وكيل تعليمية قنا: المتحف المصري تجربة فريدة تجمع بين التاريخ العريق والتكنولوجيا الحديثة    محافظ القاهرة يصدر حركة تنقلات بين رؤساء الأحياء    مدبولي: مهتمون بالتوسع في مشروعات الطاقة المتجددة وإدخالها سريعًا للخدمة    تعرف على طوربيد «بوسيدون» النووي سلاح يوم القيامة الروسي    مظاهرة حاشدة للحريديم في القدس الغربية لهذا السبب    دخول المساعدات الغذائية يخفف وطأة المعاناة في غزة| فيديو    تجاهل ميسي ورونالدو، مودريتش يختار أفضل 5 لاعبين في تاريخ كرة القدم    بعد مفاوضات علي ماهر.. الاتحاد الليبي يعلن مدربه الجديد    كواليس هزيمة برشلونة أمام ريال مدريد.. الصحافة الكتالونية تتحدث    القبض على سيدة بتهمة نشر مقاطع فيديو إباحية فى الإسكندرية    السيطرة على مشاجرة بين أشخاص داخل صيدلية بالشيخ زايد    تشييع جثمان المصور ماجد هلال في بنها    المفتي خلال ندوة تجديد الخطاب الديني ووعي الشباب بجامعة طنطا يؤكد: التعارض بين العلم والدين وهم ناتج عن سوء الفهم والقراءة الخاطئة للنصوص    تفاصيل قرار جديد للرئيس عبدالفتاح السيسي    ضمن مبادرة «صحح مفاهيمك» وبالتعاون مع وزارة الشباب والرياضة.. الأوقاف تطلق (1010) قافلة دعوية بمراكز الشباب على مستوى الجمهورية    الكشف عن موعد عودة نجم الهلال    مستقبل وطن يواصل مؤتمراته الجماهيرية لدعم مرشحيه وحث المواطنين على المشاركة في انتخابات النواب (فيديو)    رسميًا خلال ساعات.. تطبيق التوقيت الشتوي 2025 في مصر وإلغاء الصيفي (رجع ساعتك)    مدمن مخدرات.. القبض علي مسجل اعتدى بالضرب علي شخص وزوجته بالعمرانية    الفنانة نيجار محمد تتهم مدير شركة بالاستيلاء على مبلغ مالى فى الشيخ زايد    تأجيل محاكمة البلوجر أم مكة بتهمة بث فيديوهات خادشة    تقرير أمريكى يكشف ملامح قوة غزة الدولية.. التفاصيل    مصر تستضيف الاجتماع الثاني للجنة رؤساء سلطات المنافسة لمنطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية    «ابن أمه ميتعاشرش».. 4 أبراج رجالهم لا يتخلون عن والدتهم رغم كبرهم    قافلة بين سينمائيات تطلق ورشة الفيلم التسجيلي الإبداعي 2026 لتأهيل جيل جديد من المخرجات    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 30-10-2025 في محافظة الأقصر    وزير الصحة يشهد إطلاق الإصدار الثالث من الأدلة الإرشادية لجراحة المسالك البولية    الطريق للسعادة.. 