الاستخارة» ، ويتحدث رئيس البرلمان إسماعيل قهرمان عن خطط كتابة «دستور دينى»، وطويت صفحة الحريات ومن يعارض فهو متآمر، وأمر باعتقال فتح الله كولن وأطلق على جماعته «منظمة كولن الإرهابية»، ويدير مصطفى فارانك كبير مستشارى أردوغان غرفة عمليات إعلامية داخل القصر الجمهورى لتشويه كل منتقديه وإجبارهم على التحول لتابعين له خارج الحزب وداخله ، وتحولت تركيا إلى سجن كبير، وهاهو يعلن نفسه فوق الجميع؛ القضاء والصحافة والمعارضين والأقليات ومن خالفه داخل تياره، لتكتمل أسطورة الزعيم الأوحد باختيار موظف بدرجة رئيس حزب وحكومة بديلاً عن آخر رفاق الدرب المحالين للتقاعد أحمد داود أوغلو مهندس التجربة وفيلسوفها الذى لحق بمصير عبد الله جول وبولند إرينخ ، وبتعديل النظام إلى رئاسى لتصبح كل الخيوط بيده وحده . لم يعد خافياً أن أردوغان يسعى لحل حزب «الشعوب الديمقراطى» الكردى فأسقط عضوية أعضائه بتهمة التعاون مع منظمة إرهابية لذبح القضية الكردية بالتزامن مع الحرب الشاملة ضد «حزب العمال الكردستانى» وجمهوره فى المدن والريف، ولإفساح المجال لسيطرة العدالة والتنمية على البرلمان بدون مشاركة الأكراد وللحصول على النسبة التى تساعده فى إقرار الدستور الجديد وتكريس الشمولية الدينية . وليست الأوضاع الخارجية بأقل سوءاً حيث انتقلت تركيا من تصفير المشاكل إلى إنتاجها وتصديرها، ومن كسب الحلفاء إلى صناعة الأعداء وإشعال الصراعات داخل الدول العربية ، لتظل مأساة سوريا وشعبها شاهدة كذلك على غرائبية طموحات بائع سميط ولاعب كرة لم تكفه الهيمنة على الداخل التركى بل أراد الشرق الأوسط كله تحت إمرته ووفق رؤيته ورهن إشارته لاغياً كل الآخرين، رغم أن رفيقه الذى أطاح به «عبدالله جول» حذره من أن تنقلب سوريا جحيماً على تركيا بعد خسارتها لجميع أصدقائها العرب، وأنه لن يقدر «أن يكون أيضاً رئيس حكومة سوريا ومصر». كمال كيليتشدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهورى المعارض دق جرس الإنذار بقوة مؤكداً أن ما يفعله أردوغان يهدد السلم الاجتماعي، وأن حرمان الجميع من حقوقهم السياسية سيؤدى حتماً إلى حرب أهلية قائلاً:«إذا كنت تريد نظاماً رئاسياً ، فلن تستطيع فرضه من دون إراقة دماء»، لأن من شأنه إلغاء مكونات المجتمع التركى الأيدلوجية والإثنية والمذهبية ، ومن حُرموا حقوقهم سيسعون لنيلها بالقوة ، لذا تعزز ممارسات أردوغان من فرص اشتعال الداخل التركى بالصراعات الإثنية والعرقية، فضلاً عن أن تحويل تركيا لشبه سلطنة دينية يدعم سيناريوهات التقسيم ويغذى نزعات الانفصال على خلفيات طائفية وأيدلوجية . طالما شبه أردوغان نفسه بالسلاطين العثمانيين مستحضراً أمجادهم، ومؤخراً شبه نفسه بهتلر، وهو بالطبع يقصد البدايات من سيطرة تامة على السلطة وتشبث بها مهما كلف الأمر من حروب داخلية وخارجية معتمداً على التعبئة والحشد الموجه ، لكن ماذا بشأن النهايات وكلا النموذجين العثمانى والنازى يلمحان لاستشعار قرب مرحلة السقوط الذى لا يمكن تلافيه ؟ يقينى بأن أردوغان يجيد البدايات فحسب ويجهل التعامل مع ذروة الحدث وإلا لما أجهض تجربته بهذا الشكل وفشل فى إتمامها كما يجب، ولدينا نموذج عثمانى عندما تنازل السلطان عبد الحميد عن جاهه وحكمه من أجل بقاء وطنه موحداً، فسلم الكماليين الحكم ومنع قواته من الاشتباك والدفاع عن القصر حتى لا تراق نقطة دم تركية واحدة وحتى لا تتمزق تركيا كما تمزقت الخلافة ! لكن يبدو أن شغف أردوغان وكبرياءه يجعلانه يفضل النهاية المأساوية، كما هلك الألمان حين مشوا خلف هتلر وهم يهتفون له «هيل هتلر». لمزيد من مقالات هشام النجار