جولة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الأخيرة فى سياق أحداث السنوات القليلة الماضية التى شهدت ذروة التفاعل والتدافع بين المنطقة العربية والغرب ، ربما تؤرخ لمرحلة جديدة ينفتح فيها الغرب على القوى الإسلامية الحقيقية المؤثرة والممثلة للشعوب والقادرة على استيعاب الثقافات والتأقلم مع المفاهيم الحديثة ، والمؤهلة فعلياً لمناهضة التطرف والإرهاب . ظنت الولاياتالمتحدة أنها ستحصل على ذلك بالتحالف مع الإخوان فترجمت ما أوصت به مراكزها البحثية على أرض الواقع ومنها ما ذهبت إليه دراسة مؤسسة راند للأبحاث الدفاعية التابعة للبنتاجون عام 2007م بعنوان " بناء شبكات إسلامية معتدلة " ، بشأن " إسقاط النظم العربية الاستبدادية وإحلال القوى الإسلامية المعتدلة والديمقراطية مكانها ، وضرب الجماعات الإسلامية المتطرفة " . لكى تلمع أمريكا صورتها الديمقراطية طالبها مفكرها فرنسيس فوكاياما بضرورة أن " تعجل بغسل يديها من اللوثة التى ارتكبتها فى العراق " وفى كتابه " أمريكا فى مفترق طرق " وصف التحولات فى الشرق الأوسط بأنها " منتجات تصدرها للعالم كوسيلة للخلاص من أزماتها " ، ولم تكن هذه الشبكات سوى التنظيم الدولى للإخوان الذى انخرطت كياناته مثل " أكاديمية التغيير " – التى يديرها هشام مرسى – و " مؤسسة النهضة " التى يديرها جاسم سلطان .. إلخ وشخصيات مثل أردوغان وراشد الغنوشى ويوسف القرضاوى وعبد المنعم أبو الفتوح وإبراهيم صلاح ومحمد المقريف ويوسف ندا وفتح الله غولن .. إلخ فى تنفيذ الإستراتيجية الجديدة التى هدفت لنقل الحركة الإسلامية من خانة العداء للغرب والكيان الصهيونى إلى عامل دعم للمحور الأطلسى ، ولإحراز التفوق على المحور الشرقى وتحجيمه وتأمين مصادر الطاقة ولفرض الاستقرار والأمن فى الشرق الأوسط . تعثر المشروع لأسباب كثيرة تتعلق بسوء تقدير الإدارة الأمريكية تجاه الملف السورى والمصرى تحديداً ، لكن الأسباب الجوهرية تعود لطبيعة تكوين جماعات الإسلام السياسى التى أعاقت التحول المنشود حيث طغت نشوة النصر على " الطواغيت " ، وأحرقت سكرة استلام السلطة وعود الشراكة واحترام التنوع ، وفشلت المعارضة الإسلامية المعتدلة فى سوريا فى صنع الفارق فى مواجهة التنظيمات المتطرفة المنتمية لداعش والقاعدة ، وأدى ضعفها وتشتتها وعجزها عن خلق صيغة توافق بين الانتماءات والمذاهب المختلفة – باعتراف هيلارى كلينتون – إلى هيمنة القوى الأكثر تشدداً وعداءاً للغرب ، وفى مصر صب فشل الإخوان فى صالح مضاعفة نفوذ وحضور القاعدة وداعش ، أما تركيا التى جسدت النموذج الإسلامى المعتدل لدى الغرب ، فتحالفت مع التنظيمات الأشد شراسة ودموية . هنا يتضح الفارق بمشاهدة فكر وأداء وخطاب شيخ الأزهر للغرب ، بين العالم المستقل المتجرد لقضايا دينه وأمته ووطنه ، وآخرين منحازين لتنظيماتهم ومصالح جماعاتهم الضيقة ، وبين من ينتقص مكانة الإسلام بإدخاله فى صراعات لا تخصه وليس مسئولاً عن إخفاقات الجماعات والتنظيمات فيها ليؤدى ذلك إلى تقليص سلطان الإسلام الروحى والدعوى بعد الترويج بأنه سقط سياسياً وحزبياً بسقوط جماعة أو تنظيم أو أنه دين عنف وجمود وإرهاب، ومن يحرص على تقديم الإسلام للعالم بوجهه المشرق وقيمه السامية بمعزل عن مطامع السلطة ولوثات التحزب ، وبين من يوقعهم الغرب فى فخ الاستغلال لتحقيق مآربه وتنفيذ استراتيجياته ، ومن يطرح نفسه بما يمتلكه من تراث ثقافى وقيمى كشريك حضارى فاعل لا يقبل بدور التابع أو الأداة . الأفكار التى صاغها الإمام أحمد الطيب أمام البرلمان الألمانى هى المعبرة بالفعل عن الشعوب العربية والمسلمة ، وهى القابلة لأن تكون أساساً لعلاقة سوية بين المسلمين والغرب ، ليس فقط لكونها صادرة عن المؤسسة الدينية الأكبر فى العالم الإسلامى ، بل أيضاً لأنها متجردة وثابتة وغير قابلة للتلاعب والعبث بها وفق تكتيكات السياسة وألاعيب السلطة . وإذا كانت مؤسسة راند وتنظيرات فوكاياما وأبحاث مفكرى الغرب وقناعات أجهزة الاستخبارات الغربية قد رشحت الإسلام السياسى والإخوان للإدارة الأمريكية بوصفه القوة الشعبية الأكثر تأثيراً ، وهو ما هُزم فى اختبار الواقع ، فإن الحفاوة الشعبية التى اسْتُقبل بها شيخ الأزهر فى إندونيسيا كافية لدفع كافة الأطراف نحو مراجعة حساباتها وتصحيح تصوراتها. وإذا كانت الولاياتالمتحدة قد حققت بعض أهدافها لأسباب معقدة ومتشابكة ، فإن المسئولية الكبرى تقع على عاتق تلك الكيانات الإسلامية التى وظفتها ، وليس من المستبعد أن يكون التوظيف من البداية بغرض إفشالها وإجهاضها تماماً بعد كسر حدة عدائها للغرب وصولاً لما نراه اليوم لتصبح الخديعة فى هذه الحالة مكتملة الأركان. نذكر وثائق ويكيليكس التى سبقت الثورات ب 20 يوماً ونشرت فى 28 يناير 2010م لتهيئة المناخ لغضب الشارع بفضح فساد الأنظمة العربية أمام شعوبها ، والتى ساهمت كما قال جوليان أسانج نفسه " فى إشعال الثورات وكانت كمن يجفف أوراق الموقد تمهيداً لإضرام النار فيها " . واليوم يتم تسريب وثائق ويكيليكس جديدة تخص جماعة الإخوان فى هذه المرحلة تحديداً مع ظهور الخلافات بين تركياوأمريكا وظهور تداعيات فشل مشروع الغرب بالتحالف مع الإسلام السياسى وتوصية لجنة الكونجرس باعتبار الإخوان إرهابية. وثائق ويكيليكس لا تُسرب بصورة عشوائية ، إنما بدقة متناهية وفى توقيت مدروس لغرض استخباراتى بعينه .. وأظنه كذلك بالنسبة للإخوان فى هذه المرحلة «كمن يجفف أوراق الموقد تمهيداً لإضرام النار فيه» . لمزيد من مقالات هشام النجار