7 أطعمة هتعدل مزاجك مع تغيير الفصول والتوقيت الشتوي    تأجيل النسخة الثالثة من المؤتمر العالمي للسكان والصحة والتنمية البشرية 48 ساعة    عاجل الأحد المقبل بدء تسليم أراضي "بيت الوطن" للمصريين بالخارج بالقاهرة الجديدة    جيل بعد جيل على كرسى رئيس التحرير    أسعار طن الأرز الأبيض والشعير اليوم الخميس 30 أكتوبر 2025 في محافظة المنيا    أحمد موسى يتقدم ببلاغات للنائب العام ضد صفحات نشرت تصريحات مفبركة باسمه    ميرتس: علينا استغلال الإمكانات الكبيرة لعلاقاتنا مع تركيا بشكل أفضل    شوبير يكشف آخر تطورات حالة إمام عاشور ومشاركته في السوبر المحلي    المشدد من 3 إلى 15 سنة ل4 متهمين بحيازة أسلحة نارية وذخائر بشبرا الخيمة    إقالة مديرة مدرسة في بنها بعد مشادة بين معلمين    مصرع ربة منزل وإصابة 2 بطلقات نارية إثر مشاجرة بقنا    رئيس مجلس إدارة جهاز تنمية التجارة الداخلية الجديد يبدأ مهام عمله    وزير الصحة: أصدرنا حتى الآن أكثر من 115 دليلًا إرشاديًا فى مختلف التخصصات الطبية    «نفسي أشتمنا».. يسري نصرالله ينعى المصورين ماجد هلال وكيرلس صلاح    هالة صدقي تحتفل باقتراب افتتاح المتحف المصري: افرحوا يا مصريين بهذا الإنجاز العالمي (فيديو)    مدحت شلبي: محمد عبد المنعم يرفض العودة إلى الأهلي ويفضل الاستمرار في أوروبا    هل يتنافى تنظيم النسل أو تتعارض الدعوة إليه مع التوكل على الله وضمان الرزق للخلق؟    «بالزي الفرعوني وأعلام مصر» .. مدارس الإسكندرية تحتفل بافتتاح المتحف المصرى الكبير في طابور الصباح (صور)    محافظ سوهاج يوقف معدية غير مرخصة بالبلينا بعد تداول فيديو لطلاب يستخدمونها    الرئاسة تكشف تفاصيل لقاء السيسي ب رئيس مجلس الوزراء الكويتي    أسعار النفط تسجل 64.52 دولار لخام برنت و60.11 دولار للخام الأمريكى    هل يحق للزوج منع زوجته من العمل بعد الزواج؟.. أمين الفتوى يجيب    الزمالك في اختبار مهم أمام البنك الأهلي لاستعادة التوازن في الدوري المصري    طريقة عمل طاجن البطاطس بالدجاج| وصفة شهية تجمع الدفء والنكهة الشرقية    توفيق عكاشة: السادات أفشل كل محاولات إشعال الحرب في السودان    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 30-10-2025 في محافظة قنا    طابور الصباح فى الشرقية يحتفل بافتتاح المتحف المصرى الكبير.. فيديو    وزيرا خارجية اليابان وكوريا الجنوبية يتفقان على تطوير العلاقات    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 30-10-2025 في الشرقية    طريقة استخراج جواز سفر مصري 2025.. التفاصيل كاملة    «فين اللعيبة الجامدة اللي بملايين».. تعليق مثير من مدحت شلبي بعد تعادل الأهلي مع بتروجت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من الاقتصاد السياسى إلى الاقتصاد الخالص
نشر في الأهرام اليومي يوم 07 - 03 - 2016

هناك مادة غريبة الشكل أصبحت موضوع التدريس فى جميع جامعات العالم المعاصر، عُنوانها «علم الاقتصاد» ومجال أبحاثها تلك المظاهر التى يتجّلى من خلالها وجه هام للحياة الاجتماعية الحديثة : الأجور وتطوّرها، معدل نموَ الانتاج، حجم ونسبة الاستثمارات فى بناء قدرات إنتاجية، التصدير والاستيراد، الأسعار والتضخّم...الخ...
