رئيس المنظمة الكندية المصرية لحقوق الإنسان سيطر الحديث حول الدولة الدينية, ومعناها ومقارنتها بدولة الفقيه الشيعية في إيران, علي الساحة المصرية علي مدي شهور قبل بداية الاستعداد للانتخابات التشريعية التي انتهينا منها علي خير! وكان تيار الإسلام السياسي, ممثلا بحزب الحرية العدالة وأحزاب أخري محسوبة علي نفس التيار قد أكدت, ومعها مرجعيات إسلامية, أن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية, علي الرغم من أن الدولة المدنية التي ما برحوا يتحدثون عنها ذات مرجعية إسلامية!! لا شك أن هذه المعادلة بدت بعيدة عن المنطق اللغوي كما هي بعيدة عن المنطق القانوني, إذ كيف تكون المرجعية دينية ودون الارتكاز علي مرجعيات أخري في الوقت نفسه, و مع ذلك تبقي مثل هذه الدولة غير دينية! هذا مع العلم أن المرجعية الدينية المشار إليها في الحالة المصرية ليست محددة, فهل هي مبادئ الشريعة أم الشريعة أم أحكامها؟ الأمر الذي عصي علي الفهم والتفسير, حتي عند بعض مرشحي انتخابات رئاسة الجمهورية في مناظرة دارت بين أحد المحسوبين علي تيار الإسلام السياسي وآخر يمثل التيار المدني والدولة المدنية حسب تفسيره وتأكيده أي القائمة علي النظام الديموقراطي واحترام حقوق الإنسان طبقا للشرعة الدولية! كان فضيلة الإمام الأكبر الدكتور/ أحمد الطيب, شيخ الأزهر, قد أدلي بدلوه في هذه المسألة أخيرا, في حديث تليفزيوني, بقوله إن مبادئ الشريعة الإسلامية لا تختلف عما جاء بالشريعة اليهودية أي الوصايا العشر وهو ما جاء أيضا في الديانة المسيحية. ولا شك أن جوهر المسألة هو بالفعل واحد( كما أعلم وأعتقد), ومع ذلك فالمسألة من الناحية التاريخية وفي الممارسة الفعلية, وخاصة في الواقع السياسي الإسلامي نفسه, فيها وجهات نظر متعددة طبقا للظروف التاريخية وتعدد المدارس الفقهية. لا شك أيضا أن دور الأزهر المعبر عن الإسلام الوسطي وحامل راية التجديد الديني, أسوة بمن سبقه من العلماء الأفاضل, أمثال محمد عبده, ومحمد مصطفي المراغي, وعلي عبد الرازق, ومحمود شلتوت كثيرا ما واجه معارضة من المتشددين. ولا شك أن تلك الجماعات المتشددة تقف كعقبة كأداء في طريق تطور الفكر الإسلامي, وخاصة في مجال المعاملات, ومواكبة التطور الإنساني الذي لا ينبغي أن يتعارض مع المبادئ العليا للشريعة ومقاصدها. ويبدو أن فصائل تيار الإسلام السياسي في المنطقة العربية لاتزال تعاني الجمود الذي يمنعها من قبول النظام الديموقراطي المعاصر والقائم علي التعددية السياسية والثقافية واحترام حقوق الإنسان وحرياته, الأمر الذي انكشف للمواطن المصري في الآونة الأخيرة, وبشكل فاضح. عبرت تصرفات التيار السياسي المتأسلم عن أزمته وجموده, إذ بعد أن كان قد أكد انفتاحه علي التيارات السياسية الأخري وعقد مع البعض منها ائتلافا ديموقراطيا, إذ به يتراجع وينفصل ثم بتحرك باعتباره ممثلا للأغلبية الغالبة فيسيطر علي أغلب اللجان النوعية في البرلمان, ثم يشكل اللجنة التأسيسية للدستور بشكل يتعارض مع قواعد تشكيلها, فيرفضه المجتمع المصري كله, ثم يواصل تحركاته بشكل مكشوف محاولا تعديل قانون المحكمة الدستورية