صعدت الصغيرة إلي نافذة الشقة التي تسكنها مع أسرتها بالطابق الثالث, وأطلقت العنان لتشاهد ما يدور في الشارع، وتستمع لأصوات المارة، في محاولة منها للتمييز بين أصوات كلاكسات السيارات المتداخلة مع ضوضاء التكاتك، وبفضول طفولي برىء، أخذت الطفلة تلوح للمارة كأنها تودع كل من وقعت عيناها عليه، بعد أن انشغلت الأم بأعمال المنزل، ليختل توازنها وفجأة سقطت في الشارع مفارقة الحياة. لم تفارق الابتسامة وجهها البرىء، ف«ملك» ذات السنوات الثلاث كان صوتها الحنون يملأ البيت، وهي تقول «بابا وماما»، وبالرغم من صغر سنها، فإن أمها راحت ترسم في مخيلتها مستقبلا مشرقا لصغيرتها، وتتخيل أنها تراها بالفستان الأبيض وتزف إلي منزل عريسها، بعد أن أكملت تعليمها وأصبحت طبيبة مثلما كان يتمني والدها، ولم يراودها الشك ولو للحظة أن عمر الصغيرة سيتوقف عند الأعوام الثلاثة. كانت الصغيرة متعلقة بأحضان أمها، لا تفارقها، حتي إنها عندما كانت أمها تقف في المطبخ، كانت تتمسك بثيابها، ولخوفها عليها من أن تلمس يداها الناعمتان الأواني الساخنة، كانت الأم تبعدها وتأتي لها بعرائسها القطنية وتجلسها في الصالة، وذات مرة انهمكت الأم في ترتيب الشقة، تاركة صغيرتها تلهو في المنزل، تفكك مكعباتها وتحاول تجميعها مرة أخري، وبحسها الطفولي راحت تتنقل من غرفة لأخري، وراء أمها وتمسك بملابسها، كأنها تقول لها: «مش عايزة أسيبك يا ماما»، إلا أن الأم الثكلي لم تعلم ماذا يخبئ لها القدر وأن ما سيحدث بعد دقائق ستعاني منه طوال حياتها بفقدانها ريحانة البيت. رأت الأم أن تعلق ابنتها بثيابها أثناء قيامها بأعمال المنزل سيعيقها عن إنجاز مهمتها، فأحضرت لها مجموعة من اللعب وتركتها تلهو بها في الشقة، وعندما أيقنت الطفلة أن أمها لن تلتفت لها إلا بعد الانتهاء من ترتيب الشقة، وقعت عيناها علي النافذة المطلة علي الشارع، وبخطوات بطيئة مشت نحوها، وفي غفلة من الأم تسلقت كرسيا ووقفت تراقب كل ما يدور في الشارع، فهذا ينادي علي صديقه، وآخر يستقل دراجة نارية، وعمو البقال يبيع الحلوي للصغيرات، وأطفال في عمر الزهور يلعبون الكرة، كل هذه الأحداث تمر أمام نظر الصغيرة، في الوقت الذي شارفت فيه الأم علي الانتهاء من تنظيف الشقة، ولم يدر بخلدها أن هناك صدمة نتنظرها ويحدث ما كان أثناء انشغالها بالأعمال المنزلية، ولم تمر إلا دقائق معدودة حتي فوجئت الأم بسماع صراخ متواصل في الشارع، ظنت أن مشاجرة قد نشبت بين الجيران، أو أن إحدي الدراجات النارية التي عادة ما تمر مسرعة من أمام المنزل قد صدمت طفلا، فنادت الأم علي الابنة فلم تجد إجابة، فهرعت إلي النافذة، وألقت نظرها علي الشارع لتري طفلتها غارقة في دمائها والجيران يلتفون حولها، ولا صوت يعلو فوق صوت البكاء، أصيبت الأم بصدمة من هول ما رأت، وكادت تلقي بنفسها وراء ابنتها، التي فقدتها في غمضة عين، وراحت تبدي الندم علي تركها.