فلن يندهش احد من تلك الأهمية التى يعلَقها الجمهور على هذا العلم حيث ان الظواهر المذكورة تتحكم فى الحياة اليومية للجميع. والنتيجة ان الطلب على دراستها العلمية أصبح مرغوبا ومرحبًا به حتى صار الجمهور ينتظر من علماء الاقتصاد ان يقدَموا تفسيرا مقنعا للأوضاع بل وحتى اجابات لتساؤلاتهم عما يجب اتخاذه من اجراءات لاصلاحها اذا لزم الامر ودفع التطور الى الأفضل. فيضفى ذلك لتدريس علم الاقتصاد أهمية ذات أولوية قصوى شأنه شأن التعليم العام والصحة والبحث فى علوم الطبيعة وفى تطوير التكنولوجيات. فيقال بهذا الصدد ان ضمان صلاحية وفعالية حكومة الاقتصاد لا تقل أهمية عن توفير الصحة الطيبة ووسائل المعيشة الحديثة. ويقول الجمهور : الوطن فى حاجة لا غنى عنها لتوفير خبراء الاقتصاد اصحاب الكفاءات، وعلى الحكومة ان تعبئهم لضمان صلاحية ادارة المجتمع.
لن أناقش فى هذا المقال البديهيات، بما فيها من بعض التعبيرات الساذجة. سوف أركَز فى تحليلى على سؤال اخر هو : هل وفّى علم الاقتصاد بوعوده؟
بل واكثر من ذلك : هل يستطيع هذا العلم ان يفى بوعوده على أساس المنهج المتبع فى أبحاثه؟ واذا كانت اجابتى بالنفى ( وهى كذلك ) فما هى الأسباب التى أراها مصدرا لفشله؟
اتحدث هنا عن «علم الاقتصاد» كما هو مطروح فى التعليم الجامعى المعاصر. واقصد ذلك العلم الذى نشأ تدشينه فى بعض الجامعات الامريكية فى عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، ثم غزا أوروبا الحديثة انطلاقا من سبعينيات القرن الماضى حتى اصبح الان ينفرد فى التعليم الجامعى على صعيد عالمي.
كان هناك قبل انتصار «علم الاقتصاد» هذا مادة أخرى يجرى تدريسها، وكان عنوانها « الاقتصاد السياسي».
فكان الفكر الفلسفى السائد فى أوروبا والمصاحب لتكوين الحداثة الرأسمالية الطابع انطلاقا من أواخر القرن الثامن عشر يقوم على التمييز بين مجال علوم الطبيعة ومجال علوم « الانسانية» - التى كان يطلق عليها لهذا السبب بالتحديد اسم « العلوم الاخلاقية والسياسية». علما بان مصطلح « السياسي» فى القرن التاسع عشر كان يحمل معنى أوسع من معناه المعاصر؛ فلم يُختزل مجاله على ظواهر ادارة سلطة الحكم بل كان مرادفا للمصطلح المعاصر «المجتمعي». وبالتالى كان يفهم دراسة ظواهر الحياة الاقتصادية على انها جزء لا يتجزأ عن دراسة أشكال تشغيل الآليات المجتمعية بجملتها. ومن هنا الاسم المختار لعنوانها وهو «علم الاقتصاد السياسي».
اما علم الاقتصاد الحديث المعنى هنا فيدعى انه «لا سياسي»، أى انه «موضوعي»، غير منحاز للنظريات الايديولوجية واستراتيجيات العمل السياسي. ولذلك يضاف الى عنوانه صفة علم الاقتصاد الخالص»، علم طهّر نفسه من تلوَث السياسة!
على سبيل المثال يفتتح «سامويلسون» كتابه المشهور للتدريس والذى يستخدم فى جميع كليات العالم لطلبة السنة الأولى فى علم الاقتصاد، بما مفاده الآتى :
يسعى هذا الكتاب الى رصد الظواهر الاقتصادية، ثم، على أساس تحليلها، استخراج قوانين «موضوعية» (التشديد من عندي) تفرض عملها على المجتمع فرضا بصورة مستقلة عن ارادة الناس!
ما هو المنهج المتبع فى رصد الظواهر المعنية وتحليلها واستخراج تلك القوانين الاقتصاديةالتى تتحكم فى المجتمع؟
ينطلق علم الاقتصاد الخالص من تعريفه للمجتمع واختزاله على مجموع الأفراد الذين يتكون منهم. ثم يضيف تعريفا للفرد المعنى بأنه « انسان اقتصادي» يحكم سلوكه بالاختيار الرشيد لما يخدم مصلحته.
