"نعيش فى عالم فاسد".. تواطؤ وتستر وتمرير للفساد بكل صوره سواء المالى أو السياسى أو الاجتماعي.. نعيش داخل حالة من "تطبيع الفساد"، كأنه العادى والمألوف وليس الاستثناء المنافى للقانون ولسيادة الدول. فلا توجد دولة فى العالم، سواء كانت متقدمة أو نامية، لا تعانى من هذا "السرطان"، ولذلك لا يمكن تجاهل حقيقة أن قمة لندن، التى استضافتها بريطانيا الخميس الماضي، دقت جرس الإنذار، وتمكنت من تحويل العالم من مرحلة الإنكار والتعايش أو التكيف، إلى مرحلة الاعتراف بوجود الأزمة. وخلال الفترة الماضية، كشفت آلاف الوثائق التى فضحت تواطؤ ومشاركة عشرات القادة والمؤسسات المتعددة الجنسيات والبنوك العالمية والأفراد فى سلسلة من العمليات المالية القذرة عن "تطبيع الفساد". ولعل فضائح مثل "أوراق بنما" أو "أونا أويل" أو الاتحاد الدولى لكرة القدم "الفيفا" أو إقالة رئيسة البرازيل ديلما روسيف بسبب تورطها فى فضائح فساد أو ما تردد حول دفع اليابان رشاوى لنيل استضافة أوليمبياد 2020، وغيرها، كفيلة بالقول إن نعيش فى هذا "العالم الفاسد". ففضيحة "أوراق بنما" كشفت تورط عدد كبير من قادة العالم سواء الحاليون أو السابقون فى إخفاء أموالهم أو تدويرها فى ملاذات ضريبية آمنة، كما أظهرت فضيحة "أونا أويل" حجم الفساد الحقيقى داخل صناعة البترول، والذى تورط فيه عشرات الساسة والموظفين والشركات البارزة فى شبكة عالمية رفيعة المستوى من الرشوة واستغلال النفوذ. مكتب "موساك فونسيكا" البنمى للمحاماة وشركة "أونا أويل" بإمارة موناكو تحكما فى تدوير مئات المليارات من الدولارات، وكان من كبار المتضررين من أعمال هاتين الشركتين الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن مفهوم الفساد متشعب، فإن البنك الدولى وضع تعريفا بسيطا ومباشرا حيث حدده بأنه "استغلال المنصب العام لتحقيق مكسب شخصي"، فهو ظاهرة معقدة، تمتد جذورها داخل المؤسسات البيروقراطية والسياسية ويتراوح تأثيرها على التنمية على حسب حالة الدولة من حيث التقدم أو التأخر الاقتصادى والسياسي. وحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، فالفساد بالقطاع العام يكبد الاقتصاد العالمى خسائر تتراوح بين 1٫5 تريليون إلى تريليونى دولار سنويا فى صورة رشاوى ويتسبب فى تكاليف ضخمة أكبر تتمثل فى إضعاف النمو الاقتصادى وفقدان إيرادات ضريبية واستمرار الفقر. وعلى الرغم من أن بريطانياوالولاياتالمتحدة ظهرتا خلال القمة كرعاة رسميين لمكافحة الفساد فى العالم، فإنهما تحدثتا بلغة تتسم بالإنكار، فالفساد يستفحل فى الأنظمة المالية لكل من الدولتين، فالشركات فى لندن وفى وول ستريت تدفع عشرات المليارات من الغرامات بسبب الاحتيال المالى والتلاعب فى الأسعار وغيرها من الجرائم المالية، كما أن البنوك الأمريكية والبريطانية الكبرى تعتبر جزءا من شبكة عالمية للجرائم المالية المنظمة. وفى بريطانيا وحدها، توجد "منابع الفساد" أو ما يطلق عليه ملاذات ضريبية آمنة مثل جزر كايمان وبيرمودا والعذراء وأنجولا وآيل أوف مان، وتتعرض المملكة المتحدة نفسها للانتقاد بسبب انعدام الشفافية، فمن أصل 214 ألف شركة يمثلها مكتب موساك فونسيكا الذى يتصدر فضيحة "أوراق بنما"، يتمركز أكثر من نصفها فى الجزر العذراء البريطانية. وتلقب "سيتى أوف لندن" بالإمبراطورية البريطانية الثانية حيث تضم حوالى ثلث أنشطة شركات الأوفشور العالمية. واهتزت مصداقية وسمعة ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطانى نفسه بعد ورود اسمه فى وثائق بنما، وهو ما اضطره للاعتراف بأنه امتلك حصصا فى شركة والده إيان الذى توفى فى 2010. لكن يحسب لكاميرون أنه قاد جهود توقيع عشرات الدول على أول بيان عالمى لمكافحة الفساد، وأن العالم اجتمع "فى أكبر حشد للإرادة السياسية منذ سنوات عديدة"، على حد قوله. كاميرون تعهد بتدشين مركز دولى لمكافحة الفساد وتبادل المعلومات حول ملكية الشركات وإجبار المشترين الأجانب على الكشف عن المصدر الأصلى للأموال التى اشتروا بها أصولا فى الدولة. وأعلنت خمس دول هى فرنسا وكينيا وهولندا ونيجيريا وأفغانستان عن تسجيل الملكية الحقيقية للشركات، بينما تعهدت كل من أستراليا ونيوزيلاندا والأردن وإندونيسيا وآيرلندا وجورجيا باتخاذ إجراءات مماثلة. كما لم ينكر جون كيرى وزير الخارجية الأمريكى أن "الفساد يشكل عدوا تفوق خطورته خطورة الإرهابيين الذين نحاربهم، لأنه يدمر الدول"، وأعلن أنه سيتم عقد قمة مماثلة لمكافحة الفساد فى الولاياتالمتحدة العام القادم حيث ستشارك فيه بريطانيا تحت رعاية كل من الأممالمتحدة والبنك الدولي. وهكذا، يمكن اعتبار قمة لندن بداية مبشرة وإيجابية، على الرغم من آفاق الحلول لمشكلة الفساد غير مبشرة. ومن بين النتائج المثمرة لهذه القمة أن الدول الأربعين المشاركة وقعت على تعهد بفضح الفساد أينما وجد، وتعقب ومعاقبة من يعد ويسهل أو يشارك فيها، بالإضافة إلى دعم الدول التى تعانى منها، والتعهد بإنهاء استغلال الشركات المجهولة لإخفاء عائدات الفساد، وطرد المحامين والسماسرة والمحاسبين الذين يسهلون أو يشاركون فى الفساد. وينضم بيان لندن إلى دعوة القوى الصناعية والناشئة الكبرى فى مجموعة العشرين إلى اتخاذ إجراءات ملزمة ضد الملاذات الضريبية. والسؤال الآن هو : كيف تستفيد دول الشرق الأوسط، وفى مقدمتها مصر، من هذه القمة وإعلانها ضد الفساد خصوصا فى ظل وجود الكثير من الأموال المهربة إلى هذه الملاذات الضريبية الآمنة، والتى أخفيت داخل شركات وهمية؟ ولعل العراق سار على الدرب، وبدأ فى محاولات للكشف عن ملابسات فضيحة "أونا أويل" التى هزت صناعة البترول العراقية، حيث استعان بفريق محققين دولى من أجل استرداد الأموال المنهوبة والمتورطين الفارين فى القضية. إذن، قمة لندن بداية.. وعلى الجميع التحرك العاجل والسريع لمكافحة الفساد "قاهر الأمم".