ما أقسى الأنانية ونكران الجميل، ولقد قاسيت منهما الكثير من جانب أعز الناس لدىّ، فأنا رجل تعديت الستين ببضع سنوات، ولى شقيق واحد، ونشأنا معا فى بيت جدتى لوالدتى فى مدينة بورسعيد الباسلة، إذ انفصلت والدتى عن والدي، وتزوجت بآخر وتزوج هو أيضا بأخري، وانشغلا بحياتيهما الجديدتين، ولم يكن جدى لوالدى قادرا على تربيتنا لضيق ذات اليد، وانشغاله بظروفه وأوضاعه المعيشية التى حالت دون رعايتنا وتربيتنا، فأخذنا جدى لوالدتي، والحق أننا وجدنا لديه الرعاية والحنان، ولم نشعر يوما بأننا ينقصنا شيء، وكان لجدى ابن واحد وثمانى بنات بينهن والدتي، وشاءت إرادة الله أن يرحل الولد فى سن مبكرة، وكانت صدمة شديدة، وكاد جدى أن يفقد حياته أو يقعده المرض من هول الصدمة التى تعرض لها، وساعده إيمانه بالله على أن يتخطى هذه المصيبة، واحتوى جدتي، وكرر على مسامعها الآيات القرآنية التى تحث الناس على الصبر، وجزاء المؤمنين الذين يدركون أن ما يتعرضون له من محن وآلام، إنما يريد الله بها أن يختبر إيمانهم، وأن جزاءهم الأوفى سيكون يوم لقائه عز وجل. ولما حللنا ببيته أنا وشقيقي، عادت الابتسامة الى شفتيه، وعرفت الطمأنينة الطريق إليه من جديد، وقال لأهله، فقدت ولدا، فعوضنى الله بولدين، وكنا وقتها فى سن صغيرة، ولكن الأحداث كلها اختزنتها ذاكرتي، وكلما خلوت الى نفسى أدعو الله أن يريح بال جدى الذى انتشلنا من بحر متلاطم الأمواج تركنا فيه أبانا بلا سند ولا معين، فرحمة الله فوق كل شيء، وأقبلنا على دراستنا بكل عزيمة وإصرار، وخصص لنا جدنا شقة صغيرة، صارت هى ملاذنا الآمن، وعمل شقيقى معلما، أما أنا فقد التحقت موظفا بإحدى الشركات، ومرت السنوات وتزوجنا فى الشقة نفسها، ولم تقع بيننا أى خلافات، ولا حتى مجرد سوء التفاهم الذى يقع عادة بين الأهل، ولم أنس أبى ولا أمي، ولكنى لم أعرف عنهما أى تطورات بشأن حياة كل منهما، ولا عن إخوتنا منهما، فلقد تزوجت أمى للمرة الثالثة بعد زوجها الثاني، وأنجبت أولادا آخرين، ولك أن تتخيل حالة الجفاء وانقطاع صلة الرحم حتى بين الإخوة، وتحدثت مع شقيقى فى هذا الأمر المزعج، فلم يلق بالا لما أقوله، أما خالاتى فكن يسكتن ولا يجدن ردا مقنعا على استفساراتي، وكثيرا ما لمحت نظرة الشفقة فى عيونهن، وكانت إحداهن معلمة فى التعليم العام، وجاءها عقد عمل فى السعودية، وكاد مرض زوجها، وعدم استطاعته السفر كمحرم لها، أن يطيح بأملها فى الإعارة، وعرضت الأمر على شقيقي، فوافق على السفر معها، وأمضى سنوات الإعارة معها، وعمل خلالها بعقد استطاع الحصول عليه، وبعد انتهاء إعارة خالتى وعودتها الى مصر، تعاقد هو مع إحدى المدارس السعودية، وترك أسرته معنا الى حين تدبير أحواله، ومنذ سفره مع خالتنا، توليت أنا وزوجتى شئون أسرته، فلم نترك زوجته، ولا أولاده لحظة واحدة، وسهرنا على راحتهم، ولم يشعر أبناؤه بغياب أبيهم، وكان يرسل لى شيكات شهرية بالمبالغ التى أصرفها على أسرته، فآخذ منها حقى وأسلم الباقى لزوجته.. وهكذا ظللنا رفقاء حياة صعبة للغاية، بما فيها من متاعب جمة فى التحرك داخل مسكن ضيق لا يتصور أحد أن تعيش فيه أسرتان، وقد ألهمنا الله الصبر على الحياة فيه، ولولاه لما وجدنا مأوى غير الشارع، وكلما مرت الأيام أدركت كم أن الله سبحانه وتعالى كان بنا رحيما عندما أنزل الرحمة فى قلب جدي، فاتخذنا