قرار جمهوري بتعيين القاضي مجدى خفاجي رئيسا لمحكمة استئناف قنا    تعرف على سعر الدولار ببداية تعاملات اليوم الخميس 11-12-2025    الأمطار ترفع أسعار الخضار للسما.. الكوسة تقترب من 50 جنيها    أسعار الذهب في مصر اليوم الخميس 11 ديسمبر 2025    الفيدرالي الأمريكي يقرر خفض الفائدة لتصبح بين 3.5% و3.75%    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الخميس 11 ديسمبر 2025    فنزويلا تتهم الولايات المتحدة بالسرقة والقرصنة الدولية بعد مصادرة ناقلة نفط قبالة سواحلها    الأونروا تحذر: أمطار غزة تفاقم المعاناة وتزيد مخاطر الأمراض    قوات الدفاع الجوى الروسية تدمر 287 طائرة مسيرة أوكرانية ليلا فوق مناطق عدة    مورينيو يكشف أسباب فوز بنفيكا على نابولي في دوري الأبطال    إخلاء سبيل والدة الطالب المتهم بمعاشرة شقيقته القاصر في المرج    في أول أيام عرضه، "الست" يحقق هذه الإيرادات بالسينمات أمس    حالة الطقس في الكويت اليوم الخميس 11 ديسمبر 2025    ماسك يتحدث عن إلهان عمر وممداني والجحيم الشيوعي    مجلس النواب الأمريكي يصوّت بالأغلبية لصالح إلغاء قانون عقوبات "قيصر" ضد سوريا    DC تطرح أول بوستر رسمي لفيلم Supergirl    إسلام الكتاتني يكتب: الحضارة المصرية القديمة لم تكن وثنية    قرار جديد ضد المتهم بالتحرش بفنانة شهيرة في النزهة    ناسا تفقد الاتصال بالمركبة مافن التي تدور حول المريخ منذ عقد    سلوى عثمان: أخذت من والدتي التضحية ومن والدي فنيًا الالتزام    دعاء الفجر| (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين)    التحقيق مع شخص يوزع بطاقات دعائية على الناخبين بالطالبية    لأول مرة بمستشفى سامول، جراحة ناجحة لإزالة ورم 10×10 سم دون استئصال الرحم    توقيت أذان الفجر اليوم الخميس 11ديسمبر 2025.. ودعاء مأثور يُقال بعد الانتهاء من الصلاة    تصعيد سياسي في اليمن بعد تحركات عسكرية للمجلس الانتقالي    التحضير لجزء ثانٍ من مسلسل «ورد وشوكولاتة»    التعادل الإيجابي يحسم مباراة بروسيا دورتموند وبودو جليمت    أرسنال يسحق كلوب بروج بثلاثية خارج الديار    "شغّلني" تُطلق مشروع تشغيل شباب الصعيد بسوهاج وقنا    التعاون الإسلامي: تُدين خطط الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية وتدعو المجتمع الدولي للتحرك    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 11ديسمبر 2025........مواعيد الأذان في محافظة المنيا    لماذا تجدد أبواق السيسى شائعات عن وفاة مرشد الإخوان د. بديع بمحبسه؟    بانا مشتاق: إبراهيم عبد المجيد كاتب مثقف ومشتبك مع قضايا الناس    سلمان خان وإدريس إلبا وريز أحمد فى حفل جولدن جلوب بمهرجان البحر الأحمر    منتخب مصر يواصل تدريباته بمركز المنتخبات الوطنية استعدادا لأمم إفريقيا (صور)    كرة طائرة - خسارة سيدات الزمالك أمام كونيجيليانو الإيطالي في ثاني مواجهات مونديال الأندية    البنك المركزي: معدل التضخم الأساسي السنوي يسجل 12.5% في نوفمبر 2025    الخطر الأكبر على مصر، عصام كامل يكشف ما يجب أن تخشاه الدولة قبل فوات الأوان (فيديو)    "امرأة هزت عرش التحدي".. الموسم الثاني من مسابقة المرأة الذهبية للمركز الإفريقي لخدمات صحة المرأة    القبض على شخص اقتحم مدرسة بالإسماعيلية واعتدى على معلم ب "مقص"    المتهم بتجميع بطاقات الناخبين: «كنت بستعلم عن اللجان»    الرفق بالحيوان: تخصيص أرض لإيواء الكلاب الضالة أحد حلول انتشار هذه الظاهرة    "جنوب الوادي للأسمنت" و"العالمية للاستثمار" يتصدران ارتفاعات البورصة المصرية    4 فوائد للملح تدفعنا لتناوله ولكن بحذر    