العليا ليجعل منها هيئة استشارية. ومع بدء الانتخابات الرئاسية الحالية يبدو للعيان أن الصراع علي رئاسة الجمهورية هو في واقع الأمر حلقة جديدة في الصراع علي طبيعة الدولة المصرية لكي تكون دولة دينية أو كما يسمونها أحيانا مدنية بمرجعية إسلامية ويسعي إلي إقامتها تيار الإسلام السياسي. وفي الجانب الآخر, هناك مرشحو التيار المدني, والدولة الديموقراطية الحديثة. كشفت تصريحات مرشحي التيارين المتنافسين في الأيام القليلة الماضية بشكل واضح عن هاتين الرؤيتين المتعارضتين لطبيعة الدولة التي يسعي كل منهما إلي إقامتها. وقد بدا للجميع, من خلال تصريحاتهم في جولاتهم الدعائية, والتي عرضوا فيها برامجهم ووعودهم كرؤساء محتملين, إن مخاطبتهم ولأول مرة لكتل تصويتية مهمشة, مثل بدو سيناء والقبائل العربية بالصعيد ومطروح, والنساء, والأقباط, وأهالي النوبة, بهدف كسب أصوات تلك الفئات التي يمكن أن تقرر الفائز بكرسي الرئاسة في نهاية السباق, بعد أن كانت تلك الأصوات لا قيمة لها في حسابات انتخابات النظام البائد, المحسومة سلفا بالتزوير. وتعد مشاركة كل هده الفئات مع بقية الفئات المصرية الأخري في عملية التصويت بوعي كامل تعني في النهاية أن مصر قد بدأت أولي خطوات الممارسة الديموقراطية. من جانب آخر, قد يبدو أن مرشحي التيار المدني قد يحصلون علي أغلب أصوات الفئات المشار إليها, إذ جاءت وعودهم واضحة وفي إطار المواطنة وحقوق الإنسان ومناهضة كل أشكال التمييز الذي عانت منه تلك الفئات علي مدي عقود, وهو ما لم يكن واضحا لا في برامج أحزاب تيار الإسلام السياسي ولا في تصريحات مرشحي أصحاب الدولة الدينية, أو الدولة المدنية بمرجعية إسلامية غير محددة المعالم. الأمر الذي يقلق قطاعات عريضة من المجتمع المصري بوجه عام, وخاصة أن مصر الآن لا تحتمل تجربة نظرية حكم غير مكتملة المعالم, ولم يسبق تجربتها في بر مصر, بل وفشلت فشلا مأساويا في بلاد أخري. أن إصلاح أوضاع مصر الاقتصادية والاجتماعية تشكل أكبر التحديات التي ستواجه الرئيس الجديد وكل سلطات الدولة الأخري; ولذلك, فالمطلوب الآن هو التركيز علي الأمور الحياتية الأساسية, بعيدا عن الإيديولوجيات التي يمكن أن تعرقل عملية البناء المؤسسي والإداري. و يجب أن نعي أن مصر في الأزمة القائمة ليست تركيا ولا هي ماليزيا, مثلا! ويمثل تحقيق طموحات كل فئات الشعب المصري, بمن فيهم الفئات المهمشة, هو ضمان لمشاركة كل المصريين في تحمل عبء إعادة بناء الدولة المصرية الحديثة, ومن ثم جني ثمار العمل المشترك في كل المجالات دونما إقصاء أو تمييز. إنها حلقة مكتملة, ولا يمكن أن تكون إلا هكذا. وهذا ما يمكن تحقيقه إذا صدقت النيات وكان الولاء للوطن أولا حتي إذا جاء الرئيس من تيار الإسلام السياسي في حال التزامه باحترام حقوق كل المواطنين دونما أي تمييز علي أي أساس. فهل يتحرك تيار الإسلام السياسي ويعلن بوضوح عن التزامه بحقوق المواطنة الكاملة لكل المصريين, حتي تكون العملية الانتخابية برمتها قائمة علي أسس واحدة, بعيدا عن الاستقطاب الديني الذي لا يصح أن يكون في مصر أم الدنيا وحاضنة الأديان جميعا مند ما قبل التاريخ!