لا يقوم هذان التعريفان على مستوى عالٍ من التجريد فحسب، فهما تعريفان غير واقعيين، بدون جدوى للتوصل الى ما يقرب من معرفة الواقع القائم. اذ يعلم الجميع ان المجتمع جسم مُرَكب وان عناصر تركيبه عديدة ومختلفة. فالانسان لا يرى نفسه فقط بصفته مستهلكا بل ايضا بصفته مواطنا فى دولة معينة، ومنتميا الى طبقة او فئة اجتماعية محددة، ولعله يرى نفسه ايضا بصفته عضوا فى جماعة معينة، دينية او لغوية او فكرية او سياسية. لذلك كثيرا ما يتحدث مستخدما تصريف الفعل بالجمع، فيقول « مصلحتنا» قاصدا مصلحته بصفته مواطنا او عاملا او صاحب أموال...الخ...
كانت علوم المجتمع القديمة ( العلوم الأخلاقية والسياسية بما فيها علم الاقتصاد السياسى ) تعترف بالبديهيات وتسعى الى عمل حساب لها فى محاولة تفسيرها للواقع المرّكب بما فيه أسباب خيارات مختلف الأطراف المكونة للمجتمع المدروس. وبالتالى كانت هذه العلوم تسعى الى ان تكون علمية بالمعنى الصحيح والكامل حيث انها انطلقت من ملاحظة الواقع القائم بالفعل.
أما التعريف الذى يعتمد عليه علم الاقتصاد الخالص فهو تعريف غير علمى من الأصل. أقول انه تعريف ايديولوجى خيالى بحت. ولذلك أقول ان هذا الخيار المنهجى هو مصدر عبث اعمال علماء الاقتصاد الخالص.
فيحمل علم الاقتصاد الخالص مغزيَ ملتبسا : أينوى ان يطرح صورة للواقع القائم الناتج عن تفاعل التصرفات الفردية المعنية بحيث ان تكون هذه الصورة مقاربة للحقيقة؟ ام يسعى الى هدف آخر ألا وهو اقتراح نموذج معيارى لما يجب ان يكون المجتمع المثالي، المكوّن من أفراد دون توسط انتمائهم الى طبقات وجماعات وأمم...الخ...؟
ان محاولة اخفاء المشروعية على نقطة الانطلاق الوهمية هذه تفتح الباب لوابل من الخطب المدهشة. فيضطر فون هايك على سبيل المثال ( وهو المرشد الروحى للاقتصاد بين الليبراليين فى عصرنا ) ان يعترف بوجود أمم وشعوب وطبقات. ولكنه ينظر اليهم ك»بؤر لاعقلانية»!
الكائن البشرى هو بالطبع حيوان عقلانى ويمكن على الأرجح تفسير تصرفاته، حتى أكثرها غرابة. بشرط ان توضح العقلانية المعنية فى اطار يتيح آلياتها. ولكن مذهب علم الاقتصاد الخالص يتجاهل تعدد أوجه العقلانية التى يدعو الى تناول مغزاها فى تفسير تصرفات العاملين فى مجال الساحة الاقتصادية. حتى يخترع لها وجها وحيدا الا وهو تصرف المستهلك فى اختياره بين سلع مختلفة معروضة للبيع. فالانسان «النموذجي» فى هذه النظرة المبتورة هو انسان مستَلب، بمعنى انه يرى فعلا فى آليات ما يبدو له على انها «قوانين الاقتصاد» فعل قوى موضوعية تفرض فعلها عليه فرضا. حتى يقبل هذا البشر ان يظل دون حول، عاجزا عن ان يساهم فى تشغيل المجتمع وبالتالى ان يصبح صانع تلك القوانين التى تتحكم فى مسيرة حياته.
خلاصة القول ان مذهب علم الاقتصاد الخالص يتجاهل تماما آلية الاستلاب السلعى وهى ظاهرة حديثة بزغت مع تكوين الرأسمالية وخلاصة لها.