أعراض اعوجاج العمود الفقري وأسبابه ومخاطر ذلك    انتبهي إلى طعامك خلال الأشهر الأولى من الحمل.. إليك قائمة بالمحاذير    مستشار وزير الثقافة: إدارج "الكشري" في قائمة تراث اليونسكو يمثل اعترافًا دوليًا بهويتنا وثقافتنا    أستاذ علوم سياسية: المواطن استعاد ثقته في أن صوته سيصل لمن يختاره    ضبط شاب ينتحل صفة أخصائى علاج طبيعى ويدير مركزا غير مرخص فى سوهاج    البابا تواضروس يهنئ الكنيسة ببدء شهر كيهك    التعادل السلبي يحسم موقعة باريس سان جيرمان وأتلتيك بلباو    ساوندرز: ليفربول ألقى صلاح تحت الحافلة؟ تقاضى 60 مليون جنيه إسترليني    الأرقام تكشف.. كيف أنقذ صلاح ليفربول من سنوات الفشل إلى منصات التتويج.. فيديو    ترامب: الفساد في أوكرانيا متفشٍ وغياب الانتخابات يثير تساؤلات حول الديمقراطية    الزوامل والتماسيح: العبث البيئي وثمن الأمن المجتمعي المفقود    "الصحة" تكشف عن الفيروس الأكثر انتشارا بين المواطنين حاليا    الأوقاف تختتم فعاليات المسابقة العالمية الثانية والثلاثين للقرآن من مسجد مصر الكبير بالعاصمة    حاسوب القرآن.. طالب بكلية الطب يذهل لجنة التحكيم في مسابقة بورسعيد الدولية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قررنا التكريم لأنك قديم!!
نشر في الأهرام اليومي يوم 23 - 04 - 2016

اعتذر لها ابني بالنيابة عنى.. قال لها يا أفندم أمى تعبانة وزهقانة وقرفانة ومرهقة وعيانة ومزاجها مش هو والطبيب قال لها تقوم بإجازة فورية لترميم الجراح والتقاط الأنفاس وتسليك الودان من مسيرات الإخوان وتحجيم الآلام وتقليص المعاناة وتهدئة الأعصاب وغسل الاكتئاب ونسيان الإعلام والأقلام ومرابط اللئام وخفافيش الظلام والناس الشر، والخناقة الدايرة ما بين مشجعى ومناهضى تيران وصنافير.. يعنى بصريح العبارة أمى مش هنا..
صاحبتنا الشابة المبرمجة على برنامج الحفل لا يعنيها تعب أمه ولا خفافيشها ولا أنفاسها ولا تيرانها، فقد وقعَ على عاتقها مسئولية تبليغ قرار اختيار اللجنة الموقرة لأمه بتكريمها فى المناسبة الماسية.. وأرجوك أرجوك هاتها لى على التليفون لأجل أنقل لها الخبر المهم بنفسى. أقسم النجل العزيز أن المكرمة أمه سافرت راحت غادرت هاجرت طفشت، أخذت فى وشها وسكت الباب من وراها، ولفعت شنطة هدومها وشدّت الرحال وتركت رسالة فحواها: لو أى حد سأل عنى قولوا له غارت.. قولوا له روحها طلعت لبارئها.. قولوا له فاض بها الكيل والموازين والجيجاوات.. قولوا له تعيش انت!.. لكن إن البنت المبرمجة على برنامج الحفل تدرك أنه من ضروب المحال إتمام مهمتها فهذا ليس من شأنها ولا توجهها، إلا أنها حادت عن المسار قليلا في قولها: طيب من فضلك إبلاغها أينما كانت حتى ولو بجانبك أن هناك شهادة باسمها في انتظارها ممهورة بإمضاء سيادة النقيب ولابد من حضورها شخصيا لاستلامها فوق المنصة عند النداء عليها حيث سيتم تصوير السلام بالعدسات المستدعاة.. متشكرين قوى جدا يافندم ونبلغكم جدية اعتذارها مقدما عن الحضور بسبب الأمور التى أوضحتها لكم في المستهل، ولكي أنقل لها خبر هذا التكريم لابد وأن يكون لديكم سبب ومسوغ له، فهل تأذنين بمكاشفتنا عنه، وسوف أحتفظ بحقي القانونى بالاعتذار من جانبكم حول اتهامى بتضليل سيادتكم في قولكم المتغطى بأن أمى قد تكون بجوار السماعة، ثم إنها حرة فى بلد دستور ديمقراطى ترد فيه ولاّ ماتردش.. البنت وقول الحق أوضحت لابنى بأن سبب التكريم في العيد الماسى ليس والحمد لله فى إطار الأم المثالية التى شِبِعت من شهاداتها وأطباقها الصفيح التي لا يأتينى أى تكريم إلا داخل نطاقها مما يجعلنى أتساءل حول جدية مثاليتى كأم يعود إلي أننى «ست قديمة»!!
