يدور فى الآونة الحالية الحديث حول دستور 2014 والدفاع عما جاء به من مكتسبات وهى قضية أساسية ومحورية فمن المعروف ان الدساتير ولدت لتبقى لعقود طويلة,لأنها تمثل العقد الاجتماعى بين المجتمع والسلطة. من هنا فالدفاع عن الدستور يعد فرض عين على كل مواطن ومواطنة. وكما ذكر جان جاك روسو فى كتابه العقد الاجتماعى ان الدستور شرعى لأنه قائم على أساس العقد الاجتماعى وهو عادل لأنه يطبق على الجميع ونافع لأنه لا يمكن ان يكون له غرض الا الخير العام ومتين لأنه مضمون بالقوة العامة والسلطة العليا. ولكن وعلى الجانب الاخر فان الدستور عمل بشرى يمكن ان يصيبه ما يصيب البشر من أخطاء يجب العمل على تلافيها دون المساس بالمبادئ الأساسية والقيم الحاكمة له ولذلك فقد أحسن الدستور صنعا حين فتح الباب لإمكانيه التعديل وفقا للمادة 226 والتى سمحت بتعديل مادة او أكثر من مواده مع بيان أسباب التعديل. من هذا المنطلق فأننا نطرح بعض الأمور التى نرى ضرورة الالتفات اليها والنقاش حولها ويأتى على رأسها المادة 224 والتى تشير الى ان الموازنة العامة للدولة تشتمل على كافة الإيرادات والمصروفات دون استثناء, ووفقا لهذه الصياغة فان ما يعرض على البرلمان هو القسم الأول من الموازنة فقط دون الأقسام الأخرى, فالموازنة تنقسم الى ثلاثة اقسام رئيسية القسم الأول منها يعنى بحركة المصروفات والإيرادات المتعلقة بتشغيل دولاب العمل الاقتصادى ويتناول هذا الجزء المصروفات العامة (الأجور وشراء السلع والخدمات والفوائد والدعم والمنح والمزايا الاجتماعية والمصروفات الأخرى والاستثمارات) والإيرادات العامة (وتشمل الضرائب والمنح والإيرادات الأخرى) وهو ما ينجم عنه العجز او الفائض النقدي. والقسم الثانى يتعلق بحيازة وبيع الأصول المالية، وبإضافة محصلة هذه العمليات نحصل على العجز او الفائض الكلى ثم القسم الثالث يتعلق بطرق تمويل العجز فى الموازنة. ووفقا لهذه التقسيمات فإن الموارد ليست كلها إيرادات إذ إن الإيرادات هى التى لا تنشئ التزاما بالسداد، فالضرائب تعد من الإيرادات أما القروض فهى لا تعد من الإيرادات ولكنها تدخل ضمن موارد الموازنة. وبالمثل ليست كل المدفوعات مصروفات فسداد أقساط القروض لا يعد مصروفا لأنه نتيجة لالتزام سابق نشأ حين تسلمت الحكومة القرض، غير ان مدفوعات الدين تعتبر مصروفا. ومن هنا فانه لتقييم الوضع المالى للدولة، عند نقطة زمنية معينة، يجب التزام الحذر بشكل خاص فى تفسير الإيرادات أو المصروفات التى تنشأ من التغييرات فى وضع صافى ثروة الدولة.وهى تفرقة مهمة وضرورية. وبالتالى فانه ووفقا لقانون الموازنة كان من المفترض ان ينص الدستور على ان تعرض الموازنة موارد واستخدامات وليس مصروفات وايرادات كما جاء فى النص السالف الإشارة اليه. ومن الغريب ان الدستور أغفل تماما الحديث عن حالة عدم الاتفاق على مشروع الموازنة والموقف منه،وذلك على العكس مما سارت عليه الدساتير السابقة التى كانت تنص على انه فى حالة عدم اعتماد الموازنة قبل بدء السنة المالية الجديدة يتم العمل بالموازنة القديمة الى حين اعتماد الجديدة وهو نص ضرورى ومهم يجب إعادته الى مواد الدستور مرة اخري. ومن الأمور اللافتة للنظر فى هذه المادة أيضا الحديث عن جواز تعديل القوانين القائمة لتحقيق التوازن بين الإيرادات والمصروفات دون ان يتم تحميل المواطنين أعباء جديدة وهى عبارة مطاطة لاتسمن ولا تغنى من جوع. اذ ان أى اجراء لابد ان يترتب عليه أعباء على شرائح معينة من المجتمع وبالتالى كان من الأفضل البحث عن عدم تحميل الشرائح الدنيا تكلفة هذا الإصلاح وليس المجتمع بأكمله. وثانى القضايا المهمة فى هذا المجال ما ذهبت اليه المادة 27 من الالتزام بحد أقصى فى أجهزة الدولة لكل من يعمل بأجر. اذ ان