ولدين له، وليس حفيدين، فبعد رحيله لم يهنأ لنا بال، ولم تستقم حياتنا على النحو الذى نتمناه، وقد أنجبت ولدا وبنتا، وصار لشقيقى أربعة أبناء، «ولدان وبنتان»، وبرغم الانفراجة المادية الكبيرة فى حياته، لم يفكر فى أن ينتقل الى شقة مستقلة، ووجدتنى أنا الذى أبحث له عن سكن خاص، فقدمت طلبا له فى مشروع للإسكان، وتابعته فى كل المكاتب والمصالح الحكومية المختصة، وبعد جهد جهيد تسلمت لأسرته شقة رائعة بحى متميز، وأبلغته بالأقساط المحددة لها وكان ذلك فرجا للجميع من ضيق المكان، ثم أرسل الى زوجته تأشيرة للسفر إليه، وعملت هى عملا خاصا فى مساعدة زوجات أهل البلد الذى يعمل فيه فى شئونهن الخاصة، وصار لها دخل كبير، واستمررنا أنا وابنيّ وزوجتى فى تأدية مهامنا تجاه أبنائه. ومر عشرون عاما، ونحن على هذه الحال، ولم يتوان أحد فى أسرتى عن تقديم العون والمساعدة لأسرة شقيقي، وظل أبناؤه شغلى الشاغل، فلقد عاملتهم مثل ابنىّ تماما، ولم يطرأ لى على بال يوما رغد العيش الذى يعيش فيه والدهم الذى تركهم فى مصر كل هذه السنوات، وظل فى الغربة حتى جمع من الأموال الكثير، ووجدت سعادتى فى أن أقف الى جوارهم فى كل خطواتهم، إذ لا تعنينى المسائل المادية على الإطلاق، ونحن مستورون والحمد لله، لكنى فوجئت بعد عودته النهائية من الخارج يتنكر لنا، وكأننا لسنا أهله، ولا أنا شقيقه الذى عاش معه كل هذا العمر، ولا حتى زوجتى التى شغلت نفسها بأبنائه أكثر من أبنيها، ونازعتنى أسئلة كثيرة عن سبب نكرانه مساندتنا له، وتجاهله لنا، فلقد ابتعد عنا، ولا يرغب فى معرفة أى منا، وبلغ الأمر مداه بعدم سؤاله عنى حتى فى أيام الأعياد والمناسبات، واذا سعيت إليه، لا يرد علىّ، واذا تصادف وفتح الهاتف بطريق الخطأ يتعلل بأنه فى مشوار سوف يغيب فيه بعض الوقت، ولقد أفهمته كثيرا بأننا لا نبغى شيئا، وإنما نريد الاطمئنان عليه وعلى أسرته، فأنا أعيش حياة مستورة، ويكفينى معاشي، وابنى وابنتى متزوجان، ولكل منهما أسرة هادئة ومستقرة، ولا تشغلنا مظاهر الدنيا، لكن شقيقى وأبناءه صاروا على النقيض تماما منذ استقراره فى مصر، إذ اشترى لكل منهم سيارة أحدث موديل وشقة فى أفخم المناطق، إلى جانب الأموال المودعة فى البنوك، والمشروعات التجارية التى يشارك فيها، ومع كل ذلك نسوا حق الله، وصلة الرحم، وقد استوقفتنى مشاهد كثيرة فى الحياة عن مصير من يصنع هذا الصنيع، لكنى عاجز عن أن أعيد شقيقى إلى رشده، وأن أتواصل مع إخوتى من والدى ووالدتي، إذ لا أعلم عنهم شيئا. والعمر يمضي، وأشعر بدنو الأجل، فلماذا كل هذا الجحود والنكران؟.. وكم تساوى الدنيا، وكل واحد تلهيه أهواؤه عن التواصل مع أقرب الناس إليه؟. لقد استعدت شريط ذكريات حياتي، وأنا أكتب اليك هذه الرسالة، ووجدتنى أتأمل فصولها المؤلمة منذ انفصال أبى وأمي، وزواج كل منهما، وانجابهما أولادا وبنات، ثم لجوئنا إلى جدنا لأمنا، ثم انفصال شقيقى وغيابه بعيدا عنا وقطعه صلته بنا بلا أسباب، وأقول لكل زوجين: عليكما التحمل من أجل الأولاد، حتى وإن عشتما معا فى نار، فهى أرحم كثيرا من تفكك الأسرة على النحو الذى صرنا إليه، وأقول للإخوة والأشقاء: إلا صلة الرحم، ولعل شقيقى يدرك خطأه، ويعى أن الدنيا إلى زوال، وكذلك إخوتنا الذين أدعوهم إلى مد جسور التواصل بيننا لينشأ أبناؤنا فى كنف عائلة مترابطة، ولننبذ هذا الجفاء، فلا شيء أهم من لم الشمل، والمحبة والمودة، ولله الأمر كله، ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه وتعالي. ولكاتب هذه الرسالة أقول: تذكرت وأنا أطالع سطور رسالتك المؤثرة قصة أصحاب البستان، التى رواها القرآن الكريم فى سورة القلم، وهى قصة فيها الكثير من العبر، فما صنعه شقيقك الذى بخل عليكم ببعض ما أعطاه الله، وبالتأكيد منع حق الفقراء فى ماله ما دامت هذه حاله.. أقول إن صنيعه هذا لا يختلف عما فعله أصحاب الجنة «البستان»، الذين تجاهلوا إشارات الله وتحذيراته التى أرسلها إليهم ليعودوا إلى الصراط المستقيم، إذ يقول تعالى «إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة، إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين، ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربك، وهم نائمون، فأصبحت كالصريم، فتنادوا مصبحين، أن أغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين، فانطلقوا وهم يتخافتون، أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين، وغدوا على حرد قادرين، فلما رأوها قالوا إنا لضالون، بل نحن محرومون»، وتحكى تفاصيل قصتهم أنه كان هناك شيخ له جنة «بستان» ولا يدخل ثمره منها الى بيته حتى يعطى الآخرين حقوقهم فيها بمن فيه الفقراء والمحتاجون ولما مات هذا الشيخ وورثه بنوه، وكان له خمسة بنين، حملت جنتهم فى تلك السنة ثمرا أكثر من أى عام مضي، فلما رأوا انتاجها كذلك طمعوا فيه، وقرروا ألا يخرجوا حق الفقراء فيما رزقهم الله به، وقالوا لبعضهم، إن أبانا كان شيخا كبيرا ذهب عقله وخرف، فهلموا نتعاهد فيما بيننا ألا نعطى أحدا شيئا فى عامنا هذا حتى تكثر أموالنا، ورضى بذلك أربعة منهم، واعترض الخامس، وهو الذى ذكره الله فى السورة نفسها «قال أوسطهم، ألم أقل لكم لولا تسبحون»، ولكن لم تعجبهم نصيحته، وضربوه ضربا مبرحا، فلما أيقن أنهم يريدون قتله دخل معهم فى مشورتهم كارها لأمرهم، وراحوا إلى منازلهم بعد أن اتفقوا على الخروج فى الصباح الباكر قبل بزوغ الشمس، لقطف الثمار والعودة الى البيت قبل أن يجتمع الناس أمام البستان، ولأن الله عز وجل يعلم ما تكنه صدورهم، فأرسل الله البلاء على بستانهم، فاقتلع النبات من جذوره، وسقطت الثمار، وتيبست الأوراق حتى باتت كهشيم المحتظر، ولما جاء الصباح وقف الأخوة عند باب البستان وتساءلوا: أهذه جنتنا التى تركناها بالأمس مثقلة بالثمار؟.. فذكرهم شقيقهم الأوسط بأنه نصحهم بأن يراعوا حق الفقراء، فردوا عليه وفقا لما جاء فى هذه الآيات «قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين، فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين، عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون»، وكان إتلاف المحصول والخسارة الكبيرة التى تعرضوا لها سببا فى عودتهم الى الله وتوبتهم ومحاسبة أنفسهم، وندمهم على فعلهم الخطأ، وأرجو أن يتعلم شقيقك هذا الدرس البليغ، فلن تغنيه الأموال التى جمعها، ولا السيارات التى اقتناها، ولا كنوز الدنيا كلها عن لحظة واحدة تعيدان فيها لم شملكما، ويتواصل أولادكما معا من جديد. ولعله يعى أيضا أن النفوس الكريمة لا تعرف الجحود ولا النكران، بل إنها على الدوام وفية، ومعترفة بالفضل لذويه، وحتى لو أن أولاده دعوه الى هذا الجفاء يجب ألا