فى اعتقادى أن المناخ العالمى تغير على نحو لم يتحسب له أحد، وأن الخرائط الملاحية القديمة لم تستطع فى ظروف مستجدة أن تتوصل الى رسم خرائط ملاحية جديدة للبحور العميقة والرياح العاصفة والصخور الغارقة تحت السطح، وأن خرائط المنطقة العربية ترسم من جديد وبالتوازى توجد خريطة عالمية للمستقبل اعتُمدت رسومها الهندسية فى غرفة الاعداد الاستراتيجى الأمريكى، وأن خاتمة القصة ليست هى ما نراه أمامنا، واذا رأينا الستار ينزل فإنه ينزل على مشهد لا يلبس أن يرتفع بعده لتظهر وتتحرك ابتداء منه واتصالاً به مشاهد أخرى. فى الخارج قوة ترسم حدودها كما تشاء وتحوِّل هيمنتها إلى نوع من الحق، هى من قبل تآمرت على تقسيم العالم واليوم تتواطأ على بلع العالم، والأخطر أن هذه القوة تعلمت كيف تكسب ولم تتعلم كيف تخسر، وهى بسياستها تخلق عذاباً حضارياً على مستوى الانسان والكون، وأن محاولة فهمها ضرورة حيوية للتعامل معها على الرغم من أن غايتها أن يظل المصريون وراء التاريخ وتحت المستقبل، ولعل ذلك يتبدى فى محاولة اعادة هندسة الجسد التاريخى للمنطقة العربية وإعادة تركيبه ولو بجراحة زرع الأعضاء وإعادة تخليقها بحقن الخلايا، وهى جراحة جغرافية لها مضاعفاتها الاقليمية التى تمتد إلى البعد النيلى والافريقى بحيث يمكن تفتيت مصر بالذات تفتيتاً ذريًّا حتى تضمن وراءها نسيجاً متهالكاً وإقليماً راكعاً تعيش شعوبه أقل من حياة وأكثر من موت، لأنه عندما تفكر مصر وتتنبه فان الأمة كلها ستتحرك وراءها. وسط هذه الدراما الكونية المروعة التى غطت وجه المنطقة كلها بالنار والدم نجد بيننا «نخبة» تخصصت فى تزييف الوعى وقلب الحقائق بالتواء أسلوب وانحراف منهج وإغتصاب دليل وبالتالى فإن على هذا الشعب العظيم تقع مسئولية حماية الوطن وأنه وحده الذى يستطيع، وأنه بمفرده الذى يقدر أن يرد ويصد ويمنع ويردع. فى الداخل مع ان النُخَب هى التى تحرك التاريخ ، غير أنها فى بعض الأحيان قد تكون رمز آخر للظلام، وأنها فى بعض الأحيان قد تكون أكثر الكلمات التى تَمقِتها اللغة، ذلك بما تقدمه من شطط أفكار وجنوح آراء تؤسس لعداوات تبقى زمناً طويلا يتوارثها الأجيال المتعاقبة. ولعل قراءة المدقق لتاريخ هذه الآفة المقيمة فى اللغة ، تؤكد أن مصر بُليت «بنخبتها» أشد من ابتلائها بأعدائها، وأنها مجرّد «نخبة من الألفاظ» تعمل بالثقافة، لديها زهو فارغ، ونبرة استعلاء جوفاء، ووهم التفوق والامتياز ، لم تتحرر من عبادة السلطة وتقديس المناصب مع أن بعض الكراسى لا تأسف على شاغليها من الأحياء قبل الأموات. «نخبة سياسية أخرى جوفاء» مصنَّعة من الشعارات، تعمل بالسياسة غالبا لا تقدم لنا إلا وطنيات متعارضة وكلها مقهورة وزائفة، لا تتفق إلا على عدم الاتفاق والتصدع والانشقاق والتقصّف وكلها ليست علامة أزمة بقدر ما هى علامة انهيار. ليس لدينا «قوى سياسية» بالمعنى العميق للكلمة المتعارف عليه فى علم