كان لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسى المثقفين يوم الثلاثاء الماضى بداية لما يمكن أن يكون نقطة تحول فى علاقة المثقفين بالسلطة، ذلك أنه وضع لأول مرة آلية جديدة لتفعيل دور المثقفين وتحويلهم من منظرين قد لا يرتبطون ارتباطا مباشرا بالواقع الى مشاركين فى بحث المشكلات التى تواجه المجتمع وتقديم الأفكار لمعالجتها. فبعد أن استمع الرئيس على مدى نحو ساعتين ونصف الساعة إلى ما قدمه المثقفون من تشخيص دقيق وصريح لكل ما يعانيه منه المجتمع فى الوقت الحالى من مشكلات وأزمات فى مجال الحريات، وحقوق الإنسان، وتصاعد مظاهر التزمت الديني، وتردى التعليم والصحة، وانتشار البطالة، شكر الرئيس الحضور على حديثهم ثم سألهم: هل دور المثقفين يقتصر على الحديث النظرى ثم هم يغسلون أيديهم وينصرفون ويتركوننى أواجه الواقع بكل مشكلاته وأبحث عن الحلول دون مساهمة منهم؟ لقد قلت من بداية ولايتى إننى لن أعمل وحدى ليس تقاعسا منى عن أداء دوري، وإنما لأننى أعلم أن النجاح الذى نتطلع اليه جميعا لن يتحقق الا بتضافر كل الجهود، فأين أنتم من ذلك؟ وقد لفت نظرى فى حديث الرئيس الذى لم يزد على نصف الساعة، أنه لم يجادل المتحدثين فيما قدموه من نقد شديد لبعض المظاهر السلبية فى حياتنا، وإنما طالب بتوجيه جهود المثقفين إلى العمل على إصلاح تلك الأوضاع، وهذا إقرار منه بأن للمثقفين دورا عليهم القيام، وقد كان الرئيس هو الذى قدم للحضور آلية جديدة لتفعيل هذا الدور الذى طالبهم به، وقد تمثلت تلك الآلية فى الخطوات التالية: أولا: تشكيل مجموعات عمل امن الحاضرين وغير الحاضرينب على حد قوله، لبحث مختلف المشكلات التى يواجهها المجتمع، والتى عرضها المثقفون باستفاضة خلال الاجتماع، ووضع الحلول التى يرونها لكل منها.ت ونلاحظ هنا أن الرئيس اختار أن يستخدم تعبير مجموعات عمل وليس لجانا، ولهذا الاختيار دلالته، فالتعبير الأول يدل على الجدية ويجسد معنى الإنجاز، بينما قد يوحى التعبير الثانى بالتسويف والرغبة فى عدم الحسم والاكتفاء بما يدور داخل اللجان من مناقشات ومحاورات قد لا تنتهى الى شيء. ثانيا: لم يطلب الرئيس من المثقفين بعد أن ينتهم من وضع الحلول التى يرونها أن يرفعوا توصياتهم إلى أجهزة الدولة المعنية فتضيع وسط أروقة البيروقراطية ودهاليزها المظلمة، وإنما اختار أن يبحثها بنفسه مع المثقفين لبحث كيفية تنفيذها.ت ثالثا: أن الرئيس لم يترك التوقيت مفتوحا أمام شهية الكلام التى قد تجرف المثقفين المشاركين فى هذه المجموعات شهورا وشهورا، وإنما وضع حدا زمنيا عليهم ألا يتعدونه، هو شهر، قال إنه سيعود بعده للاجتماع بهم لبحث ما توصلوا اليه. إن هذه بلا شك آلية عملية وفعالة تضمن إحداث التفاعل المطلوب فى أى مجتمع متقدم بين الثقافة والسياسة، وتسمح بمشاركة المثقفين فى اتخاذ القرار، كما أنها تتيح للبلاد الاستفادة من عقول مفكريها ومن أفكارهم التى هى الرصيد الحقيقى للحلول والمستودع الذى لا ينضب لتقدم الأمة. لقد أتاح الرئيس بذلك للمثقفين فرصة تاريخية لانتقال أفكارهم وتصوراتهم حول مختلف القضايا من الدائرة المفرغة المحصورة ما بين المقالات الصحفية والأحاديث التليفزيونية، إلى بؤرة اهتمام رئيس الجمهورية شخصيا الذى هو قمة السلطة التنفيذية فى البلاد. لذلك لم أكن مغاليا