عندما كنتُ فى زيارة الشاعر التونسى «أبى القاسم الشابى»،قبل أيام،التقيتُ مواطنه «بيرم التونسى»،الراحل بجسده عنا قبل نصف قرن،الخالد بأشعاره،فتواعدنا على إجراء مقابلة،وها أنذا أوفى بوعدى معه.. أصدقكم القول،أننى عندما كنتُ فى طريقى إليه هذه المرة،انتابتنى نوبة من الضحك،عندما تذكرتُ موقفه من المرأة،وتحديدا زوجتاه اللتان منحتاه جُرعات مكثفة من الحزن والألم،لمستُها بقوة، عندما حدثتُه فى هذا الموضوع،حتى أنه غضب منى،فالرجل الذى صوّر بأشعاره الغزلية المدهشة، مشاعر الحب وآلامه، واختزل حالات العشق أدق اختزال، لم يذق قلبُه طعم الحب قط، ولم يعش تقلباته،فهوالقائل:«لم أعرف الحب في حياتي، وأذكر أن المرأة لم تؤثر في حياتي بالمعنى المفهوم،فقد تزوجتُ اثنتين، وهما أميتان جاهلتان، تدفعان أسعد الشعراء إلى نظم الملاحم الحزينة واللطم والبكاء والسخط على الدنيا وما فيها، كانتا -سامحهما الله -تقولان للذكاء: قم لنقعد مطرحك، وللوحي: فز، روح العب بعيد عن بيتنا هناك». ظللتُ أضحك،على غير عادتى،حتى وصلت إلى «بيرم التونسى»،الذى بدا مندهشا من ضحكى الهستيرى،فسألنى:فيه إيه،إنت مبرشم واللا إيه؟ فقلت له:»مبرشم إيه يا عم الحاج؟!«،فعقّب:»إمال فيه إيه،بتضحك على روحك ليه؟فأجبته:«تذكرت كلامك عن المرأة فانتابتنى نوبة من الضحك»،فسألنى ساخرا:«ودى شماتة واللا..؟،وقبل أن أعقب،قال:»أكيد.. حالك من حالى ،فأردفتُ مقتضبا:ربما! قلت: دعنا نتفق يا عم «بيرم»،على أنك افتقدت الحب فى زيجتيك،ولكنك أبدعت فى صياغة الأغانى الرومانسية،التى خلدها صوت الست أم كلثوم،مثل : السعد وعد ،وغيرها..إزاى ده حصل؟ نظر «بيرم» إلىّ مليا،ثم قال: تصدق بالله ؟،قلت:«لا إله إلا الله» ،فباغتنى بقوله:»إنت رخم،وجاى ترخّم عليا،بس على فكرة،أنا أقدر أرخّم على عشرة زيك..وكمان ماسك فى الموضوع ده بالذات عشان عارف إنه بيضايقنى»؟ دخلت فى نوبة ضحك أخرى،قبل أن أرد:«والله،يا عم بيرم،مقصدتش حاجة،إنت اللى واخد الموضوع بحساسية،كل ما فى الموضوع عاوز أعرف إزاى الإنسان ممكن يعيش حياة بائسة حزينة،ويقدر يبدع هذا القدر من الأغانى الرومانسية المبهجة؟» انبسطت أسارير مضيفى هذه المرة،ثم استطرد: أبقى كداب لو قلت لك تفسير معين،بس ممكن يكون عمق الجفاف العاطفي اللي طبع حياتى الزوجية، جعلنى أعيش فقدان عوضته بالشعر، ثم أنشد: السعد وعد يا عين والاسم نظرة عين وأنا وانت روح مغرمة كان حظها من السما واجمعوا القلبين بعدها..باغتنى «بيرم» بشرط غريب،هو أنه لن يجرى الحوار،إلا باللهجة العامية،سألتُه:لماذا؟فأجاب:»أنا شاعر عامية،ومش هتكلم إلا بالعامية،عاجبك واللا لأ؟،قلت:ولا يهمك،يا عم بيرم..أمرى لله،وقد عقدتُ العزم على التحايل على طلبه،غير أنى وافقته على ما أراد. أثناء إعدادى للحوار،قرأتُ عن «بيرم التونسى»،أنه كان شاعرا موهوبا،عبقريا ،مكافحا، عاش حياة عاصفة، مغضوباً عليه من الطغاة والحكام،فخرج يجوب الأقطار منفياً مطارداً شريداً،يتذوق مرارة الفقر والجوع رغم ثرائه الروحي، وموهبته الفذة،كما كان شعره سجلا انتقادياً لأمراض المجتمع، هاجم فيه النفاق والتملق والاستغلال والانتهازية. ولمن لا يعلم،فإن»بيرم التونسى»،لم يبصر النور فى «تونس» الخضراء،بل وضعته أمه في منزل على شاطئ مدينة الاسكندرية، فى مارس من عام 1893، عاش طفولة بائسة،حيث تربص به اليُتم،فقضى أبوه مبكرا،فعانقه الفقر،فعمل «صبى بقال»،ولم يكن أتم عامه الرابع عشر بعد،ولم يحصل على الجنسية المصرية إلا فى عامه الأخير مع الحياة! أصدقكم القول،أننى لمستُ من «بيرم»،فى بادئ الأمر، ريبة،لم استوعب دواعيها،فقررت إرباكه،عندما سألته:»فيه حد يا عم «بيرم» يصدر مجلة،اسمها «الخازوق»؟