أنا.. أنا قديمة يا محدثة معرفة.. أنا قديمة يا خريجة الإنترنت والفيس بوك وجميع وسائل التواصل.. أنا قديمة فى نظرك أنت ومن وقع اختيارهم علي شخصى القديم للتفضل بتكريمى وتشييعى بتصفيق مختصر قبل ما انكفئ علي وجهى من فوق سلالم المنصة الماسية وفى يدى شهادتى ب«قرار» التكريم لأنى قديمة بغض النظر عما قدمته للصحافة علي مدى نصف قرن وزيادة.. وربما لأنى القديمة التي يلحقون بأنفاسها الأخيرة فقد ينسحب التكريم أيضاً بتكفينى داخل تابوت مبطن بالساتان المكشكش، أو حرقى رمادا داخل زلعة أو زجاجة مع دفن أشيائى معى كحفيدة فرعونية ليوم البعث الذى يبعث فيه الخلق جميعاً في شرخ الشباب، ولابد وأن يرتفع سعر أرض القرافة أمام سكك الكبارى والموانئ والأنفاق والمجمعات السكانية والكتل الخرسانية الزاحفة التي تنتهى مشروعاتها بالأمر فى يومين بدلا من سنتين، لتنقل العظام تبعاً لمسئولية الأهل الأخلاقية ومفهوم «كلنا لها» لمدافن جديدة فتتطاير الأوراق القديمة خلال الرحلة العبثية لتتشبث صفحة مقال في الأهرام بأسفل عامود إضاءة باللمبات اللّد الموفرة فيلتقطها بائع بطاطا يركن على الناصية ليلف بداخلها شريحة السخونة المسكرة تنام علي صورتى القديمة لتُزْدرد ما بين النواجذ والبخار.
أنا قديمة.. قديمة وأستاهل كل ما يجرى لي وذنبى الذى أجنيه الآن أنى لم أدرك فى السنوات السابقة حجم مأساتى القادمة، وكانت السكينة سرقانى في دوامة العمل فلم أعمل لها حسابى.. أنا قديمة؟!.. ذنبي أننى كنت ما بين الشباب في العمل لا أعيش عمرى واختلط بى العمر واختلط بأعمارهم عمرى.. أنا قديمة؟!.. ذنبى أننى اخترت مهنة لها آخر يقولون فيها عنك إنك قديمة، وكان ظنى أن الصحافة مجال شباب علطول مالوش آخر... أنا قديمة؟!.. ذنبى أننا كنا نعمل في خلية نحل تمتص رحيق الأخبار والأنباء والأصداء والأهوال والأفراح والأتراح والأسفار والأحوال فى عوالم الكبار والصغار لنصنفها في قوالب رسمناها بأفكارنا نزجها داخل فرن النضج، وغالباً ما نسهو فندخل معها الفرن لنقلب وجهها وظهرها لتستوى هى بينما نحترق نحن، ولا نشعر بلسع اللهيب إلا إذا نفذت لأنوفنا رائحة الشياط.. لحمنا يحترق وأمراض مهنتنا مزمنة، وصداعنا طاقية الرأس، وأرقنا وقلقنا نبض عروقنا، وقلوبنا راحتها السكتة نؤجلها