عندما تجتمع الدراسة الأكاديمية مع التخصص العملى والممارسة فلا شك أنها تنتج مؤهلات لهن قدرات ورؤية ثاقبة.. الدكتورة دعاء محروس استشارى الصحة النفسية والتربية ومدرب معتمد فى العديد من الجامعات فى مصر وبريطانيا والوكالات الأمريكية قررت أن توضح للأم المصرية ما تخسره عندما تقبل باغتراب أبنائها عن لغة الوطن. قالت: إن الغربة اللغوية الحالية التى يعانيها الشباب إنما هى نتاج مباشر للعولمة الثقافية والانسلاخ عن لغة الأم والرغبة فى الذوبان فى المجتمعات الغربية، وقد سبقتها سنوات من التباهى والتعالى بتعليم الأبناء فى مدارس خاصة وأجنبية وذلك تقليد دون فهم للآخرين، وقد صاحبه تجنب وابتعاد متعمد عن استخدام اللغة العربية بحجة صعوبتها مما أدى لتراكم نوع من أنواع (مشاعر) الاغتراب الثقافى للأبناء، فانتهى الأمر بانفصالهم عن شعبهم وعن ثقافتهم (الأم والوطن) بصورة مبالغ فيها. ومن ناحية أخرى يقوم المخترق ثقافيا بنشر فكر وثقافة تخدم العولمة (وتضر غالبا بمصالح وطنه وتميزه) مما يضر بمشاعر الانتماء لدى الصغار بصفة خاصة ولدى كل أفراد المجتمع، فتختلط عادات وتقاليد ثقافتهم مع العادات والتقاليد المنقولة عن الثقافة الأخرى مما يجعل الطفل الذى تعرض لذلك يعانى عبء الصراع بين الثقافات فى مرحلة الشباب فيلجأ الى الهروب من هويتة الأم ويستمر فى الاستسلام للثقافة الغربية فيقلدها تقليدا أعمى دون فهم عميق لمكوناتها. والشعور بالانتماء يفقد عند الإنسان الذى يتعرض ويتأثر بثقافة أخرى ويظهر رفضه لثقافته الأصلية فى صورة تحقيرها ومقاومتها والتعامل معها باعتبارها من مظاهر التدنى وليس التميز لأن الصغار لا يستطيعون إدراك الفرق او الوعى بخطورة التغيير بسبب صغر سنهم، فلا (يستطيعون فلترة) ما يقدمه لهم الغرب الذى يخترق هويتهم الثقافية بأفلام الكرتون والألعاب الإلكترونية والتعليم فى المدارس الدولية، ويضاف الى ذلك أن المواد التى تقدم لهم باللغة الأم لا تعرض بصورة مناسبة بحيث تؤدى لتنافس الأفكار الثقافية المميزة له عن تلك الغريبة المضعفة لثقافته. كل ذلك بالإضافة الى ضعف المناهج الدولية وغياب دور التربية الدينية فى أثناء عملية التنشئة فى المدارس يؤدى لتأثر الأطفال الذين يستمدون أفكارهم ممن حولهم من معلمين وزملاء او من التوجه الأسرى، والمشكلة أن أسرنا لا تقدم لأطفالها التربية بقدر ما تقدم لهم الرعاية من مأكل ومشرب وملبس، أما تقديم التربية فيكون بالتوعية بالذات الحقيقية ثم بالآخر، والحديث النبوى يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، والتقصير الذى تقوم به الأسر بتوجيه أطفالهم لتبنى الثقافة الغربية كمنهج حياة يتطلب تقديم بديل أقوى يعيد بناء انتماء وإعجاب أطفالنا بثقافتهم وحضارتهم. وتضيف أن تدارك التغريب الذى يعانيه أبناؤنا يبدأ باتباع خطوات منها: أن يبدأ المربى مبكرا فى تنمية الحس الوطنى بالتميز الثقافى فى نفوس أبنائنا ببث الوعى بتاريخ الأمة ككل وأبطال الوطن وتوفير حكايات مثيرة عن دور أجدادنا فى حماية الوطن والحفاظ على تميزه وحرية أرضه و(فكره) أن يتجنب المربى أو ولى الأمر توجيه الكلام المباشر للطفل حول الانتماء الوطنى او الثقافى حتى لا يتحول كلامنا الى خطب مليئة بالشعارات لا فائدة منها. على الوالدين تعويد الطفل مبكرا على الانشغال بهموم الوطن والعمل على خدمة المجتمع تطوعيا، فذلك يساعد الأبناء على الارتباط بالوطن وإدراك ثقافته وعليه أن يشعرهم بأن خدمة الوطن مدعاة للفخر تفوق أى عمل آخر. أخيرا علينا أن نعرف أن الانتماء مثله مثل باقى المكتسبات المجتمعية ينتقل للأطفال بالتعلم من الوالدان والمحيطين، فإذا كان الوالدان يرغبان فى التنصل من مسؤلياتهما تجاه الوطن والتخلى عنه وكراهيته أدى ذلك الى تراجع الانتماء بين الأبناء، بينما كلما زاد شعورنا بالانتماء وترجمنا مشاعرنا لمواقف وأفعال نقلنا تلك المفاهيم السامية الى عقول أبنائنا ووجدانهم دون أن ننطق بكلمه واحدة. ويزداد الأمر خطورة إذا ما قام إعلاميون او ممثلون بانتهاج سلوكيات غربية تضر بالمجتمع مثل تفضيل شراء السلع الأجنبية والتفاخر بالهجرة والسفر او بازدواج الجنسية. إننا الآن نلمس فى أبنائنا بذور الاستعمار الثقافى وهى تتضاعف بتهميش الدين وتقليل الاهتمام باللغة الأم فينشأ جيل يسهل نزع هويته مما يتطلب توفير علاج سلوكى له. ومن الضرورى توجيه الأسرة والمدرسة الى الاهتمام بتشكيل المواطنة وتنمية الإحساس بها بالإضافة الى دور العبادة ووسائل الإعلام والعالم الافتراضى وأجهزة التواصل المختلفة. ابعاد الصغار عن كل ما يثير الفتن حتى يصلوا الى مرحلة يتكون فيها لديهم القدرة على التمييز وتقدير المصلحة العامة للوطن. ولابد أن يتدخل المهتم بالتربية بالاهتمام باختيار الأوساط المحيطة للطفل كنوع المدرسة والأصدقاء والنادى، ومتابعة ما يشاهده الطفل لأننا فى عصر يصعب فيه قيام الدولة بدورها فى متابعة ما يقدم. ولن يفيد الآن تجنب التعرض للغات أخرى بل لابد من التعرف على العدو وفكره وقراءته جيدا بلغته لكن علينا أن نعلم أبناءنا أنه لا سبيل أمامنا لانتزاع حقوقنا إلا بالتعلم وخلق عقول واعية تستطيع التعرف على ذواتها وتميزها. ولابد أولا وأخيرا من قيام مؤسسات الدولة بتعميق التركيز على مفهوم الهوية والانتماء الوطنى فى كل ما يقدم لنا ولأولادنا لأن فاقد الانتماء لن يعطى الوطن وعيا بالهوية.