هذا النص يعانى مشكلتين أساسيتين الأولى انه قصر الحد الأقصى على العاملين بأجر وبالتالى يتحدث عن الموظف العام فقط ولايتحدث عن غير الموظف العام مثل المستشارين من الخارج. وثالث الموضوعات التى تحتاج الى إعادة نظر ما يتعلق بالمواد 18 و19 و21 و23 والتى تتعلق بالإنفاق الحكومى على مجالات الصحة والتعليم والبحث العلمى والتعليم العالي. وهنا توجد عدة أمور أولها يتعلق بالحديث عن الانفاق الحكومى وليس الانفاق العام وبمقتضى هذه المسألة فان الحديث يقتصر فقط على بنود الانفاق داخل الموازنة العامة للدولة ولا يتضمن الجهات الأخرى مثل الهيئات الاقتصادية العاملة فى هذه المجالات وهى كثيرة, ففى مجال الصحة توجد هيئة التأمين الصحى والمؤسسة العلاجية بالقاهرة وكذلك بالإسكندرية والقليوبية وفى مجال التعليم توجد الهيئة القومية لضمان جودة التعليم وفى مجال البحث العلمى توجد هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات وكذلك هيئة تنمية واستخدام الطاقة الجديدة والمتجددة ،المعهد القومى للإدارة وغيرهم من الجهات التى تعد من الانفاق العام وليس الانفاق الحكومى وهو الأساس عند تقييم دور الدولة فى الانفاق على الجوانب الاجتماعية المختلفة.وفى هذا السياق ايضا تناقش الحديث المتكرر فى الدستور عن المستويات العالمية وهى عبارة مطاطة فلايوجد مستوى محدد للإنفاق ينطبق على جميع البلدان اذ ان فكرة تحديد الحجم الأمثل للإنفاق العام الذى يحقق الأهداف التنموية. يتوقف على طبيعة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السائدة. فمشكلات الإنفاق لا تنشأ فقط نتيجة لعدم ملاءمة مستوى الإنفاق وهيكله ولكن أيضا نتيجة للمشاكل الإدارية فى السيطرة على الإنفاق. الأمر الذى يتيح للمجتمع تحديد كيفية إنفاق الموارد المحدودة بأكبر قدر من الكفاءة والفاعلية فى المجالات التى تحتاج إلى التدخل العام. وبالتالى يتمثل التحدى الذى يواجه الإنفاق العام فى ضمان مستوى يتسق مع الاستقرار الاقتصادى الكلى من جهة وطبيعة الأوضاع الاجتماعية السائدة فى الدولة من جهة اخرى، ثم تجرى بعد ذلك هيكلة الإنفاق كجزء من الإجراءات التنفيذية للسياسة المالية، من هنا فإن تركيب وهيكل الإنفاق العام لا مستواه هو المهم من وجهة نظرنا. وهذا لا ينفى بالطبع أهمية العمل على تحقيق فاعلية الإنفاق العام عن طريق ضمان التأكد من أن هذا الإنفاق يذهب فى الغرض المخصص له فقد تتوافر الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم، مجانا وبكميات ونوعيات مناسبة، ولكن لأسباب معينة لا يستطيع الفقراء الوصول إليها إما لأنهم أفقر من أن يتحملوا التكاليف المصاحبة للاستفادة بهذه الخدمات (مثل فقدان الدخل) أو تكاليف الدواء أو المستلزمات المدرسية أو تكاليف الانتقال إلى مكان هذه الخدمة وهى الأمور التى ينبغى أن تتوجه إليها الاهتمامات فى عملية الإصلاح المالي. ومن الأمور الأخرى المرتبطة بهذه المسألة الافراط فى الحديث عن الموازنات المستقلة حيث تكرر النص كثيرا على حصول بعض الجهات مثل الوحدات المحلية والهيئات المستقلة وغيرهما على موازنات مستقلة وهو لفظ عام ليس له دلالة محددة خاصة وان كل جهة من هذه الجهات يعد لها موازنات مالية وفقا للقانون المنظم لها، وهو ما يختلف بدوره عن موازنة البند الواحد التى تنطبق على الهيئات القضائية والقوات المسلحة وفقا للدستور. وختاما وكما قال روسو اعمروا الأرض بالسكان على قدم المساواة وانشروا فى كل مكان حقوق الانسان واحملوا الى سائر ارجاء العالم الرخاء والحياة فبهذا تصبح الدولة من أقوى الدول وأصلحها حكما بقدر المستطاع، وكلما رأيت قصرا يبنى فى العاصمة خيل الى اننى ارى بلدا بأكمله يحشرونه فى بيت متداع حقير. لمزيد من مقالات عبد الفتاح الجبالي