كم نحتاج من عدد الضحايا لنقول إن إقدام أمين شرطة علي قتل بائع الشاي قرب الرحاب لم يكن حادثا فرديا؟ الوقائع تشير إلي أن الحادث يكاد يتطابق مع واقعة قتل رقيب شرطة لسائق الدرب الأحمر، والتي أعقبها أيضا تظاهرة تندد بالشرطة وتطلب القصاص.. ومن رقيب الشرطة مصطفي فيتو في الدرب الأحمر إلي أمين الشرطة السيد زينهم في الرحاب سالت دماء ووقعت تعديات كثيرة في مختلف مدن وقري مصر، شاهدة علي أن الحوادث المتكررة ليست فردية. عندما رفع السيد زينهم سلاحه الميري في وجه مصطفي محمد بائع الشاي الفقير في «نصبة» علي الرصيف، كان يشعر بإهانة بالغة، فهذا القروي الذي جاء من سمالوط، وينام علي الرصيف يتمرد علي رجل شرطة له هيبته، ولم يصمت كالعادة ويقدم كوب الشاي لأمين الشرطة بكل امتثال وخوف، بل طالبه بدفع ثمن الشاي مثله مثل أي عامل من زبائنه، وهو ما يعني أن جديدا قد حدث، وأن مصطفي ابن العشرين عاما، والذي لم يجد عملا بشهادة الدبلوم، فنزح من بلدته إلي أرصفة الحي الراقي في القاهرة الجديدة، قد كسر حاجز الخوف من رمز الشرطة، والذي يستطيع أن يلقنه درسا في الفرق بين بائع يقيم «نصبة شاي» بدون ترخيص، وينام علي الرصيف بالمخالفة للقانون، والمهدد بأن يتم اقتياده للاشتباه في أي وقت، وأمين الشرطة الذي يمثل هيبة أجهزة الأمن، بل ويتجاسر ويطلب ثمن الشاي من أمين الشرطة؟ كان من الممكن أن يصبر السيد زينهم قليلا، وسيجد عشرات المبررات التي يمكن أن يقتاد بها بائع الشاي مكبلا بالحديد بتهم وجرائم عديدة، لكنه لم يتحمل التطاول الذي مس كبرياءه، بل تمادي بائع الشاي وأطلق عبارات تعني أن السيد زينهم وأمثاله كالبلطجية، يفرضون الإتاوات علي الغلابة، ولا يحسون بكدهم طوال اليوم، بل يأتون لمص دماء الفقراء التي لا يشبعون منها. إنه التمرد الخطير الذي يهدد كيان السيد زينهم، بل يهدد أجهزة الأمن في الدولة، فلو تجرأ أمثال مصطفي بهذه اللهجة علي رموز الدولة لانهار الأمن، وبالتالي انهارت منظومة الدولة. لم يحتمل السيد زينهم فكرة الانتظار، ورفع من لهجة تهديده، ربما يرتدع بائع الشاي، ويمتثل أمام رمز السلطة، ويعتذر عما اقترفه من تجاوزات، فربما يسامحه، إذا ما أظهر الخضوع والاستكانة، لكن ابن سمالوط كان قد سئم من السيد زينهم ومن هم علي شاكلته، ولم يعد بإمكانه أن يقبل ما يراه إذلالا، فالجنيه ليس المشكلة، سواء لدي السيد زينهم أو مصطفي ابن سمالوط الشاب، لكنه أصبح رمزا للكرامة من جانب بائع الشاي، ورمزا للإذعان والاحترام من جانب السيد زينهم. لقد رأيت شرطيا في المنصورة أصلح إطار سيارة الشرطة لدي عامل كاوتشوك، واندهش عندما قال له العامل ان تكلفة اصلاح ثقب خمسة جنيهات، فإذا بالشرطي يلقي بالجنيهات في وجه العامل متوعدا، وسرعان ما جاء شرطي آخر ليسأل صاحب الورشة الصغيرة عن التراخيص، ويلمح له بأن الخروج إلي الرصيف هو إشغال طريق، ومن حق الشرطة مخالفته، بل مصادرة المعدات، فما كان من صاحب الورشة إلا إخراج الجنيهات الخمسة، وراح يرجو القبول بإعادتها، وأن يغفروا له تجاوزه. كما رأيت عشرات الحملات التي تطارد الباعة الجائلين، وتهاجم أحيانا تجاوز بعض المحال الفقيرة للنظام، والمستغلة لرصيف الشارع كامتداد لمحالهم الصغيرة، وتستخدم كل أدوات العنف من تحطيم للمحال المخالفة، إلي مصادرة لبضائع الباعة الجائلين، لكنها لا تقترب من المحال الكبيرة وأصحابها الأثرياء، رغم ارتكابها نفس المخالفات. مشهد آخر في مطعم شهير في وسط القاهرة، جاء عدد من مفتشي التموين، وأخرجوا كميات كبيرة من اللحوم، وكانت التلميحات إلي أنها مذبوحة خارج السلخانة، وربما فاسدة وتهدد حياة المواطن، وانتهت الحملة بمصادرة كميات ضخمة من اللحوم، وعندما سألت مدير المطعم، نظر لي بمرارة وقال إنها عادة، يأخذون كل ما في المحل من لحوم، ويوزعونها فيما بينهم، وإلا سيتم إغلاقه بمخالفات عديدة، واخترت أهون الضرر، وتركتهم يأخذون اللحوم.هذه الأحداث تقع كل يوم في جميع أحياء القاهرة وقري مصر ومدنها، وكل واقعة قتل أو ضرب أو تعذيب هناك آلاف عمليات استغلال النفوذ والإهانات اللفظية والجسدية، والمخالفات الكيدية، التي لا يمكن أن نسميها أحداثا فردية. ليست المشكلة في تشديد القوانين، أو إصدار قانون جديد يضيف نصوصا يصعب تنفيذها في الواقع إلا نادرا علي رجال شرطة يستغلون نفوذهم، أو يضربون ويعذبون ويطلقون النار، إنما المشكلة في عقيدة ذلك الشرطي، الذي يري أنه القانون، وحامي حمي الدولة، وهي عقيدة اتسع نظاقها بين قيادات شرطية بعد ثورة 30 يونيو، والتي رأوا أنهم شركاء في استعادة السلطة من الغوغاء الذين خرجوا في 25 يناير، وأن استعادة هيبة الشرطة، وبالتالي هيبة الدولة لن تكون إلا ببث الخوف في نفس كل من يتجاسر علي أي من رموز الدولة، خاصة رجال الشرطة، ويقولون إن معاقبة الشرطي سوف تنال من هذه الهيبة، ولن تجعلهم قادرين علي التصدي لأي هوجة أو مؤامرة جديدة قد تنال من الدولة. هكذا يبدو أن المشكلة أكثر تعقيدا من حوادث أو إصدار قوانين، وإنما تحتاج إلي تغيير جذري في عقيدة الشرطة، قبل أن تتأزم الأمور بآلاف الحوادث الفردية الجديدة. لمزيد من مقالات مصطفى السعيد