بعد عملية ضرب البرجين في نيويورك في 11 سبتمبر 2001 التي تسميها جماعة داعش “مباركة” لم يتحرر العالم على الإطلاق من تهديد الإرهاب “الجهادي”، وإن مرت فترات بدا فيها التهديد منحسرًا نسبيًا. ولكن مذابح باريس وعواقبها في بروكسل آذنت ببداية عصر جديد من الإرهاب الواسع النطاق. فبعد بضعة أيام من القبض على صلاح عبدالسلام المشتبه بضلوعه في هجمات باريس في بروكسل ضربت داعش المطار في وسط العاصمة البلجيكية. وقبل أن يفيق البلجيكيون من الصدمة انفجرت قنبلتان في محطة مترو ساعة الذروة مخلفة عشرات القتلى والمصابين. وتمثلت العاصفة في إعلان داعش مسئوليتها عن الفعلة الإجرامية. و بروكسل هي الأحدث في قائمة الضحايا من سيناء وحتى بيروت ومن بغداد والرقة حتى ليبيا وتونس وأنقرة. ومنذ إعلان “خلافة” في يونيو 2014 حقق تنظيم داعش توسعًا بسرعة قاتلة. وبخلاف القاعدة احتل التنظيم أراضي واستولى على مساحات من العراقوسوريا، ومنح ما يشبه الدولة داعش أساسًا إيديولوجيًا للعدوان الخارجي وأرض تدريب للجهاديين المبتدئين. وليس التهديد مختلفًا كميًا فحسب عن الأشكال السابقة من التطرف المستتر بالدين، بل إن تنظيم داعش يعتبر هذه الأشكال إسلامية الادعاء وغير إسلامية أهدافًا مشروعة لضرباته. وبعد هجمات بروكسل الإرهابية أعربت العواصم الأوروبية عن تعاطفها مع الضحايا ويسود خوف من احتمال تكرار مثل هذه الوحشية في أي منها. وربما كانت نشأة تنظيم داعش نتيجة جانبية للغزو الأمريكي للعراق في2003، مثلما كانت القاعدة بدرجة كبيرة نتاجًا لحرب بوش الأب لتحرير الكويت. ومن المفارقات الكارثية أن الحرب على أفغانستان وبعدها العراق كرد فعل على هجوم القاعدة على نيويورك في 11 سبتمبر 2001 انتهت بظهور عدو أشد وحشية وإرهابًا وخطورة من القاعدة، عدو لديه قدرة على السيطرة على أراض مأهولة بالسكان في العراقوسوريا وإعلان “دولة” تتوغل حيث يسود الفراغ الناشيء عن ضعف الدولة وتفككها في كل من البلدين. وامتد خطر التنظيم إلى الغرب في هجمات انتقامية على عواصم أوروبية‘ وكانت ضربات فرنسا المكثفة على مواقع داعش في الرقة السورية هي التي استشهد بها التنظيم تبريرًا لحملته الإجرامية على باريس وتعاون بلجيكا ضد التنظيم هو مبرر هجماتهم الأخيرة في بروكسل. لقد أدت أعوام من التدخل الغربي وسوء إدارة عواقبه إلى ظهور أبشع كوابيس الغرب من صنع يديه. وبعد هجمات باريس اشتدت الضربات الجوية على معاقل داعش في سوريا وانضمت بريطانيا ودول أخرى للتحالف، وبدأ تنسيق غير متوقع مع روسيا. وسرعان ما اتهم التحالف الغربي روسيا بضرب أعداء الأسد الذين تلقوا تدريبًا عسكريًا غربيًا. ولا يبدو أن لدى هذا التحالف استراتيجية كبرى تقابل طموح داعش اللا محدود، استراتيجية عسكرية ودبلوماسية واقتصادية وثقافية لمقاومة الإرهاب الجهادي وعقائديته الجامدة. وعلى الرغم من أن داعش لايزال ينشرالإرهاب فإن نقاط ضعفه صارت بادية للعيان. ولقد طرد المقاتلون الأكراد الخلافة المزعومة من مدينة كوباني السورية تساندهم القوة الجوية الأمريكية، وقد تم عصرها في تكريت بين الجيش العراقي وميليشيات شيعية بتنسيق من إيران. وانكمشت أرض التنظيم وتناقصت موارده المالية بعد أن قصفت أمريكا وحلفاؤها موارد النفط، وبيع معظم الرهائن أو قطعت رقابهم وتضاءلت غنائم الغزو. وهناك تقدير بأن التنظيم فقد ثلاثة أرباع موارده وصار من الصعب عليه أن يواصل الحرب ويقدم خدمات لملايين من البشر تحت سيطرة حكمه. وقد يساعد ذلك على تفسير علامات التوتر الداخلي، بل لقد بدأ التنظيم في قتل بعض أتباعه أحيانًا لهربهم أمام العدو،وفي مناسبة واحدة على الأقل لافتراض قطعهم المتحمس لرءوس عدد كبير من الضحايا أكبر من المسموح به لهم. واشتكى السكان المقيمون من الابتزاز والقهر العنيف والخدمات المتدهورة. وثمة تقارير عن توتر بين الأنصار المحليين والأجانب بسبب الفوارق في الرواتب. وبالحكم وفق مقاييسها الخاصة نفسها فإن “الخلافة” تفشل بوضعها الحالي كنموذج للمجتمع وكدولة إسلامية نموذجية. ويتخبط تنظيم داعش في أزمة قد وجدت قبل استيلائه على أراض في العراقوسوريا. وأدت الضربات الموجهة إليه وفشله في حل أي مشكلة إلى أن يفقد ما يقرب من 40% من الأراضي المأهولة بالسكان تحت حكمه في العراق ومن 10-20% من الأراضي التي استولى عليها في سوريا وفقًا لتقديرات أمريكية. وأعلن البنتاجون تدمير قدرة داعش على إنتاج الأسلحة الكيماوية. لكن التنظيم الإرهابي ينتشر بالفعل في ليبيا وعلى الحدود التونسية وأعلنت جماعة أنصار بيت المقدس المسئولة عن عمليات إرهابية في سيناء ولاءها لتنظيم داعش. ومع امتداد الضربات الإرهابية إلى أوروبا يبدو أن التنظيم يوسع نطاق الاشتباك وربما يراهن على تجنيد مزيد من الأوروبيين من أصول عربية. ولم تظهر إدارة أوباما في نهاية ولايته الثانية حماسًا كبيرًا للتدخل في الصراعات في المنطقة ويسود رأي بترك المواجهة للأطراف المحلية. ومن ناحية أخرى تتزايد دعوات اليمين لتوسيع الحرب ضد الإرهاب. وستحسم الانتخابات الرئاسية الأمريكية هذا الخلاف. لمزيد من مقالات ابراهيم فتحى