في وقت واحد تقريبا, فرض اليمن نفسه علي قائمة الأخبار العاجلة والمثيرة، المرة الأولي حين قررت السلطات الأمنية في17 ديسمبر الحالي توجيه ضربة جوية ومداهمات لعدد من المواقع والأوكار في محافظات أبين وشبوه وصنعاء, والمنسوبة لتنظيم القاعدة في اليمن والجزيرة العربية. وجاء الحصاد في صورة ما يقارب70 قتيلا لأعضاء وقيادات في التنظيم, وعدد آخر تم اعتقاله, ثم قامت مرة اخري بتوجيه ضربة لموقع آخر في محافظة شبوه في24 ديسمبر الحالي أيضا قتل فيه آخرون. أما المرة الثانية فجاءت عندما ذكر المتهم عمر عبد المطلب النيجيري الأصل والذي اجهض الركاب محاولته تفجير إحدي الطائرات الامريكية في رحلتها قبل ثلاثة أيام بين امستردام وديترويت, أنه فعل ذلك بأمر من تنظيم القاعدة فرع اليمن والجزيرة العربية. وأيا كان مدي صدق رواية المتهم النيجيري, فإن جزءا من قصة الشاب حسب رواية والده الثري يتضمن تأثره في الاشهر القليلة الماضية بأفكار متطرفة جعلته ناقما علي الغرب الذي تلقي فيه التعليم معظم سنوات عمره, وهو ما أرجعه الوالد إلي قراءات ابنه بمصادر موجودة علي شبكة الانترنت تجذب الشباب إلي أفكار القاعدة, لكن الصلة العضوية بتنظيم اليمن, فربما جاءت لأن والدة الشاب النيجيري يمنية الأصل. الحدثان يثيران أكثر من ملاحظة, فهما أولا متكاملان; وهو ما يظهر في أن تنظيم القاعدة الموجود عضويا في أماكن مختلفة من العالم, وفي الوقت نفسه موجود فكريا علي الانترنت, بما يؤكد أن المواجهة مع هذا التنظيم هي مواجهة فكرية بالدرجة الأولي, جنبا إلي جنب كونها مواجهة مادية عضوية تستخدم فيها الوسائل العسكرية والأمنية والقانونية. والثانية أن فرع القاعدة في اليمن والجزيرة العربية هو القاسم المشترك, الأمر الذي يجعل من المواجهة الأمنية التي تقودها الحكومة اليمنية بدعم أمريكي معلن وصريح مواجهة تجمع بين ما هو محلي وما هو دولي في آن واحد. فبينما قدمت الولاياتالمتحدة معلومات مهمة عن أماكن تدريب لأعضاء القاعدة فرع الجزيرة العربية في مناطق مختلفة من البلاد, كانت مهمة قوات الأمن اليمنية القيام في الوقت المناسب بتوجيه الضربة المنسقة والمتزامنة. بيد أن هذا التداخل بين المحلي والدولي لا يعني أن اليمن يفعل ذلك لحساب الغير وحسب, وإنما أولا وأخيرا لحساب نفسه واستقراره وأمنه وسمعته والتي تضررت كثيرا في السنوات الأخيرة نظرا لكم المشكلات التي قادت إلي حروب مع حركة التمرد الحوثية في الشمال, وبروز مطالب انفصالية في الجنوب, وحالة استياء شعبي من الفشل في مواجهة الفساد الاداري وتعثر العملية الديمقراطية الموعودة. ومن هنا ينظر الجميع الآن إلي ما يجري في اليمن باعتباره أكثر من مجرد مواجهة مع حركة تمرد أو تنظيم خارج عن القانون, أي باعتباره مواجهة بين وجود الدولة بمؤسساتها ورموزها وآلياتها وعقدها الاجتماعي, وبين اللادولة والفوضي الشاملة. وبينما تبدو مؤشرات المواجهة العسكرية مع حركة التمرد الحوثية, وبعد أكثر من خمسة أشهر متواصلة, مؤشرات إيجابية نسبيا ولصالح الدولة ونظامها الجمهوري, فإن مؤشرات المواجهة مع القاعدة فرع اليمن والجزيرة العربية ليست واضحة بما يكفي. صحيح أن العمليات العسكرية التي تمت في17 و24 ديسمبر في ثلاث محافظات قد أدت أهدافها المرصودة من قتل لأعضاء وقيادات في التنظيم واعتقال عدد آخر, ومنهم سعوديون وباكستانيون ومن المغرب العربي وأفارقة, تعد خطوة إلي الأمام, إلا أن غياب الصورة كاملة عن حجم وجود التنظيم في اليمن وحجم المتعاطفين معه وهؤلاء الذين يزودونه بالدعم المادي ويوفرون له ملاجئ بعيدا عن أعين الدولة, يجعل مهمة التقييم لما تم حتي الآن مسألة غير مكتملة الأركان. ومن الواضح أن ثمة نقصا في المعلومات عن هؤلاء القادة الذين قيل انهم كانوا في معسكر التدريب في قرية المجعد في محافظة أبين أو في جبال شبوة, ومن منهم قتل ومن استطاع الهرب وإلي أين؟ فالمعلن في اليمن وبصورة شبه رسمية أن قائد التنظيم في جزيرة العرب ناصر الوحيشي كان موجودا في اجتماع لاعضاء التنظيم في معسكر في منطقة جبلية معزولة في محافظة شبوة وقت قصفها جويا24 ديسمبر, ولكن لا يعرف مصيره بعد, وأن من بين القتلي قياديين من التنظيم, منهم سعد الفطحاني ومحمد أحمد صالح عمير, الذي كان قد ظهر في شريط مسجل بثته قنوات فضائية توعد فيه السلطات اليمنية ومن يؤيدها بعد عملية أبين التي جرت في17 ديسمبر. وربما قتل أيضا الشيخ الامريكي اليمني الأصل أنور العولقي في هذه الغارة الجوية, وهو المرتبط وفقا للرواية الأمنية الامريكية بنضال حسن, المتهم باطلاق النار في قاعدة فورت هود العسكرية في تكساس وقتل آنذاك13 شخصا في الخامس من ديسمبر الحالي. غياب المعلومات الدقيقة يجعل ولا شك مهمة القضاء علي التنظيم في بلاد اليمن مسألة صعبة ولكن ليست مستحيلة. ومن الواضح ان هناك صلة قوية بين العمليات الامنية اليمنية والدعم الاستخباري الامريكي. وعلينا هنا أن نتذكر أن هذا الفرع الجديد أعلن عن نفسه في يناير من هذا العام كفرع يجمع بين القاعدة في اليمن والقاعدة في السعودية, وكان أيمن الظواهري قد بشر به في يونيه2008 في حديث مسجل كنموذج لتوحيد جهود الخلايا القاعدية العاملة في أكثر من بلد, باعتبار أنه ينطلق من الارض اليمنية ويعتبر نطاق عملياته كل الجزيرة العربية حتي العراق. ووفقا للبيان الذي أصدره التنظيم آنذاك فقد ضمت القيادة الجديدة أميرا يمنيا وهو ابو بصير, ونائبا سعوديا هو ابو سفيان الشهري, وهو معتقل سابق في سجن جوانتانامو الامريكي, كان قد افرج عنه قبل عام تقريبا, وأعلن توبته حين سلم للسلطات السعودية, ولكنه استطاع الاختفاء والهرب إلي داخل اليمن. والمثير في أول حوارات ابو بصير الصحفية في مجلة التنظيم الالكترونية التي تسمي صدي الملاحم, انه بشر بمناصرة أهل غزةوفلسطين, ووعدهم بالمدد الدائم حتي تحرير بلادهم, وأعلن أن استراتيجية الإمارة الجديدة هي فتح معسكرات التدريب في كل مكان لإرسال المدد لأهل فلسطين, وقطع الإمدادات عن الحملة الصهيونية الأمريكية المتمركزة في الجزيرة العربية, فيما كشف أسلوب التنظيم في الاستغلال الإعلامي للقضية الفلسطينية من أجل الحصول علي شرعية لما يقوم به, وجذب عناصر جديدة. هذا الميلاد وبهذه الصورة التي جمعت بين عناصر التنظيم في اليمن وبقايا التنظيم في المملكة كان نتيجة للحملة الأمنية الشرسة التي قامت بها السلطات السعودية في السنوات الخمس الماضية ضد التنظيم داخل المملكة, وكان من نتيجتها أن ضعف التنظيم ماديا ومعنويا, ولم يعد أمام الناجين من أعضائه إلا التفكير في موطن آخر ينطلقون منه, فوجدوا ضالتهم في مناطق نائية في اليمن, تتسم بالوعورة والبعد عن أعين الدولة. وساعدهم علي ذلك وجود طرق ومسارات كثيرة بين حدود البلدين التي تصل إلي1500 كم لا تخضع للسيطرة من الجهات الشرعية, مما وفر لهم القدرة علي الحركة ذهابا وإيابا بين اليمن والسعودية, وهو ما بدا جليا حين حاول عبد الله طالع عسيري وهو أحد أعضاء القاعدة مدعيا رغبته في التوبة استهداف الامير محمد بن نايف نائب وزير الداخلية في مجلسه الاسبوعي30 أغسطس الماضي, وثبت وقتها أنه جاء من اليمن إلي السعودية. واقعة محاولة اغتيال الأمير محمد بن نايف أعطت بدورها آنذاك مؤشرا قويا علي أن التنظيم يعمل جاهدا علي اثبات الوجود, وانه قادر علي توجيه الضربات من خلال آلية العمليات الانتحارية, وانه لن يمل المواجهة مع السلطات السعودية رغم انحصار وجوده في أراضي المملكة ذاته. وبالقطع فإن المواجهة التي تقوم بها حاليا السلطات اليمنية تعد بشكل أو بآخر امتدادا لهذه المواجهة التي سبقت بها السلطات السعودية. أو بمعني آخر ثمة تكامل بين المواجهات الأمنية السعودية واليمنية ضد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب, كما هو الحال في تكامل المواجهة مع عناصر التمرد الحوثي المسلحة التي تصورت أنها بعبورها إلي الأراضي السعودية مطلع نوفمبرالماضي سوف تضع البلدين معا في مأزق, فإذا بها هي التي تواجه المأزق الكبير وتدفع ثمنا غاليا له.