،فبدا امتعاضه من سؤالى،فسعدتُ لذلك،ثم قال:»إنت مالك،دي حاجة تخصنى»،فلما لم يرق رده لى،قلت:»عموما،كانت اسما على مسمى،بدليل أنها كانت السبب فى نفيك وتشريدك»،قاطعنى قائلا:»شكلك جاى تقلب عليا المواجع،مرة بموضوع الحريم،ومرة تانية بموضوع «الخازوق»،قلت له :»لا مواجع ولا حاجة،كل ما فى الموضوع،حسيت إنك بترخم عليا..فرخمت عليك»!! فأطلق ضحكة طفولية بريئة،كشفت عن نفس هادئة نقية،فتبدد سوء التفاهم بيننا،وانطلقنا فى حوارنا،دون مشاكل.. فى هذه المرة،بادلنى هو بالسؤال عن حال مصر،فقلت له:»حالها يا عم «بيرم»حالك»،فقاطعنى فزعا:»إزاى وليه»؟،قلت له:»الإخوان ركبوا على البلد،وبيتصرفوا فيها باعتبارها عزبتهم،بعدما جابوا واحد منهم وعملوه رئيس»..فأنشد قائلا: ولما عدمنا بمصر الملوك جابوك الإخوان يا مرسى وقعدوك تمثل على العرش دور الملوك قلت له:«ولكن البعض ينطلى عليه الحدوتة وبيصدقوا الكدب»،فقاطعنى ساخرا: م المستحيل إنت تخدع أي طفل صغير و تلف عقله و تعطيه القليل بكتير لكن بأهون طريقة تخدع الجماهير لو كنت أغبى غبي تجري وراك وتسير!! قلت: بس بعض الكبار بيخدعهم الحاشية اللى حواليهم،فأنشد: و حمار يغني, وجايب من يقول له: آه حالاً تقول الخلايق كلها ويّاه قلت:رأيك إيه فيما يحدث فى بلاد الشرق؟ فأنشد: يا شرق فيك جو منور والفكر ضلام وفيك حرارة يا خسارة وبرود أجسام فيك تسعميت مليون زلمة لكن أغنام لا بالمسيح عرفوا مقامهم ولا بالإسلام قلت له:«ليه يا عم بيرم، الحق فى بلادنا مكروه وضايع وملوش صاحب»؟ فأنشد: الحق يخفى وفي وسط الزحام ينداس وناس في فهم الحقيقة, تتكل على ناس ويساعدك الحظ ياللي تحسن التجعير سألته:»من غير زعل يا عم بيرم،إيه بقى حكاية مجلة «الخازوق»؟ فتنهد طويلا ثم قال:»بعد إغلاق مجلة «المسلة»،بسبب موقفها العدائى من الملك فؤاد الأول ، أصدرت مجلة'الخازوق' اللى فتحت عليا باب الشقاء والتشرد، وصدر قرار بترحيلى من مصر،باعتبارى «تونسي»،و لا أحمل الجنسية المصرية، وكان ذلك فى أكتوبر من عام 1919. سألته:»وعملت إيه فى تونس؟»،أجابنى متحسرا:»قعدت فى تونس أسابيع قليلة،لأن أبناء عمومتى أنكرونى،وبعدها رحت على باريس،وعشت 7 سنين،أسود من قرن الخروب»،قلت:»وهل كان لهذه الواقعة نصيب فى شعرك»؟ فأجاب قائلا: الأولة آه والثانية آه والثالثة آه الأولة مصر قالوا تونسي ونفوني والثانية تونس وفيها الأهل جحدوني والثالثة باريس وفي باريس جهلوني قلت:»بس إنت رجعت لباريس تانى على ما أذكر،صح؟»،أجاب «بيرم»:»رجعت فرنسا،وعشت فيها 7 سنين،تنقلت خلالها بين «ليون» و»مارسيليا»،وامتهنت مهن صعبة،فوصلت إلى درجة «عامل ممتاز» في مسبك للحديد الصلب بباريس». قلت:وحياتك كانت أسعد مع الحديد،أم مع الأدب والشعر؟فأجابنى «بيرم» متعجلا:»أشهد أن حياتي مع الحديد، كانت أسعد من حياتي مع الأدب والزجل والشعر والصحافة «،سألته:لماذا؟ فقال بحزم:» الحديد كان لين طيع، يعطي ولا يأخذ، يستجيب ولا يعاند، بينما الشعر والأدب والصحافة كانت جاحدة جامدة مقترة، فقد كنت أتقاضى راتبي مرة كل أسبوع وإذا ما أجدت تأتيني العلاوة بلا إلحاح، في حين كانت الصحف المصرية ترسل لي جنيها واحدا لا غير كل ثلاثة شهور». قلت:»أعتقد أنه في عام 1932 وقعت فرنسا في أزمة اقتصادية خانقة، فقررت إبعاد العمال الأجانب لديها، فذهبت إلى تونس،و حصلت على ترخيص لإصدار مجلة 'الشباب»،فأجابنى:»صحيح»،قلت:وماذا كانت محطتك التالية؟ فأجاب:»رحت سوريا،وتخفيت هناك ،وظللت أراسل الصحف المصرية من هناك،حتى ألقت السلطات السورية القبض عليا،وصدر قرار بترحيلى من دمشق إلى فرنسا مجدداً.. وفي الطريق البحري الطويل ،توقفت السفينة في ميناء بورسعيد المصري، فهربت منها..» قلت:«ومن المؤكد أنك سجلت ذلك بشعرك؟»،فأنشد: غلبت أقطع تذاكر وشبعت يا رب غربة بين الشطوط والبواخر ومن بلادنا لأوروبا وقلت ع الشام أسافر يمكن ألاقيلي تربة فيها أجاور معاوية... وأكون ف حماية أُميّة جاورت قاسيون وجيرته توحش ولافيهش حاجة وعزرائيل انتظرته ماجاش وجاني الخواجة نافخ وسايق إمارته... وقاللي شوف السماجة البر تحت انتدابنا... اخرج ما هياش وسية قلت:»والحال كان إزاى بعد عودتك إلى مصر؟» فأجاب:»رجعت يا سيدى إلى القاهرة سنة 1938،وبدأت أنشرأعمالى فى جريدة 'الأهرام' ،بعدها تعاونت مع كبار المطربين أمثال: محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وأسمهان،ثم شاركت فى كتابة عدد من الأفلام،مثل: «عايدة»،»عنترة وعبلة» و»سلامة»،اللى غنت فيه أم كلثوم تسع أغنيات من كلماتى». قلت:»يعنى الدنيا ظبطت معاك بعد كده والحالة بقت أحسن»؟ قال «بيرم»: «الحمد لله،الدنيا صالحتنى،بس فى الوقت الضايع،يعنى في السنوات الأخيرة من حياتى اللى دامت 68 سنة،معظمها كان فقر ويتم وظلم وجحود وجفاء ونكران». قلت:الأسعار، يا عم بيرم غالية والفقرا بيزيدوا يوم ورا يوم فى دولة الإخوان،والأرقام الرسمية بتقول إن ربع المصريين فقرا،قاطعنى «بيرم» ب»آه «حزينة،ثم عقّب: أما الفقير قام واستجار ومن الهلع قلبه انخلع بايت يفكر .. ليل نهار ليرتفع سعر السلع و اللحمه أهيه و الخضار أسعارها حتسوق الدلع ياما الجنيه رخّص رجال وغَلىَّ أسعار الغنم دي جيفة منتنة صار ابن آدم عبدها فليسقط الصنم الجنيه اللي بتسجد له الأمم قلت له:بس الفقرا دول يا عم بيرم همه وقود الحياة،وهمه اللى بيتعبوا عشان غيرهم يعيش،فصمت قليلا،ثم رثى حالهم: ليه أمشى حافى ،وأنا منبّت مراكيبكم ليه فرشى عريان،وأنا منجّد مراتبكم ليه بيتى خربان ،وأنا نجّار دواليبكم هى كده قسمتى؟ الله يحاسبكم! ساكنين علالى العتب،وأنا اللى بانيها فارشين مفارش قصب،ناسج حواشيها قانيين سواقى دهب،وأنا اللى أدور فيها يارب ماهوش حسد لكن بعاتبكم فقاطعته بأبيات من نفس قصيدته: من الصباح للمسا،والمطرقة فيدى صابر على دي الأسى حتى نهار عيدى ابن السبيل انكسى ، واسحب هرابيدى تتعروا من مشيتى واخجل اخاطبكم بعدها أكمل «بيرم»: ليه تهدمونى وأناللى عزكم بانى أنا اللى فوق جسمكم قُطنى وكتّانى عيلتى فى يوم دفنتى مالقيتش أكفانى حتى الأسيّة وأنا راحل وسايبكم؟