بتغيير التاجى والأورطى وروافدهما، ومنزلتنا حجرة الإنعاش، وصداقاتنا مبتورة، وروابطنا الاجتماعية مشفرة، وإجازاتنا ذكريات طفولة، وصالوننا مطفأ الثريا.. قديمة؟!.. ذنبى أننى شمرت عن ساعد الجد وغرقت في بحور العمل بينما كانت هناك حمامات سباحة غطست فيها غيرى بالكاش مايوه وطلعت تشفط بالشاليمون تحرك بخلخلة زفيره زيتونة عايمة فوق السطح المبقلل وشريحة ليمون علي جنب في حمامات الشمس بالسانتان.... قديمة؟!.. ذنبى أننى كنت ترساً فى آلة معاناة، ندخل مكاتبنا والشمس تفرش خيمة السماء فتولع الأرض نارا وتعود لتسدل علي وجهها أستار السحب فيصبح وجه الأرض ثلجى الرياح، فلا نخرج من الجب إلا بعدما لا شمس ولا قيظ ولا رعشة برد، فالمساء مع نخالة البدن المرهق لا يجابهه إحساس بتعاقب الفصول، فأشباه الموتى يكونون فى المرحلة اللاشعورية التي لا يزعق فيها اللسان تأففاً من قيظ أو مواء من تكتكة صقيع.. قديمة؟!.. تعبير كما السوط.. كما يقوموك من ع الأكل.. يقطعوا عليك الإرسال وسط الفيلم.. يوقعوا عليك السقف وانت بتبيّض.. يشدوا حبل الغسيل قبل ما ينشف.. يخلعوا ضرسك بلا حقنة بنج.. يفزعوك في عز نومك.. يجوزوا بنتك ابن عدوك.. يشيلوا من تحتك الكرسى وانت راجع بضهرك.. يقلعوك جزمتك وانت فى الشارع.. يحدفوك من فوق كرسى الكوشة ويزغردوا لغيرك.. يقلعوك الحلق ويخرموا تانى ودانك.. يخيطوا لك بقك ويقولوا لك اتكلم.. يقلعوا أسنانك ويقولوا المسلوق أفضل لك.. يقطعوا ايدك ويقولوا لك سلَّم.. يبتروا رحمك ويقولوا لك خلف.. يخرموا عينك ويقولوا عندك التانية.. يكفروك وانت قُبال القبلة بتصلى.. يشربوك حلبة وانت طالب عرقسوس.. يعلنوك مافيش بكرة وانت بتقلب النتيجة.. يوقفوك على عرفات وانت في جمادى.. يأمروك زنهار والدسك كاسر ضهرك.. يغلِّسوا عليك وانت مش ناقص.. يحطوا وشك للحيط ويمسحوا دموعك.. يلففوك في الشوارع: من ده بكرة بقرشين.. يمدحوك من باب الغزل الثقيل: إن دبلت الوردة ريحتها فيها!!.. و..إذا ما كنت في نظر صاحبتنا الجديدة ست «قديمة» فلا رد لي عليها سوى انت اللي جبتيه لروحك، وانت اللى وقعت نفسك فى ملقف، وانت اللى دوستى لى على الزرار، وأنا كنت كافية خيرى شرى وسايبة لكم المطرح.. واسمعى من الست القديمة نصيحة معتقة تقولك يا بنتى «الملافظ سعد»!