السياسة، القوى السياسية عندنا كلمة مضللّة وهى تدفع للذهن بمكونات بعيدة ولا صلة لها بالحياة السياسية واقعاً وممارسة، هى مجرّد إنشاء لفظى لا تتخطى شكلها اللغوى ، بعبارة أكثر استقامة ونفاذا الذى لدينا هو «تدبير له شكل سياسى» لتجارة بين أطراف تسيّرها المصالح الاقتصادية ومصالح أخرى من كل نوع، لا توجهها سياسات وإنما تغويها «غنائم» صغيرة آنيّة عاجلة ومخطوفة، وهى تعمل على تسويق آراء تؤدى إلى أزمات «إضافية» وليس حلولا لأزمات «أصلية»، ثم أنها معطلة عن المستقبل أكثر مما هى موصّلة إليه، تقدم تصورات تفتح الباب لمرحلة من التاريخ مزدحمة على الآخر بمطالب أقرب إلى الخرافات، متناقضة مع الواقع لا تتحقق فى «الخيال». . أزمة هذه الخلطة من الائتلافات السياسية أنها لم تقدم فكرة لها جاذبية النفاذ الى الناس والربط بينهم بجامع مشترك يقبله الواقع ، الحلول عندها ليست الا مشكلات معطلة عن المستقبل أكثر مما هى موصلة اليه، ثم إنها تفقد الانسجام بين عناصرها لأن كلا منهم فى نزاع مع غيره على ما يستطيع تحصيله من الغنائم الآن وبغير انتظار، لا تعتمد على « أفكارٍ» وانما تعتمد على «أشخاص» من الساعين لتوجيه الرأى العام بما يضمن حماية ملكيتهم، وتأمين احتكارهم، ويعيشون على مجد تاريخى أكل عليه الدهر وشرب. السفينة تواصل رحلة الأمل: أن تتوحّد ارادة الأمة ومشاعرها على رجل استقر البعد الانسانى فى وجدانه، يحمل الفكرة والمشروع والتجربة، هذا معناه اعترافاً بوطنيته وبجدارته واقتداره وأن له تأثيرا لا يزول، وهو حين استطاع أن يحوّل دفة السفينة وهى تسير فى منطقة الأمواج العاتية فى اتجاه مياه بلون الغرق وكان يصدُر عنها استغاثة تستدعى رجلاً منقذاً ومُخَلّصًا ومقدراً لسرعة الرياح لتعود إلى مواصلة رحلة الأمل على رياح مواتية على موج رفيق بالسفينة وركابها، كان ذلك معناه أنه رجل منتصر على درجة عالية من تحمل المسئولية الوطنية، أحلامه ليست بعيدة عن متناول عزيمته، ويحمل فى صدره أملا قادرا على تحقيقه بالعمل الدؤوب، لايجرفه الحدث وإنما يتأسس به التاريخ، ولأنه دائما ما يترفع على ما يثار من مهاترات وتخرصات، فقد وجد له موطئاً فى أفئدة الجماهير التى خرجت ورسمت بوعيها وصلابتها طريقا نحو الحقيقة الشائعات. ان يقظة الارادة تستدعى ثقافة التجربة ثم إن ثقافة التجربة بدورها تستدعى حكمة العقل، فى أفق هذا المعنى علينا أن نتوقع هذا النوع من الشائعات، فهناك لذلك دواع نعرفها ونقدرها سلفا ، ان درجة التصديق العام لهذا النوع من الشائعات تكاد تكون معدومة ، ذلك أن الناس ازاء أى حملة من هذا النوع يتساءلون : لماذا الآن؟ ومن القائل؟ وماذا يقول؟ أعتقد أنه يكفى أن يسأل الناس أنفسهم هذه الأسئلة قبل أن يتوصلوا الى جواب، فالوجدان القومى لشعبنا لم يفقد وعيه فى دوامة الفوضى، وأن منظومة القيم لديه جزء لا يتجزأ من العقد الاجتماعى وهى متصلة بالاتفاق على الهوية والثقافة، ومتصلة بالاقتصاد انتاجاً وتوزيعاً ، ومتصلة بالحرية تعبيراً وتشريعاً، ومتصلة بسيادة القانون لا يجوز اختراقها أو حتى خدشها. التعليم بجامع لغة النُطق الأم أقول: التعليم الجيد هو سند ملكية التقدم وأساس شرعيته وهو القاعدة والأساس المتين، ذلك حتى لا يتركنا التقدم وراءه بقايا من قرون خلت نوغل فى السراب وتتشعب بنا التفاصيل إلى وديان التيه والظلام ، جودة التعليم حتى لا تتألب علينا كل عوامل الغِى ونحن عنها غافلون، ذلك هو الدواء الوحيد بغير بديل اذا أردنا أن نَطمئِن أنفسنا الى أن الغد له مستقبل. ليس هو مما يليق ببلد هى كاتبة النّصْ الحضارى والانسانى على تعاقب الأجيال مع اختلاف العصورأن يظل التعليم فيه يعتمد على الأفكار المجمّدة والاملاء ، بحيث يبدأ فيه الطفل حياته بالنظر الى الحياة كأنها عبء ثقيل يجب الخلاص منه وأن تظل قيمة «المُعلم الحضارى» واعداده اعداداً جيدا بوًصفه زاوية البناء فى نظام التعليم غائبة . الأمر الذى يقتضى حضوراً مكثفاً من العقول المفكرة كافة للمشاركة فى اثراء وجدان الأمة ، على أن نَحذَرَ الغرق فى حديث «المنقول» لسهولته ، وتجنب حديث « المعقول» رغم أهميته فى وقت نحتاج فيه دخول ميادين الجهاد على الأقل لنعرف طبائع حروبنا ومعاركنا وأطرافنا وأهدافنا. فائض فى اللصوص: خطورة هذا «الوباء» أنه يحاورنا بطريقة مرّبكة، إذا حصرناه فى منطقة، اذا هو يظهر فى منطقة غيرها، وحصر هذا الوباء واخلاء مصر من مهالكه مسئولية «الجميع». بحيث نعيش فى دوَار لا ينتهى كما الدهماء، نجد من يدفعنا نحو البحث عن اجابة لهذه الأسئلة البلهاء: هل يمكن تسنين الفساد؟ وتحديد متى بدأ ؟ وكيف وصل وتراكم؟ مع أن من الخَطل أن نفترض أين ولد؟ أو تحديد متى بدأ؟ وان كان ممكناً أن نتعرف كيف وصل وتراكم؟ ذلك لتشتيت الانتباه الى أهداف ثانوية وتحويل الرأى العام عن جوهر الثورة وأهدافها العليا. من قال أن لدينا نقص موارد، نحن لدينا فائض فى اللصوص، وزيادة فى أجور من لايعملون، وثقافة الخرافة، وكراهية العمل، وعدم الاتقان والتواكل ، وعدم الانضباط ، وكلها خيوط العنكبوت التى لا تعرقل وإنما تشل ، ولابد أن نواجهها بيقظة الإرادة ووسائل المعرفة. يبقى ضرورة أن ندرك أننا نمرّ باختبار صبر وقدرة على الاحتمال، وأن الممكن المتاح معلق بسياسة نفس طويل تَقّدِر على المثابرة وعلى الصبر وتهيىء نفسها لكل الأجواء دون أن تفقد اتجاهها مع أى ريح أو تترك هدفها يضيع من مدى بصرها بعد أول منحنى على الطريق. عندما يواصل الدم كتابة التاريخ ، ويصبح القتل هو الذى يحكم الكون، اذاً لابد أن تبقى وحدتنا سليمة وأن نحافظ على الأمل والعقل والوعى، ونتذكر دائما أننا بلد راسخ وشامخ فيه الأزهر يحافظ على ضوئه الباهر والكنيسة تحافظ على أضوائها ودقات أجراسها منتظمة فى مواقيتها، وتلك وحدها هى ومضة إعجاز. لمزيد من مقالات د . محسن عبد الخالق