فى «مومباسا» ميناء كينيا الرئيسى، وهى مدينة جميلة على المحيط الهندي، وظلت تحت الحكم العمانى لفترات طويلة. وقفت أتأمل ما صنعه الشاب الصغير فى دهشة وإعجاب. كان ينحت قطعة خشبية ببساطة وتلقائية، وأحسست برهبة أننى أمام فنان تلقائى يمتلك موهبة كبري، يستخرج غزالا من قطعة خشب. كان يكفى أن يقدم نفسه لى على أنه من قبيلة «ماكوندى» لأتقبل مهارته، فهذه قبيلة تشتهر بإبداعاتها التى تجاوزت حدود أفريقيا إلى العالم. ول «ماكوندى» أسطورة قديمة عن إنسان كان يعيش وحيدا فى البرية، انتزع قطعة خشب من شجرة وراح ينحتها حتى تشكلت على بين يديه على هيئة إنسان، وتركها فى الشمس، ويوما بعد يوم ظهرت له امرأة، اتخذها زوجة، وحملت منه بطفل، لكنه مات بعد ثلاثة أيام من ولادته، فطلبت الزوجة أن يهاجروا من جوار النهر إلى منطقة الأعشاب، وحملت فى المكان الجديد مرة أخري، ليموت الطفل أيضا بعد ثلاثة أيام، فطلبت امرأته أن يهاجروا إلى منطقة الأشجار الكثيفة ربما يكونوا أسعد حظا، وبالفعل فى وسط الأشجار الكثيفة، عاش الطفل الذى أنجبته هذه المرة، وكان هو أول «ماكوندى». الموطن الأصلى لهذه القبيلة شمال موزمبيق، ونزح العديد من أفرادها ليستوطنوا شرق أفريقيا، ومنهم «جورج ليلانجا» «بيكاسو تنزانيا» الذى حقق شهرة عالمية كأحد أهم التشكيليين فى أفريقيا، وهو من مواليد 1934 ومارس هواية النحت فى سن مبكرة، بتشكيل جذور نباتات »الكاسافا« اللينة المنتشرة فى مزارع أفريقيا، وهى درنات تشبه البطاطا ولها قيمة غذائية عالية. وبدأت شهرته عالميا عام 1978 حين عرضت له مائة قطعة فنية بمعرض فى واشنطن. زرت أحد معارضه فى دار السلام بتنزانيا، وجدت بعض أعماله البسيطة، وأخرى شديدة التعقيد وعميقة التجريد، برموز ومعان تتدرج من الوضوح إلى شدة الغموض. وبعضها يمثل علاقات اجتماعية خاصة، وأخرى شعرت أنها تعكس انطباعات روحية وطقوسية لها صلة بالتراث الشعب، والمعتقدات المتوارثة. وفى الماضى كان أغلب منحوتات القبيلة من الأدوات المنزلية الخشبية، للاستخدامات اليومية، وبعضها كان تماثيل وأقنعة تلعب دورا أساسيا فى طقوسهم القبلية، والرقصات الشعبية فى المواسم والأعياد، واحتفالات بلوغ الأولاد والبنات. والأقنعة لديهم للوجه، والجسد، والرأس، ولم يخطر على بالهم وهم يشكلون الأقنعة والتماثيل أن فنهم هذا سيكون مطلوبا حول العالم، وحدث هذا عندما بدأ المستعمرون البرتغاليين والإرساليات الأخرى يشترون منحوتاتهم، وزاد انتاجهم، وتطورت أدواتهم، وتغيرت تقنياتهم فى التشكيل، وازداد حماسهم بعد أول معرض لإبداعاتهم فى 1930 بمركز » دوس نوفوس الثقافي« فى موزمبيق، وباتساع شهرتهم راجت تجارة المنحوتات الخشبية حتى صارت نوعا من الصناعة المحلية وغالبا ما يكون الحفر على كتلة واحدة من الخشب، مهما كانت درجة التعقيد للتكوينات التى تتشكل، قد يصل طول قطعة الخشب مترين. ومعظم المنحوتات من أخشاب الأشجار الأفريقية المعروفة بلون خشبها الأسود وتسمى باللغة السواحيلية «مپينجو» «mpingo» وتعنى«الأبنوس» وهى أشجار معمرة، ومضادة للحريق، وواسعة الانتشار فى أفريقيا، من شمال إثيوبيا إلى جنوب أنجولا، ومن غرب السنغال إلى شرق تنزانيا. ولحاء تلك الأشجار طرى فاتح اللون، بينما قلبها صلب أسود اللون، مناسب تماما لطبيعة العمل. فخشب الأبنوس سهل الصقل والتشكيل، وتصنع منه الآلات الموسيقية، والمنحوتات الخشبية، وهو مرن فى تشكيله رغم صلابته، وحين يُصقل يصبح شديد اللمعان ومبهرا. ومع أول احتكاك لهؤلاء الفنانين بالثقافة الغربية، عرف فن الماكوندى الحديث، الفن الذى كان التجريد من أهم سماته. ومن معتقداتهم القديمة استلهموا أشكال أعمالهم، ومن أكثر الأشكال رواجا تلك التى يمسخون فيها الشيطان بملامح منفرة ومخيفة، وتبلور هذا الأسلوب على يد »سماكى ليكانكو« فى 1950 بسبب موقف طريف حدث له، فقد وقع من يده تمثالا كاملا وانشق إلى نصفين، كل نصف بحتوى على عين واحدة، ويد واحدة، وقدم واحد، ولدهشته عندما عرضهما منفصلين على هذا النحو على سبيل التفكه فوجئ بالاستقبال الحافل للنصفين باعتبارهما عملا كاملا مثيرا للإعجاب، ومن هنا زادت جرعة التجريد، حتى أن مسخ الأعمال وصل إلى مستويات شديدة الغرابة والمبالغة والغموض، وأطلقوا على هذا الطراز التشكيلى «shitani style» وأصبح معروفا على مستوى العالم، و«شيطانى» كلمة سواحيلية تعنى «الشيطان». ومن النماذج الأخرى الشهيرة، شجرة العائلة التى يسميها البعض شجرة الحياة، وأول من ابتدعها «روبرتو يعكوبو» الذى هاجر من موزمبيق عام 1950، وكانت المنحوتة تمثل بطلا للمصارعة محمولاً على أكتاف محبيه ومشجعيه، وبات نموذجا للمنحوتات واسعة الانتشار، والمتطورة والمواكبة للتغير، وهى تمثل مجموعات من الناس فى حياتهم اليومية، وتتضافر أياديهم وأجسادهم وهم يحملون بعضهم فوق الأكتاف فى تصاعد مستمر، لتنته عند القمة بوجه واحد كبير، وغالبا يكون وجه أنثى تعبيرا عن التلاحم والتطور المتصاعد عبر الأجيال، وعن المحبة والتآخي، وكرمز للسلام.