لا ينكر احد الحقيقة البديهية بأن الأفراد يشكلون العناصر القاعدية لأى مجتمع. ولكن لأى سبب يجب ان نقبل فكرة ان المجتمع الحقيقى هو ناتج التصادم المباشر بين الأفعال الفردية وحدها؟ أليس المجتمع بناء اكثر تعقيدا دون قياس، تتصارع فيه طبقات وأمم ودوّل وشركات ومشاريع مجتمعية سياسية وأيديولوجية؟
سأضرب هنا مثلا هزليا : هل يمكن تصوَّر نوع من الطب يريد اعادة بناء وظائف الجسم البشرى على قاعدة عمل الخلايا وحدها - وهى العناصر الأولية - ويتجاهل وجود أعضاء مثل القلب والكبد والدماغ مثلا؟ لحسن حظنا لم يخترع الأطباء « الطب الخالص» على غرار الاقتصاد الخالص.
ثم يؤول تجاهل الطابع المرَكب للمجتمع الى اعتبار تلك «القوانين» التى يستخرجها علم الاقتصاد الخالص من تحاليله لما يبدو له «الواقع» على انها قوانين ذات طابع أبدي، تحكم مجتمعات الماضى والحاضر، حيث ان مجتمع الماضى كان يتكون هو الآخر من أفراد كما هو الشأن عليه فى الحاضر.
فيتجاهل هذا العلم تنوَع أشكال تنظيم المجتمعات المتتالية عبر التاريخ. ولا يرى فرقا بين نظام المجتمع الأوَلى ( وادارة شئونه الاقتصادية ) القائم على هيمنة القرابة (العائلية والقبلية)، والمجتمع الاقطاعى («الخراجي» فى النظرية التى قدمتها أنا بهذا الصدد) القائم على الحكم المطلق مدعم بتأويل مناسب للعقائد الدينية، والمجتمع الرأسمالى الحديث واقتصاده. لدرجة ان كلمة «الرأسمالية» لا وجود لها فى كتابات علم الاقتصاد الخالص. يقوم الاقتصاد الخالص باسقاط تعسفى لظواهر الحاضر على ماض كان يتجاهلها.
ان اختزال منهج الاقتصاد الخالص على تحليل تصرفات هذا الانسان الاقتصادى المبتور ومحاولة اكتشافه قوانين الاقتصاد الأبدى على أساسها يغوص بِنَا فى هروب الى الأمام لا نهاية له ودون جدوي. فبما ان الانسان كائن ذكى وعاقل، فانه يحدد تصرفاته وفق ما يتصوره من ردود فعل الآخرين. لذلك على الاقتصاد الخالص ان يبنى نموذجه لا على أساس مقتضيات عقلانية فورية ومباشرة ( اشترى اكثر اذا انخفض السعر) ولكن عقلانية توقيتية تتوسط فى حسابها ردود فعل الآخرين (امتنع عن الشراء الفورى اذا كنت أظن ان السعر سيستمر فى الانخفاض).
وهنا وصلنا الى كشف مدى «شعوذة» هذا «العلم»
اذ يستطيع الباحث ان يتخيل ما يشاء فيما يتعلق بالتوَقعات المعنية. علما بأن النتائج المستخلصة بعد اعتبار التوقعات المذكورة وادخالها فى اطار نموذجى هى عينها منوطة بمضمون التوقعات المتخفية. «فالنموذج» قادر على ان يثبت ما تشاء ان تثبته! ويمكن دائما مواجهة نموذج يأتى بنتائج لاترضيك بتخيَل نموذج آخر قائم على توَقعات مختلفة سيؤدى الى نتائج أخرى قد تكون عكسية! العملية شبيهة يما يقدمه « قارئ الطالع» : شعوذة.
