ما زلت في أثناء كتابة هذه السطور أتابع في قلق مجريات و توابع ما عرف باعتصام العباسية قرب وزارة الدفاع المصرية; و كنت منذ أيام في رحاب نخبة من الأصدقاء الفلسطينيين نحتفل بوداع المناضل رءوف نظمي الذي استهللت واحدا من كتبي بعبارة إلي أخي الدكتور محجوب عمر مصريا في صفوف الثورة الفلسطينية, و تداعت الذكريات الشخصية السياسية من انتصار أكتوبر1973, إلي دخول عرفات و رفاقه علنا إلي أرض فلسطين للمرة الأولي أول يوليو1994, إلي الأيام الثمانية عشر لثورة يناير المصرية. كانت أياما تتشابه في توهجها بالبهجة, و لكن لماذا خفتت البهجة سريعا؟ لعله مما يستوقف النظر أن ثمة تشابها ملفتا أيضا في مظاهر خفوت ذلك التوهج المبتهج: القول بأن هناك من سرقوا الانتصار و من ثم فإن مشهد تتويج ذلك الانتصار لم يكن حقيقيا أو بعبارة أخري لم يكن متناسبا مع انتصار دفعنا فيه ثمنا غاليا. علينا إذن استئناف أو استمرار أو حتي بدء العمل الثوري من جديد: علينا تحرير سيناء و تحرير فلسطين و إسقاط نظام مبارك. إن ما جري في ثورة يناير لا يتفق مع تصورات الثوار التقليدية للثورة التي تقيم سلطتها و نظامها علي أنقاض نظام دمرته تدميرا, و من ناحية أخري فإن ما جري لم يكن مطابقا أيضا لتصور رئيس و رجال النظام السابق لما يعرفونه عن ملامح الثورة, فلم يحدث انقلاب عسكري يطيح بهم, و لم تطلهم أيدي الثوار, بل تم التفاهم بين المجلس الأعلي للقوات المسلحة و الرئيس السابق علي التنحي, و كذلك الحال بالنسبة للمجلس العسكري فهو لم يصنع الحدث و لم يتول السلطة بإرادة الثوار ولا بآلية الانقلاب العسكري التقليدية. لقد أدي الطابع السلمي للثورة إلي فقدانها للملامح المعروفة و المثيرة للثورات والانقلابات, و لذلك ساد لدي الأطراف جميعا بمن فيهم الثوار أننا حيال حدث مجهض غير مكتمل, و أغري ذلك الجميع بضرورة استكمال الحدث كل لصالحه. و اجتمعت الأطراف جميعا علي تغذية الإحساس بأننا علي حافة هاوية لا قرار لها و لا مهرب منها إلا بأن يحقق أحد الأطراف انتصارا حاسما: تثبيت النظام القديم و استعادة رموزه لمكانتهم, أو استمرار المجلس العسكري في السلطة لأطول فترة ممكنة ضمانا للأمن والاستقرار, أو السعي لثورة جديدة تتخلي عما علق بالحدث الأول من شبهة السلمية. و اندفعت الأطراف الإقليمية و الدولية لاستثمار ما حدث, و كان ضمن أهدافها الاستراتيجية تحطيم الشعار الذي يهدد القوي العظمي و حلفاءها الإقليميين و هو شعار سلمية سلمية; فبعد نجاحهم في تشويه تحرير سيناء و طمس انتفاضة الحجارة, كانت ثورة يناير نذيرا جديدا بإمكانية أن يفلت الثوار من احتكار تلك القوي لعمليات التغيير الثوري. و تبلور الخطاب السياسي الإعلامي الداخلي و الإقليمي في بث روح التشاؤم والترويع و تشويه ما حدث بما يكفل تحقيق هدفين متكاملين: إحياء أمل النظام القديم في العودة بإرادة الجماهير التي تم ترويعها إلي حد استعدادها لقبول أي بديل يكفل لها أمنا, و يحظي بالمساندة الإقليمية و الدولية. بث اليأس في نفوس الثوار من إمكانية التغيير السلمي و من ثم الدفع بهم لخيار استخدام السلاح في عالم لم يعد فيه مجال لاستثمار تناقضات دولية حادة تكفل ظهيرا للثورة الشعبية المسلحة, و لا يبقي أمام الثوار سوي الاعتماد علي من بيدهم دوليا مفاتيح قرارات الحرب و الاستسلام. و جاءت واقعة اعتصام ميدان العباسية لتجسد ما وصل إليه الجميع: نفور الجماهير من الثورة السلمية يبلغ ذروته, و مجلس الشعب المنتخب قد قيدت حركته و تشوهت صورته, و الشرطة قد توارت, و عصابات المأجورين تحاول فض الاعتصام بطريقتها المعروفة, وأوهام الثورة المسلحة تتصاعد, و تتعانق شعارات تكفير أعضاء المجلس العسكري و الدعوة للحكم بالشريعة مع شعارات الثورة الشعبية المسلحة, و تختلط صور جيفارا بصور الشيخ حازم أبو إسماعيل. وفي خضم ذلك الضجيج بقي بريق أمل وحيد: إن أحدا حتي الآن علي الأقل لم يعلن صراحة تمسكه باستمرار الفترة الانتقالية, بل أجمعت كل الأطراف رغم تباين النوايا و تناقض الأهداف علي الالتزام بتسليم السلطة للرئيس المنتخب في موعد محسوم أقصاه03 يونيو المقبل, و التمسك بذلك الالتزام بشكل صارم هو الحل الوحيد الصحيح. سوف يشوب عملية الانتخاب العديد من الشوائب. و سوف ينتخب الرئيس في ظل تحصين قرارات اللجنة العليا للانتخابات. و سوف يكون الرئيس المنتخب مفتقدا لدستور مكتمل يحدد سلطاته. و لن يحظي الرئيس بتوافق غالبية الأطراف جميعا من إسلاميين و ثوريين و فلول للنظام السابق. و لكن رغم ذلك كله سيكون لدينا رئيس يتيح لنا التخلص من شعار يسقط حكم العسكر, و يتيح لجيشنا الوطني أن يستعيد دوره التاريخي في حماية حدود الوطن, و يتيح لنا أن نختلف و أن نتعارك بل و أن نحتج علي قرارات السيد الرئيس دون أن يوضع علي رقابنا سيف الاتهام بالتطاول علي الرموز المقدسة. و قبل كل ذلك و أهم من كل ذلك سوف يكون انتخاب الرئيس تجسيدا لنجاح شعار ثورتنا سلمية سلمية و هنا مكمن الخطر و التحدي. المزيد من مقالات د. قدري حفني