عبدالوهاب يسأل وبيرم يجيب
رغم أن الشاعر محمود بيرم التونسى من مواليد مصر وأن أدبه الشعبى يعد من أصدق الكلمات للروح المصرية الصميمة، ورغم أن أبياته عكست أحوال المرأة والحارة والقرية والأزقة المصرية، فإنه عاش حتى سن ال62 محروما من مصريته، ولم يفز بالجنسية المصرية إلا في عام 1954، وليس هذا وحده العجيب فى حياة بيرم، فأيامه مليئة بالأحداث والمفاجآت والمتناقضات.. ولقد توقفت طويلا أمام إجاباته على أسئلة كانت من باب الدردشة وجهها إليه الموسيقار محمد عبدالوهاب فقام الشاعر صالح جودت بتسجيل الأسئلة والأجوبة لتظل الجلسة الثلاثية في بيت صالح جودت عُهدة فريدة فى عنق تاريح الحوار:
■ شيئا عن حياتك يا بيرم؟
- قصتى طويلة جدا جدا، وأكثر فصولها لا يهم أحدًا غيرى.. ومطبوعة طابع الحزن فى بدايتها، فأذكر أننى ولدت فى الاسكندرية أمام مسجد البوصيرى، في منزل ترتطم أمواج البحر بجدرانه، وقد يدفعها النزق أحياناً في دهليزه فتعيث فيه فسادًا، لذلك كان أهلى يحرمون علىّ مغادرة البيت حتى لا يطوينى الموج في لجته، فقضيت طفولتى منغلقاً حزيناً منطوياً علي نفسى ساكنا في الركن البعيد تخوفاً من شبح سيأتينى ليقبض روحى.. وتلك أول فصول المأساة.. مأساة حياتى..
■ ألم تذهب إلي المدرسة؟
- تعلمت فى مدرسة الحياة، وإذا كنتم تريدون الوقوف علي شهاداتى الدراسية، فأنا لا أحمل سوى شهادة لا إله إلا الله، ويكفينى أن إنتاجى الآن يدرسه المستشرقون في أوروبا وأمريكا كنموذج من الأدب الشعبي في مصر والعرب، وهناك أربعة من الطلبة المصريين قد اختاروا من أزجالى موضوعا لرسالات دكتوراه لكل منهم، وبينهم واحد فى انجلترا وآخر في أمريكا.. وأعتقد أن هذه المؤهلات تكفينى.. لقد تخرجت فى نفس الجامعة التى تخرج فيها عباس محمود العقاد وكنت زميله فى الدراسة.. أهذا يكفى يا زميلنا يا عبدالوهاب؟!
■ وماذا تعلمت من مدرسة الحياة؟
- الكثير.. الكثير جدا.. أول الدروس كانت من أستاذى الأول زوج أمى.. لقد مات والدى وأنا طفل بلا وعى، وبعد عشرة أعوام من وفاته اضطرت أمى للزواج من قريب لنا ينتمى إلي أسرة الشريدى وأمى من المغرب، وكان الشريدى هذا يعمل مجبرًا للعظام، ويستقبل مرضاه فى دكان للنجارة يزاول فيه مهنته كنجار محترف.. وأذكر أنه كان يصنع كل حاجاته بنفسه، ولم يحدث مرة واحدة أن أصلح على سبيل المثال ساعته عند الساعاتى أو حذاءه عند الجزمجى أو ثوبه عند الترزى، كما لم يستخدم إطلاقا النقاش فى طلاء منزله، وإنما كان يقوم بجميع تلك المهام المختلفة بنفسه بدقة وإتقان لا يُبارى حتى ظننت أنه يصلح كأسطى في كل منها، وهذا الرجل بالفعل لقننى أول درس فى الحياة.. ألا أعتمد على أحد وإذا ما انسد الباب في وجهى نفذت من الكوّة، وإذا استعصى عليّ الاثنان انزلقت من تحت عقب الباب..
■ أهم دروس الحياة؟
- هو كما يقول الروائيون عقدة المأساة فى حياتى.. كان يوم أن نشرت فيه زجلا رأى الملك فؤاد أن بين السطور تعريضاً به فاتصل تليفونيا بسفير فرنسا فى مصر، فقام هذا الأخير بإبلاغى أنه يتحتم علىّ فورًا وبلا رجعة مغادرة القطر المصرى، فلممت حاجاتى علي عجل وسافرت فى نفس اليوم دون أن أودع عائلتى وأهلي.
■ إذن جردوك من الجنسية المصرية وقتئذ؟
- لا.. لأننى لم أكن أتمتع بها حقيقة، بل كنت مقيدًا على الورق باعتبارى من أصل تونسي، ولمّا كانت تونس تحت الحكم الفرنسى وبالتالى فإن كينونتى تابعة لفرنسا لهذا اتصل الملك فؤاد بالسفير الفرنسى شخصيًا كمسئول عنى وأمره بإبعادى فورًا فأبعدت.. أو قل عن هذا أننى طُردت من بلادى وقُطّعت أوصالى عن وطنى الأم..
