خلال 48 ساعة تدحرجت كرة ثلج تهمة "معاداة السامية" وباتت عاصفة يواجهها حزب العمال في بريطانيا قبل انتخابات هامة الخميس المقبل للمجالس البلدية، من بينها العاصمة لندن التي تشتعل فيها المنافسة على مرشح عمدية العاصمة بين مرشح مسلم ومرشح يهودي. فمنذ أن أشتعلت الأزمة على خلفية دعوة النائبة عن حزب العمال ناز شاه نقل إسرائيل إلى امريكا لحل الصراع مع الفلسطينيين، ثم ربط النائب عن الحزب وعمدة لندن السابق كين ليفنجستون بين الحركة الصهيونية والنازية، قام الحزب بتجميد عضوية شاه وليفنجستون وفتح تحقيق في الواقعتين. كما تم الإتفاق على مراجعة مدونة السلوك الحزبي بحيث يتم التصدي بشكل أكثر صرامة لكل أشكال التمييز ومعاداة السامية والاسلاموفوبيا. ليس هناك فى بريطانيا أسوأ من تهمة "معاداة السامية" للقضاء على مستقبلك السياسي. وعندما تأتى التهمة فى وقت انتخابات على المستوى القومى فإن الخسائر تكون فادحة. وربما هذا ما دفع النائبة البارزة فى حزب العمال ديان ابوت، المقربة من زعيم الحزب جيرمى كوربن إلى القول إن التركيز على وجود نهج معاد للسامية داخل حزب العمال فى هذا التوقيت بالذات هدفه "تشويه" الحزب و"إضعاف فرصه" فى الانتخابات وإضعاف زعيمه كوربن، الذى لم يستقر بعد فى موقعه الجديد وما زال له أعداء يريدون الإطاحة به فى أقرب فرصة. وأقرب فرصة قد تكون عدم تحقيق الحزب لنتائج جيدة فى انتخابات المجالس المحلية. فهل يمكن أن تؤثر الأزمة فعلا على حزب العمال واستقراره الداخلى ونتائج الانتخابات المرتقبة الخميس؟ لا يمكن الجزم الآن، لكن انتخابات عمدة لندن التى تعد الأكثر أهمية وتأثيرا بالنسبة للحزبين تأثرت نوعا ما بالأزمة. فالمرشحان الأساسيان لعمدية لندن، هما مرشح حزب المحافظين زاك جولدسميث وهو يهودى من عائلة جولدسميث العريقة والنافذة، ومرشح حزب العمال صديق خان، وهو مسلم من أصول باكستانية هاجرت عائلته إلى بريطانيا منذ عقود واستقرت بها. لم يحاول صديق خان إخفاء أن الأزمة داخل حزب العمال الذى ينتمى إليه حول معاداة السامية أضرت حملته لعمدية لندن التى يلعب فيها الصوت اليهودى دورا، قائلا فى تصريحات للصحفيين "نعم يمكن أن أخسر اصوات بعض اليهود. يمكن أن يجد البعض صعوبة فى دعمي" فى ضوء تكرار وقائع تبدو معاداة للسامية داخل حزب العمال. وبرغم انتقاد صديق خان لتصريحات كل من ناز شاه وليفنجستون ودعمه تجميد عضويتهما وفتح تحقيق، فإن تقدم خان على جولدسميث فى استطلاعات الرأى العام قد يتلاشى إذا ما تواصلت الحملة ضد حزب العمال خاصة فى ضوء رفض ليفنجستون الاعتذار عن تصريحاته والتى قال فيها إن "هتلر دعم الحركة الصهيونية قبل أن يجن ويقتل 6 ملايين يهودي". ويقول ليفنجستون حول تصريحاته بوجود علاقة سرية بين الحركة الصهيونية ونظام هتلر فى المانيا فى الثلاثينيات:"ما أقوله حقائق وليس آراء. وإذا كان لدى اعتذار فهو لجيرمى كوربن بسبب الوقت غير المناسب لهذه الأزمة بالنسبة للحزب". فهل كلام ليفنجستون حقائق فعلا؟ وهل تحالفت الحركة الصهيونية مع نظام هتلر فى المانيا مطلع الثلاثينيات من أجل ترحيل يهود المانيا إلى فلسطين؟ الإجابة: نعم. وهناك عشرات الكتب التاريخية حول هذه النقطة أهمها كتاب "اتفاق الترحيل.. قصة التحالف بين الرايخ الثالث وفلسطين اليهودية" الذى صدرت طبعته الأولى عام 1984. ويقول مؤلف الكتاب ادوين بلاك، وهو امريكى يهودي، إن اتفاق الترحيل حدث بين الحركة الصهيونية ونظام هتلر مطلع 1933. فبعدما انتخب هتلر فى 30 يناير 1933، فتح بعد ذلك بقليل وتحديدا فى مارس من نفس العام أول معسكرات الأعتقال النازية، ثم صدرت القوانين التمييزية ضد اليهود. وفى 27 مارس 1933 كانت هناك تظاهرات من يهود أوروبا وأمريكا، أكبرها كانت فى "ماديسون سكوير" فى نيويورك، حيث كان هناك نحو مليون متظاهر. وكان المطلب الأساسى مقاطعة نظام هتلر اقتصاديا بسبب ممارساته التمييزية ضد يهود