يلقى بالا لهم، وإنما يبصرهم بأخطائهم، وبسوء ما يشيرون عليه به. ولقد دعتنى للخلاف عشيرتي فعددت قولهم من الإضلال إنى أمرؤ فىّ الوفاء سجية وفعال كل مهذب مفضال وعليه أن يدرك كذلك ما جاء عن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لكل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق، وأن تفرغ من دلوك فى إناء أخيك»، وليس هذا فقط، وإنما يبادر هو الى تلبية حاجة أخيه، ولو لم يطلبها منه، فلقد جاء مدين الى سفيان بن عيينه يسأله العون على قضاء حاجته، فأعانه ثم بكي، ورأته زوجته بهذه الحال فسألته: ما يبكيك؟ فرد عليها: أبكى لأن أخى احتاج إلى مساعدة، فلم أشعر بحاجته حتى سألني».. الى هذه الدرجة يجب على كل واحد أن يشعر بالآخرين، فما بالنا لو أن هؤلاء هم أهله، وأخوته. لقد غرت شقيقك أمواله، وحتى اذا استمر فى نكرانه جميلك، وما قدمته أنت وأسرتك له ولأسرته، فعليك أن تواصل سعيك إليه، وأن تبتسم دائما فى وجهه بل وأن تسعى الى مد جسور التواصل مع أخوتك من والديك، فللأخ مكانة ومنزلة كبرى لا يدركها إلا ذوو العقول الحكيمة والقلوب العامرة بالحب، ويدلل على ذلك ما فعله نبى الله موسى عليه السلام، حين اختار أخاه من أمه «هارون عليه السلام»، ليكون وزيرا له ويساعده فى دعوته، حيث يقول تعالى «واجعل لى وزيرا من أهلي، هارون أخي، أشدد به أزري، وأشركه فى أمري، كى نسبحك كثيرا، ونذكرك كثيرا، إنك كنت بنا بصيرا».. هذه هى الأخوة الحقة، وليس ما فعله أخوك الذى تخيل أنه بانقطاع الصلة بينكما سوف يحافظ على أمواله، ولن يفكر أحد فى طلب أى شيء منه.. نعم هو يفكر بهذه الطريقة العجيبة التى ستكون وبالا عليه، وإلا فما سبب هذا الجفاء غير المبرر؟ وإلى جانب ذلك فإن صلة الرحم سبب لزيادة العمر وبسط الرزق، فعن أنس بن مالك رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يبسط له فى رزقه، وينسأ له فى أثره، فليصل رحمه» رواه البخارى ومسلم، والمراد بزيادة العمر، البركة فيه، أما قاطع الرحم فهو من الفاسقين الخاسرين لقوله تعالى «وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، ويفسدون فى الأرض، أولئك هم الخاسرون»، وما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه بالعقوبة فى الدنيا مع ما يدخر له فى الآخرة من البغى وقطيعة الرحم. لكل ذلك أحسب أن الله لن يخذلك أبدا وأنت تراقبه، وتخشاه، وتحافظ على طاعته، فسطور رسالتك تنطق بما لم تستطع أن تكتبه، ويكفيك توكلك على الله، وأجد لسان حالك يقول مع الإمام الشافعي: توكلت فى رزقى على الله خالقي وأيقنت أن الله لا شك رازقي وما يك من رزقى فليس يفوتني ولو كان فى قاع البحار العواصف سيأتى به الله العظيم بفضله ولو لم يكن من اللسان بناطق وما دام هذا هو منهجك فى الحياة، فلن تعرف الأنانية طريقا إليك أبدا، ففى موتها تكمن السعادة الحقة على حد تعبير بوذا، أما شقيقك فإذا لم يعد الى جادة الصواب، فسوف يهدر حياته كلها فيما لا يفيد، وسيصحو يوما ليجد نفسه فى موقف أصحاب البستان، الذين ضنوا بإنتاجه على الآخرين، وعليه ألا يضن على أخوته، بالتواصل معهم، وعلى الآخرين ممن هم فى حاجة إلى المساعدة بأن يعطيهم حق الله، وإلا فالويل كل الويل له من شقاء ينتظره فى الدنيا، وعذاب سوف يساق إليه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.