على هذا العلم ان يفكّ لغزا محيّرا : كيف يمكن اثبات ان تفاعل تصرفات الأفراد «العقلانية» بالمعنى المذكور من شأنه ان يحقق توازنا عاما أى نظاما واحدا قابلا للتوصيف، بمنظومة أسعاره وتوزيع الدخل ومعدل النمو...الخ...؟
فاذا فشل المنهج المتبع ان يثبت ذلك لكان معناه انه عاجز عن تفسير الواقع. فالأطروحة التى تفسر كل شىء وعكسه لا تفسر شيئا.
لم يطرح علم الاقتصاد السياسى على نفسه هذا التساؤل، ولم يبحث عن حالة استقرار قائم على انجاز توازن عام ثابت، بمعنى تعادل الطلب والعرض على مختلف المستويات. فكان رواد هذا العلم ( آدم سميث وريكاردو) ومن بعدهم «ماركس» ينظرون الى المجتمع على انه فى تحرَك وتحوَّل دائم لا يميل الى حالة استقرار ثابت،. فتنتقل المنظومة من حالة «الف» الى حالة «با» ثم الى حالة « ج»بلا نهاية. فالتساؤل هو حول السمات التى تتصف بها حالة «الف» ثم بيان القوى التى تدفع التطور من حالة «الف» الى حالة «با».
ويشارك المجتمع والكون فى هذه السمة : الحركة الدائمة.
فلا يتساءل عالم الكون أكان حول الكون بجملته ام حول قسم منه مثل الكرة الارضيّة - عن امكان وشروط التوصل الى حالة ثابت وهمي. بل اكتفى بوصف سمات المراحل المتتالية فى الحركة الدائمة للكون المدروس.
لقد اثيرت اشكالية اكتشاف شروط انجاز التوازن الثابت فى مجال الاقتصاد بعد «ماركس». وذلك من اجل اثبات الطابع الدائم للنظام الرأسمالى بصفته منظومة اسواق معمَمّة، واستبعاد أطروحة «ماركس» القائمة على بيان تلك التناقضات التى يستحيل حلها فى اطار النظام، وبالتالى اعتباره نظاما تاريخيا له بداية ولا بد ان يكون له نهاية تتيح حل تناقضاته من خلال اختراع نظام جديد، آخر وأكثر تطورا.
لقد قام «والراس» بأولى المحاولات (فى أواخر القرن التاسع عشر) التى تسعى الى اثبات ان فعل الاسواق المعمَمّة يُنجز توازنا عاما بمعنى تفاعل الطلب والعرض لكل من السلع المنتجة وعوامل الانتاج فى العملية. و... فشل « والراس»، بل اعترف بفشله. اذ توصل الى نتيجة غريبة غير متوقعة منه أصلا. والأدهى ان التوازن لن يتحقق من خلال فعل المنافسة التلقائية فهو مشروط بتواجد سلطة مركزية (شخص اطلق عليه «والراس» اسم «مدير المزاد») يعلن النتيجة الصادرة عن حلّ مسبق لمنظومة المعادلات التى تعبر عن تداخلات المشتروات والمبيعات لكل سلعة على حدة. ثم - وبعد ذلك الاعلان - قيام أطراف الأسواق بالشراء والبيع بالأسعار المعلنة!
ثم أُنسِيَت اعمال «والراس» حتى مجيء «سرافا» فى عشرينات القرن العشرين وعاد الى معالجة نفس الاشكالية بأدواتٍ رياضية متطورة. و...فشل «سرافا». وقد تناولتُ هاتين المحاولتين العظميين وتوضيح أسباب فشلهما فى كتابى المعنون « قانون القيمة المعولمة». فلن ارجع هنا الى تفاصيل مناقشتى بهذا الصدد.
ثم ظهر مذهب الاقتصاد الخالص فاضطر هو الآخر ان يثبت انجاز التوازن العام فى منظومة أسواق معمَمّة، وذلك من خلال فعل المنافسة الحرة فى تلك الأسواق.
لمزيد من مقالات د. سمير أمين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.