المانيا. لم يكن كل اليهود أو كل المنظمات اليهودية مع فكرة مقاطعة نظام هتلر اقتصاديا. بعضها مثل الحركة الصهيونية، التى نشأت فى القرن التاسع عشر فى ظل المد القومى فى العالم على أمل تأسيس وطن قومى لليهود، رأت أن إجراءات هتلر التمييزية يمكن أن تعزز حجتها فى أنه لا مكان لليهود فى أوروبا. وأن عليهم المغادرة إلى أى بلد آخر، وأن يكون لهم وطنهم الخاص مثل الأرمن وغير ذلك من القوميات التى بدأت تأسيس وطن قومى لها فى العقود الأولى من القرن العشرين. وهكذا بدأت المفاوضات بين الحركة الصهيونية ونظام هتلر فى مارس 1933 وأنتهت فى 25 أغسطس 1933 باتفاق الترحيل الذى يقضى بتسهيل هجرة يهود المانيا إلى فلسطين بالتفاهم من نظام هتلر. لكن هذا لم يكن سهلا. ففلسطين فى ذلك الوقت كانت تحت نظام الحماية البريطاني. وللهجرة إلى فلسطين كان يجب ان يكون معك 5 آلاف دولار، أو الف جنيه استرليني. لكن القيود التى فرضها الرايخ الثالث على خروج المارك الالمانى جعل هناك حاجة لخطة تيسر الأمر. وكانت الخطة التى اتفقت عليها الحركة الصهيونية مع النظام النازى هى أن يضع يهود المانيا قيمة ممتلكاتهم ومدخراتهم فى بنك فى المانيا اسمه "بالتروي" يقوم بتصدير بضائع وسلع المانية إلى فلسطين توضع أرباحها فى "البنك الانجلو –فلسطيني" فى فلسطين خصصت كلها ليهود المانيا لشراء قيمة التأشيرة للمجئ والاقامة فى فلسطين. وتدريجيا بدأ آلاف الالمان يتوافدون على فلسطين للإقامة فيها، ولهذا كانت البصمة الالمانية واضحة فى سنوات الترحيل اليهودى الأولى لفلسطين. فكل شىء كان مصنوعا فى المانيا. وكان من يدخل مناطق المهاجرين اليهود يلاحظ أول ما يلاحظ العدد الهائل لسيارات مرسيديس بينز الألمانية. وفى النهاية سمح الإتفاق بتهجير نحو 50 ألف ألمانى إلى فلسطين. كما ساعد الإتفاق على تخفيف المقاطعة الاقتصادية عن المانيا النازية. وهذه النقطة الأخيرة هى الأكثر إثارة فى كل الأزمة الحالية وفى كل حديث عن علاقة الحركة الصهيونية بنظام هتلر. ففى التحليل النهائى ساهمت الحركة الصهيونية فى رفع الحصار الأقتصادى عن هتلر وأدت عمليا إلى تمكينه من التوحش على اليهود وغيرهم من الأقليات فى أوروبا وصولا إلى محاولته اجتياح أوروبا كلها وقيام الحرب العالمية الثانية. تجد الحركة الصهيونية صعوبة بالغة فى الإعتراف بتلك الحقيقة حتى اليوم، ويتم إلقاء تهمة معاداة السامية فى وجه كل من يطرح للنقاش تلك النقطة التاريخية. استفادت إسرائيل كثيرا من مصطلح معاداة السامية، منذ صكه الكاتب الألمانى فيلهم مار عام 1879 للتحذير من التأثير السلبى لليهود على الثقافة والهوية والمجتمع الألماني، كما لم تستفد من أى طرح آيديولوجى سياسى آخر، بما فى ذلك العودة لأرض الميعاد. فتيودور هيرتزل قدم مشروع "وطن قومى لليهود فى فلسطين" على أنه "الحل الوحيد" لمعاداة السامية، ردا على تيار قوى وسط اليهود الأوروبيين كان يرفض ترك أوروبا للاستيطان فى فلسطين. ورأى هيرتزل أن المعادين للسامية فى أوروبا سيوفرون كل الدعم المالى والسياسى واللوجيستى لمساعدة اليهود على مغادرة أوروبا. وقد كان، فكما سهل هتلر هجرة اليهود من المانيا لتخليص أوروبا منهم، كان صاحب وعد بلفور، آرثر جيمس بلفور، هو أيضا شخصيا معاديا للسامية. ورأس المال الذى نقل مئات الآلاف من يهود أوروبا إلى فلسطين جاء من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا فى عز سنوات المد القومى وأفكار سمو الجنس الآرى بدعم من كبار المعاديين للسامية فى كل أوروبا. اليوم وصلت إسرائيل بصناعة "معاداة السامية" إلى حد جعل "العداء للسامية" جدارا يحمى إسرائيل من أى نقد أو إدانة أو عقاب أو مناقشة علمية محايدة لحقائق تاريخية محضة. فالمصطلح الذى يعنى فى كل معاجم العالم "صورا نمطية ذهنية عدائية وتمييزية ضد اليهود كأفراد أو كجماعة دينية"، بات عمليا أى رأى سلبى فى سياسات دولة إسرائيل أو فى تاريخها.