■ وأين ذهبت يا بيرم؟
سافرت إلي البلد الذى نسبت إليه زورًا وبهتاناً وأنا المصرى مولدًا وبيتاً ومحتدًا.. سافرت إلى فرنسا وعشت هناك في ليون ومارسيليا سبع سنوات عجاف، وأخذت أراسل بعض الصحف المصرية سرًا، ولكن تلك الصحف بحكم مواردها الضعيفة لم تكن تمنحنى إلا القليل جدًا مما لا يسد رمقاً ولا يسمن من جوع ولا يقف أمام غائلة البرد، ولهذا اضطررت إلى النزول للعمل اليدوى في المصانع، ووصلت إلي درجة عامل ممتاز في مسبك للحديد الصلب بباريس بنفس منطق زوج أمى الشريدى الذي لم يكن يقف في وجه باب مغلق فيسارع إلى النفاذ من الشباك.. وأشهد الله أن حياتى كعامل كانت أسعد بكثير من حياتى كأديب أو زجّال أو صحفي، وأن الحديد كان لينًا طيّعاً مترفقاً بي يعطى ولا يأخذ، يستجيب ولا يعاند، يطيع ولا يتمنع، بينما الشعر والأدب والصحافة كانت جاحدة جامدة مقترة، فقد كنت أتقاضي مرتبي مرة كل أسبوع وإذا ما أجدت في عملي تأتينى العلاوة بلا إلحاح، وألقى الثناء مضاعفا لو ضاعفت جهدي، في حين كانت الصحف المصرية ترسل لى جنيها واحدا لا غير.. كل ثلاثة شهور.. ولم يكن يؤرقنى في المنفي غير صورة ابني الذي تركته في سن الخامسة وابنتى وكانت لم تزل فى الثالثة، وكنت قد غادرتهما علي عجلٍ دون أن أتمتع بهما في أحضانى ولم يكن هناك من يرعاهما في غيبتي سوي جدتهما العجوز المحطمة.
■ نترك ذكرى الآلام حتى لا نجدد الأوجاع.. تعالى معى إلي عالم الطرب والموسيقي.. هل تأثرت فى باريس بالأغنية الفرنسية، وهل عاد ذلك على قولك الشعر؟
- تعلمت من باريس شيئا عجيبا في ميدان النظم الغنائى، فقد لاحظت أن شعراء الأغانى الفرنسيين يحرصون على أن يكون مطلع الأغنية تافهاً حتى يسهل علي طبقات الشعب أن ترددها بسهولة، ومن ذلك أغنية Je témme la campagne وهى تكاد تعني بالضبط أغنيتنا المصرية الشهيرة «تعالى يا شاطر نروح القناطر».. وأذكر مرة أن شاعرًا فرنسياً يحمل اسماً كبيراً قدَّم لكازينو دى بارى برنامجاً رصّعه بالشعر الرصين البليغ والمعانى المنتقاة بعناية، وعندما قرأ مدير الكازينو البرنامج طوّح به في سلة المهملات دون إبطاء، واعتذر للمؤلف قائلا إنه لا يهتم بإرضاء الأدباء وهم قلّة لا تكاد تُذكر، وإنما يريد أن يرضي الطبقات الشعبية التى تبحث عن المتعة عن طريق الوجدان لا التفكير.. ولعل أغانينا الآن عام 1954 فى الوقت الحاضر علي هذا الأسلوب.
