شكل الراحل الدكتور بطرس غالى أمين عام الأممالمتحدة الأسبق ظاهرة فريدة ونادرة مزجت بين السياسى والقانونى والحقوقى والمفكر والإنسان وبين المحلى والعالمى فى بوتقة واحدة قدمت لمصر والعالم العديد من الإسهامات والإنجازات فى مجالات مختلفة, وأبرزها رؤيته لإصلاح الأممالمتحدة بشكل عام ومجلس الأمن الدولى بشكل خاص, والتى لو تبنتها الدول الكبرى فى حينها لما وصلت إليه حالة المجلس من تعثر وفشل فى حفظ السلم والأمن الدوليين ومعالجة المشكلات العالمية. وفى ظل تزايد مصادر تهديد السلم الدولى غير التقليدية وعلى رأسها الحروب والصراعات الأهلية والإرهاب الدولي, وأصبح العالم معها أكثر توترا واضطرابا, وكرستها حالة الخلل فى النظام الدولى والاستقطاب وصراع المصالح بين القوى الرئيسية فيه, لذلك فإن هناك حاجة لإعادة تفعيل أفكار ومشروع غالى لتطوير دور مجلس الأمن فى حفظ السلم الدولي. لقد قدم غالى رؤيته بشأن دور مجلس الأمن فيما عرف بأجندته للسلام والتى ارتكزت على أربعة مفاهيم متكاملة وهي: أولا مفهوم الدبلوماسية الوقائية, وتقوم على العمل لمنع نشوب المنازعات بين الأطراف، ومنع تصاعد المنازعات القائمة وتحولها إلى صراعات، ووقف انتشار هذه الصراعات عند وقوعها, وثانيا مفهوم صنع السلام, من خلال التوفيق بين الأطراف المتعادية، عبر جهود الوساطة والمساعى الحميدة والتسوية السلمية للمنازعات, وثالثا مفهوم حفظ السلام, عبر نشر قوات تابعة للأمم المتحدة فى مناطق الصراع بموافقة جميع الأطراف, ورابعا مفهوم بناء السلام بعد انتهاء الصراع, من خلال العمل على تحديد ودعم الهياكل التى من شأنها تعزيز وتدعيم السلم لتجنب العودة إلى حالة النزاع. وأهم ما يميز هذه الرؤية أنها متكاملة ومترابطة لإنهاء الصراع أو الأزمة, فإذا كانت الدبلوماسية الوقائية تستهدف حل المنازعات قبل تحولها إلى صراع مسلح، فان صنع السلام وحفظ السلام ضروريان لوقف الصراع بعد تحقيقه وهما يعززان فرصة بناء السلم بعد انتهاء الصراع, وهذا ما قد يحول دون نشوب العنف بين الدول وداخلها. كما أنها ملائمة لطبيعة الصراعات ومصادر التهديد الحالية خاصة الصراعات والحروب الأهلية داخل الدول على أسس عرقية ودينية وسياسية ومذهبية, فهذه الصراعات ليست كالصراعات التقليدية بين جيشين نظاميين لدولتين يمكن التدخل بالوسائل التقليدية مثل الوساطة أو وقف إطلاق النار بينهما, ولكنها تحتاج لوسائل غير تقليدية, لأنها تدور إما بين جيوش نظامية ومجموعات مسلحة أو بين المجموعات المسلحة وبعضها البعض, وغالبا ما تقع لأسباب ترتبط بالديمقراطية وتوجه الحركات والأفراد إلى التغيير عبر القوة للمسلحة بعد مقاومة النظام الاستبدادى لها, كما هو فى حالة ثورات الربيع العربى خاصة فى سوريا واليمن وليبيا والعراق, أو لأسباب انفصالية, كما هو الحال فى أوكرانيا وجنوب السودان والعديد من الدول الأخري, أو لأسباب عرقية كما حدث فى رواندا بين التوتسى والهوتو أو فى البلقان بين الصرب والكروات والألبان, أو لأسباب دينية ومذهبية كما بين المجموعات السنية كتنظيم داعش والمجموعات الشيعية كحزب الله والمليشيات الإيرانية فى سوريا والعراق, كما أن هذه الصراعات متعددة ومتشابكة الأطراف المحلية والإقليمية والدولية, ومما ساهم فى تعقدها وإطالة أمدها, حيث ان الأطراف الإقليمية والدولية غالبا ما تدعم أحد أطراف الصراع لاعتبارات سياسية وإيديولوجية ومصلحية, بل إن الدول الكبرى فى إطار الحرب الباردة الجديدة, غالبا ما تعتمد على الحرب بالوكالة لمواجهة خصومها, كما يجسده بوضوح الصراع فى سوريا, وقد شكلت الصراعات داخل الدول بيئة مواتيا لنمو وتصاعد خطر الإرهاب الدولي, كتنظيم داعش وجبهة النصرة وتنظيم القاعدة وغيرها, نتيجة لحالة الفراغ الناتجة عن انهيار الدولة ومؤسساتها وتغذية القوى الكبرى لها وفشلها فى مواجهة الإرهاب, وصعوبة وضع تعريف محدد لها أو الاتفاق على تصنيف الجماعات الإرهابية. ولذلك فإن تسوية الصراعات الأهلية ومواجهة الإرهاب تتطلب وسائل غير تقيلدية, جسدتها أجندة الدكتور غالى للسلام, فكثير من الصراعات والأزمات يمكن تجنبها قبل وقوعها إذا ما تحركت الأممالمتحدة والقوى الكبرى لنزع فتيلها, كذلك فإن إدارة الصراع بعد وقوعه تتطلب الحيادية والموضوعية وعدم الانحياز لطرف على حساب الأخر وتنحية المصالح السياسية التى تؤجج الصراع, والأهم أن يكون تدخل الأممالمتحدة, فى إطار مفهوم بناء السلام الذى طرحه بطرس غالي, وهو إعادة الثقة والتلاحم المجتمعى بين أطراف الصراع, واستبدال ثقافة الكراهية والاستئصال ونفى الأخر بثقافة التعايش والتوافق وتكريس الديمقراطية الحقيقية التى ترتكز على مبدأ المواطنة, الذى يساوى بين جميع أبناء الوطن الواحد فى الحقوق والواجبات بغض النظر عن اختلافاتهم العرقية أو الدينية أو اللغوية أو السياسية, وأن التعدد عامل ثراء وليس عامل صدام, وأن تكلفة السلام والتعايش أقل كثيرا جدا من تكلفة الصراع والحرب التى تؤدى لعواقب وخيمة على جميع الأطراف وأن الكل خاسر فيها, وهو الدرس الأساسى الذى يجب ان يستوعبه الجميع من تجارب الصراع والحروب خلال العقدين الماضيين. إن إصلاح مجلس الأمن الدولى لأداء دوره بفاعلية فى حفظ السلم والأمن الدوليين, يجب ألا يقتصر فقط على إصلاح نظامى العضوية والفيتو, وإنما يكون للمجلس دور إيجابى ومبادر فى بناء السلام ونشر ثقافة السلام والتعايش ودعم الديمقراطية وإدارة الخلافات بطريقة سلمية وتفعيل الفصل السابع فيما يتعلق بانتهاكات الديمقراطية وحقوق الإنسان, ودعم عملية التنمية ومواجهة الفقر والتخلف وتحقيق العدالة الدولية ونشر ثقافة التسامح والتعايش بين الحضارات والأديان والثقافات. رحم الله الدكتور بطرس غالى الذى رحل بجسده وبقيت أفكاره وإنجازاته وإسهاماته خالدة. لمزيد من مقالات د . أحمد سيد أحمد