فيما أدليت به من تصريحات للزملاء الصحفيين بعد انتهاء اللقاء حين وصفت الاجتماع بأنه تاريخي، لأنه فتح الطريق فى رأيى لإحداث نقلة نوعية فى علاقة الثقافة بالسلطة. لقد شرف المثقفون حتى الآن بأكثر من لقاء مع الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال السنتين الماضيتين، كان أولها فى أثناء حملته الانتخابية وقبل أن يتولى المسئولية، وقد عرض فيه رؤيته للأوضاع التى كانت سائدة آنذاك وما يتطلع لتحقيقه، وقد تخطى هذا الاجتماع محاولة كسب تأييد أصوات المثقفين فى الانتخابات، ليكون تعبيرا صادقا عن اقتناع الرئيس الثابت بدور الثقافة والمثقفين فى المجتمع، ذلك أننا وجدناه فى خطاب تنصيبه بعد نجاحه فى الانتخابات، يفرد جزءا كبيرا للحديث عن الثقافة وأهمية دور المثقفين باعتبارهم صانعى القوى الناعمة لمصر والتى أقامت مجد البلاد على مر العصور، فمصر القديمة لم تصنع حضارتها بالجيوش الغازية ولا بالاقتصاد العابر للحدود كما كان الحال مع حضارات أخرى كالرومانية أو الفارسية وغيرهما من الحضارات القديمة التى صنعت مجدها بإخضاع بقية شعوب الأرض بالغزو العسكرى وإقامة الإمبراطوريات المترامية الأطراف، فقد صنعت مصر حضارتها كلها داخل حدودها بالمعمار المعجز وبالفكر وبالعلوم وبالزراعة والطب، وفى العصر الحديث أيضا استمدت مصر مكانتها الإقليمية بالفكر والأدب والشعر، وبالفيلم السينمائي، وبالأغنية، أى بالثقافة والفنون دون غيرهما. وقد جاء خطاب الرئيس يوم تنصيبه معبرا عن هذا المعنى الأصيل والصحيح للقوى الناعمة المصرية، فى الوقت الذى وجدنا الرئيس السابق محمد مرسى على سبيل المثال يتحدث فى خطاب تنصيبه عن أهله وعشيرته ويعدد فئات الشعب التى سيرعاها بما فى ذلك سائق التوك توك على حد قوله، دون أن يذكر المثقفين من الأدباء والكتاب والمفكرين والفنانين من قريب أو بعيد. أما الرئيس مبارك فلم يكن يتواصل مع المثقفين إلا فى المناسبات الثقافية الكبري، مثل افتتاح معرض القاهرة الدولى للكتاب، وفيما عدا ذلك كان يفضّل تجنب اوجع الدماغب الذى كانوا يسببونه له، إلى أن قرر فى سنواته الأخيرة بالحكم ألا يلتقى المثقفين على الإطلاق، فتم إلغاء لقائه السنوى فى افتتاح المعرض. على الجانب الآخر ممن سبقوه وجدنا الرئيس السيسى يجتمع بالمثقفين قبل توليه السلطة ثم يعود فيلتقيهم ثانية بعد توليه إياها دون ان تكون هناك مناسبة ثقافية تدفعه لذلك، فقد كان اجتماعه بالمثقفين فى العام الماضى بهدف الاستماع إلى آرائهم، كما شرح آنذاك، وليناقش معهم مستقبل البلاد الذى اعلينا أن نشارك جميعا فى صنعه. على ان جميع لقاءات الرئيس بالمثقفين كانت حتى ذلك اللقاء الأخير يوم الثلاثاء الماضي، جلسات نقاش مفيدة للطرفين بلا شك، لكنها لم تتعد حدود المناقشة، والحقيقة أن الرئيس كان قد طرح على المثقفين فى اجتماع العام الماضى أن يجلسوا معا ويقدموا إليه رؤاهم حول مختلف قضايا المجتمع، لكن شيئا من ذلك لم يتم، وربما كان هذا هو السبب الذى دعاه هذه المرة الى عدم الاكتفاء بطلب مشاركة المثقفين فى طرح الحلول وانما قدم لهم أيضا الآلية الكفيلة بتحقيق ذلك التواصل المفقود، والذى كثيرا ما تطلعنا اليه بين المثقفين والسلطة، فهل سينجح المثقفون فى استثمار هذه النقلة النوعية؟ لمزيد من مقالات محمد سلماوي