■ أترك تعليقي علي قولك الظالم الآن، وأوجه لك السؤال.. كيف عدت إلينا؟
- في المدة التى أبعدت فيها عن مصر وتكاد تبلغ عشرين عاما، ركبت البحر 12 مرة.. تنقلت فيها بين فرنسا وتونس وسوريا، ولىّ فى كل منها قصص وحكايات وروايات من لون المأساة طبعاً وحدث مرة فى سنة 1938 أن مرت بى الباخرة وأنا أبحر من سوريا إلي فرنسا بميناء بورسعيد لتتزود بالوقود، فأخذت أتذكر مسقط رأسي وموطن أولادي وقبر أمى بعينين باكيتين وحاولت أن أرشى طاهى الباخرة ليدبر لي سبيلا للإفلات، وقدمت له خمس جنيهات على سبيل الرشوة لكى يجعلنى أندس بين الأمتعة علي الرصيف ويتغاضى هو عن موقعى للفرار لكن الرجل لم يوافق، ولمحَ أحد أولاد البلد من أهالي بورسعيد الذين يصعدون إلي البواخر لبيع السلع المصرية لركابها، لمَحَ دموع حزنى ورجائى، فاقترب منى ليسألنى إذا ما كنت أريد أن أهبط من السفينة إلي البر في بورسعيد، فقفز قلبي من صدري مجيباً، وفهمَ ابن البلد مقصدي فقال لي اتبعنى بيقظة.. ثم نزل سلم الباخرة ببساطة وأنا من خلفه، حتى إذا حاذى حارسها عند نهاية السلم استطاع بلباقة أن يشغله عني حتي هربت تماماً، وعندما أقلعت الباخرة إلي عرض البحر بحثت عنه وقدمت له مبلغاً من النقود، ثم سافرت إلي القاهرة أكاد أطير من شوقي وشدة فرحتى للقاء أطفالى، ووجدت طفلتى الصغيرة التى كانت في الثالثة، شابة متزوجة سعيدة، ومن بيتها أرسلت للنشر زجلا شرحت فيه مأساتى واغترابى، فجعل المسئولين يغضون عن وجودى بمصر الطرف ولكن بصورة غير رسمية أمام الجميع.
■ كلمنا عن مشاعر الحب وهل تراه مصدرًا للإلهام ومنبع جذوة الفنان؟
- حقيقة ربما غريبة.. لم أعرف الحب في حياتى.. وإذا كان ولابد للإنسان أن يقول إنه يحب وأن له محبوبة، فأنا أحب أيضًا.. أحب كل امرأة في الدنيا.. أحب نساء العالمين.. أحب الجنس كله علي بعضه.. سواء فى ذلك السمراء والبيضاء والحمراء.. الطويلة والقصيرة.. النحيفة والسمينة.. الشابة والعجوز.. التى في عينها عتاب والتى فى عيونها حور.. الذكية والغبية والماهرة والخايبة.. إننى كلما رأيت فتاة أو سيدة جميلة على مستوى جميع الأعمال شعرت أمامها بأن عقلى قد انطمس وقلبى قد أظلم بعكس ما يُقال من أن الجمال يوحى للفنان بأدوات فنه.. ولا أتخلص من هذه الحالة إلا إذا خلّصت نفسى من أثر الحسناء.. أنا أمام الجمال في قمة الغباء.. الحُسن يجعلنى أفقد النطق.. وأذكر أن المرأة لم تؤثر في حياتى بالمعنى المفهوم، فقد تزوجت اثنتين.. وهما أميتان جاهلتان تدفعان أسعد الشعراء إلي نظم الملاحم الحزينة واللطم والبكاء والسخط علي الدنيا ومن فيها.. كانتا سامحهما الله يقولان للذكاء قُم لنقعد مطرحك، وللوحى فزّ روح إلعب بعيد عن بيتنا هناك، وكانتا نكدًا وقدما فلس وفقر وإملاق.. ولكن نهايته.. لقد فات الأوان ولم يعد في حياتى متسع لأية امرأة توحى بالأهازيج والزغاريد.. كما يقولون الصنف كله بعته، وأدرت وجهى له، وحلفت ما أرجع ولو بالطبل البلدى.
■ هل توافق علي منح المرأة المصرية حقوقها السياسية؟
- حقوق إيه وسياسية إيه ووجع دماغ إيه؟.. إنها أعباء خشنة إذا ما ألقيت على عاتق المرأة أفقدتها كثيرًا من نعومتها ودلالها الجذّاب.. مالها ومال الهم ده؟!.. مالها هى ومال السياسة وقرفها.. كفاية تتثقف وتبقي رياضية.. مش تفضل زى الشلتة تاكل محشى وبصارة وتردح للغلبان فى البيت..
