يالها من مأساة تلك التى فجرتها تصريحات رئيس البرلمان التركى ، التى تمهد الطريق وعلى نحو نهائى للطاغوت كى يجثم على أنفاس الأتراك وهضبة الأناضول التى جعلها أتاتورك منارة تفوقت على كل محيطها دون منازع ، والآن لتكن البداية نحو وأدها لإعادة إنتاج ما ثارت عليه الأمة التركية قبل ثلاثة وتسعين عاما. المفارقة المرعبة هى أن الرجل ومن يقفون وراءه لا يبدو عليهم أنهم قرأوا محيطهم المتهاوى وبالتالى فهم لم يتعظوا من بلدان جوار زايدوا على الدين وحشروه حشرا فى الحكم ، وكانت النتيجة سقوطها المدوى فى أتون من المواجهات والنزاعات الطائفية التى لا تنتهى ولا يوجد فى الأفق ما يشير إلى قرب أفولها ، لأنها ببساطة الحرب الأهلية . المذهل أن تركيا الحالية لم تكن لتصبح مثلما هى عليه الآن أو بالأحرى قبل صعود رجب طيب اردوغان وعبد الله جول إلى سدة السلطة فى نهاية 2002 إلا بفضل العلمانية ، ولولاها لما كان هذا الثنائى وبقية زمرتهم موجودين . وبالمناسبة ما قاله القابع على سدة السلطة التشريعية إسماعيل كهرمان بشأن الدستور الاسلامى ليس سوى توزيع أدوار، بعبارة اخرى لا شىء يخرج من فاه أى قيادى فى الحكم دون استشارة بل وترتيب مسبق مع اردوغان الذى يوجههم ويعطيهم التعليمات ، ليس ذلك فحسب بل يدرس معهم التوقيت المناسب الذى يمكن لهم أن يدلوا بدلوهم فى قضايا يحددها هو بنفسه دون غيره، هذا ما قالته الكاتبة الشهيرة والبرلمانية السابقة التى أنشقت عنهم نازلى اليجاك فى أحدى مقالاتها خلال شهر فبراير الماضى وهى الآن بالكاد ترى أو يقرأ لها مقال بعد أن أغلقت كافة المنافذ التى كانت تكتب فيها. وكان إسماعيل كهرمان, رئيس البرلمان التركي, قد دعا إلى دستور إسلامى لا مكان فيه للعلمانية متسائلا كيف تقبل تركيا بوضع تتراجع فيه عن الدين وهى بلد مسلم, وجاءت أقوال إسماعيل كهرمان الذى هو اختيار اردوغان ليكون رئيسا للبرلمان ، لجس نبض الشارع أولا ، والوقوف على ردود الفعل ثانيا ، فإذا كانت الرياح هوجاء عاتية ، خرج الرئيس ليعيد الأمور إلى نصابها وكأنه كما هى العادة - المنقذ, وليقول لشعبه اطمئنوا ما سمعتموه ليس هو رأى الدولة . أما وإذا حدث العكس بمعنى وجد إستجابة حتى لو ضيئلة، هنا يطلق العنان لجوقته فى كافة وسائل الإعلام التى باتت معظمها ملك يمينه، للترويج لما يريده لتركيا 2023، بأن تعود لما كانت عليه قبل مائة عام ، وكدليل على ذلك، ما سبق وافصحت عنه زوجته السيدة الأولى أمينة هانم حينما اكدت نصا أن ما "يقومون به هو تصحيح لما تم إفساده خلال تسعة عقود" تلك هى معالم السلطنة الاردوغانية التى جعلت من الاناضول بحق جزءا لا يتجزأ من العالم الثالث. فهناك نزوع لا شك لأسلمة الحياة السياسة، فاردوغان وقبله جول على سبيل المثال نادرا وما ذكرا مصطلح العلمانية فى أى من خطاباتهما مقارنة بأسلافهم، وعبارة " تركيا جمهورية علمانية حقوقية اجتماعية "التى كانت تتردد فى اليوم أكثر من مرة خصوصا على لسان قيادات المؤسسة العسكرية ، طمست ولم يعد وجود منذ ستوات. ومن العبث تجاهل عدد من الخطوات الجادة فى هذا الصدد ، فللمرة الاولى يغض الطرف عن دعوات أصوليه جهادية ، وسمح لها بعقد مؤتمرات داخل صالونات تحمل اسم مصطفى كمال اتاتورك ولهذا دلالته بيد أنها تزامنت مع محاولات تحطيم منحوتات لمؤسس البلاد دون عقاب رغم أن تلك الافعال مجرمة ووفقا للقانون الذى لا يفعل إلا حينما توجه إهانة لأردوغان، كذلك ازداد التهجم على الفنون والسخرية من الأدباء المتغربين أصحاب الرؤى الشاذة، ورفع الحظر عن الحجاب بحجة أنه حرية شخصية ، بات هناك تشجيع على إرتدائه بإعتباره يعكس الطابع الإسلامى الذى يجب أن تكون عليه الأمة التركية. ولا يجب أن ننسى مقولة للداعية الإسلامى فتح الله جولين التى دعا فيها بنات الأناضول بمدنه وقراه ونجوعه ، ان يحرصن على الزواج من الضباط والجنود المتطوعين بالجيش التركي، كونهن يستطعن تغيير ولائهم ثم الانقضاض على العلمنة الكافرة بالبلاد وبالمناسبة صراع جولين واردوغان الحالى هو نتيجة تعارض مصالح إقتصادية ومغانم تجارية، لكنهم مشتركون فى ذات الايديولوجية وما عرف بتنظيمى الارجينكون والمطرقة اللذين هدفا للانقلاب على العدالة الحاكم وكانا من تخطيط جولين بشكل أساسي. لكن حلم انهيار العلمنة لا يبدو تحقيقه سهلا أبدا، صحيح كانت هناك ولازالت إجراءات سعت وتسعى إلى تحجيمها وتآكلها لكنها بقيت صامدة، ليس فقط على مستوى النخب بل القطاعات العريضة من المجتمع التركى على إختلاف اتجاهاتها التى تعايشت معها وصارت مكونا من مكوناتهم الحياتية، والاقليات وكم هى كثيرة لم تكن لتنعم بالاندماج فى النسيج الاجتماعى بدون العلمانية التى هى شريان الحياة بيد أن شكواهم المتصاعدة جاءت بالتوازى مع إنكشاف الوجه الحقيقى للعدالة والتنمية. ويكفى أن حزب الحركة القومية وهو الأقرب إلى الحزب الحاكم فكريا شجب بشدة أى محاولة تنال من النصوص الأربعة, ومنها نص العلمانية التى وضعت فى مستهل كافة الدساتير باعتبارها فوق الدستورية بحيث لا تناقش لانها ملك أجيال الجمهورية الكمالية محذرا من دخول البلاد إلى النفق المظلم.