■ صادقت سيد درويش.. أين ذكرياتك معه؟
- كان سيد درويش حقيقة أعز الأصدقاء، فقد ولدنا في سنة واحدة وفي مدينة واحدة، وهو الذى دفعنى إلي تأليف أول أغنية في حياتى وهى «اليوم يومك يا جنود».. وأذكر أن أولاد الحرام زينوا لنا المخدرات ذات يوم باعتبارها تساعد على هبوط شيطان الوحى علي رأس الفنان، والحقيقة أنها تجعل الشيطان يهبط فعلا على الفنان، لا ليحمل إليه الوحى وإنما ليَسلبه إيّاه.. هذا إذا كان هناك ثمة وحى بالفعل.. وذات مرة اشترى الشيخ سيد كمية من المخدرات دفع فيها عشرة جنيهات ذهباً، أى حوالى خمسين جنيها بالعملة الحاضرة الحديث في عام 1954 وبينما نحن نسير في الطريق اقترب منا عملاق يرتدى جلباباً من الجوخ وطربوشاً طويلا ويمسك في يده بخيرزانة، ونادي سيد قائلا بلهجة خشنة: «اسمع يا جدع انت».. فأيقن صاحبى أن الرجل لابد وأن يكون من مخبرى المباحث، وسرعان ما تخلص من المخدرات الغالية بأن أسقطها في بالوعة مجاورة، ثم اقترب من الرجل وأجابه باضطراب بالغ داعيًا فى سره ألا يكون قد لاحظ حركته: «نعم...» فقال الرجل بنفس خشونته السابقة: «تقدر تقولي محطة السكة الحديد منين؟..»، ولك أن تتصور صديقي عندما يستعمل كل ما اتسعت له مداركه من الشتائم السكندرية المعروفة والمجلوبة والمستنبطة من الموقف المؤسف!
■ الشهرة.. هل عانيت من نارها وعذاباتها؟
- أعتقد هذا.. فأنا أقطن في حى البغّالة بالسيدة زينب، واسمى يُذاع فى الراديو بين أهل الحي أكثر من خمس مرات في اليوم الواحد.. ولذلك فهو يتردد على ألسنة الكثيرين والكثيرات من أبناء الحِتة.. وتعجب عندما تسمع اسم «بيرم» يتحول عند النساء الشعبيات إلى «إبراهيم» ثم ينقلب بقُدرة قادر علي ألسنتهن إلى «إبراهيم الصائغ».. وأذكر أننى سمعت أحدهم في الطريق يسأل الآخر: إلاّ قوللى يا أبوسريع.. هو الجدع بيرم ده بيشتغل إيه مع ست الكل أم كلثوم علشان دايماً يقولوا اسمه معاها؟
- بايّنه بيشتغل ملحماتى.. (يقصد ملحناتى).
وفى كل يوم تنهال علىّ طلبات أهل الحى، يريدوننى للتوسط لدي أم كلثوم حتى تعاونهم على إنهاء مصالحهم عند المختصين.. يا لها من مكانة محترمة لدى الجميع.. وإن كنت أعلم في سرى لقربي منها أن الست ليس لها فى هذا المجال، والله يعلم أننى أبذل من الجهد الكثير حتى أصرفهم بأدب جم ولعل من الطريف أن زوجتى نفسها لا تعلم ماذا أشتغل.. وأذكر أن جارة لها سألتها: يا اختى هو جوزك بيشتغل إيه؟
- فأجابتها زوجتى العالمة ببواطن الأمور عن جهل: أنا عارفة يا اختى.. أهو كل يوم يدخل بجرايد ويخرج بجرايد.. بايّنه يا حبيبى بيّاع جرايد؟
■ أجمل ما قلته في المرأة؟
قطعة ربما كانت صوفية إلي حد كبير كان عنوانها «النسوان»:
في كل عام للورد أوان إلا النسوان
بقدرتك نابتين ألوان أبيض وأحمر
وأنت تعلم وأنا أجهل إيه فيه أجمل
من دي الخدود اللى لا تدبل ولا تتغير
ودى العيون اللى أشهدلك بها واسجد لك
دى خلت الطاغى انقاد لك والمتكبّر
والشفتين اللى فالقهم كنت خالقهم
للابتسام واللى رازقهم دانت تحيّر
ويأتى تعليق عبدالوهاب:
■ حقيقة يا بيرم سأظل أذكر ما قاله لي يوما أمير الشعراء أحمد شوقى بك «أنا لا أخشى على الشعر العربى طغيان أحد، إلا (بيرم) وأدبه الشعبى».
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.