يتصور البعض أن ثمة علاقة طردية بين التنوير والإلحاد، بمعنى أن شخصا ما سوف يصبح أكثر استنارة كلما صار أقل إيمانا، وأقل استنارة كلما كان أكثر إيمانا وما يترتب علي ذلك الإيمان من التزام بتصورات اعتقادية ونظم أخلاقية. يقوم هذا الفهم على مسلمة أساسية وهى أن الوحى الدينى معيق للرؤية العلمية للكون ومن ثم دخل الدين، حسب هذا الفهم، مباراة صفرية مع العلم، فمع كل تقدم للعلم، كان مفترضا أن ينسحب الدين، مع كل انتصار للعلم تعين على الدين الاعتراف بهزيمته.. وهكذا كان لابد وأن يختفى الدين تماما مع التطور الفائق للعلم، ونجاحه فى تأسيس سلطته الواسعة على مفهوم «الحقيقة» وهكذا أخذ البعض يتصور أن رفضه للدين، هو معيار حداثته الثقافية ونضوجه العقلى، أى تقدميته، وهى رؤية خاطئة فى تقدير دور الدين، يتبدى مدى التباسها على مستويات ثلاثة أساسية: على المستوى الأول: ثمة إغفال لدور الدين فى ترقية الرؤية الإنسانية للكون؛ ذلك أن التقليد الدينى، وما اشتمل عليه من رؤى معرفية وخيال ثقافى تجاه الطبيعة، والمجتمع والإنسان، كان أكثر تطورا بكثير عما سبقه من تقاليد أسطورية، خرافية أو سحرية، بالغة السذاجة. فمثلا كان التقليد السحرى يرجع كل ظواهر الطبيعة إلى أعمال سحرية خرافية. كما كان التقليدى الأسطورى يرجع حركة الطبيعة كلية إلى خرافات محض، حيث العراك بين الأبطال والجبابرة هو الذى أنتج الكون، وجعل الطبيعة تأخذ ذلك الشكل. كما أن الدين الأرواحي (الذى رأى فى الطبيعة كائنا حيا)، جعل لكل ظاهرة طبيعية إلها خاصا، يمكن خطابه واسترضاؤه. والمؤكد لدينا أن الوحى التوحيدي، من خلال تصوره لكون مخلوق، وطبيعة مسخرة للإنسان باعتباره خليفة لله، وعن إرادة إله أعلى واحد يتحكم بحركة الكون ضامنا لانتظام سيره، وبحركة الطبيعة ضامنا لثبات واتساق قوانينها الداخلية، كان أكثر تقدما بكثير عن تلك الرؤى الأسطورية والسحرية والأرواحية القديمة، التى قامت على الفوضى والرغبة واللانظام بالكلية، ومن ثم يمكن اعتبار الدين وما صاغه من تقليد معرفى محطة أساسية على طريق العقلنة الحديثة، عندما أزال السحر القديم من قلب ظواهر الطبيعة نفسها، مؤكدا تجانسها الكلى، وانتظامها المطلق، وقوانينها الصارمة، وهى العناصر التى كان ممكنا تطويرها إلى رؤية حديثة وتجريبية. وعلى المستوى الثانى ثمة انحراف بالدور الأساسي للدين، من كونه رؤية شاملة للوجود إلى كونه نسقا معرفيا وظيفته تقديم تحليلات جزئية للعالم الطبيعى. ففى هذا السياق يتبدى الدين كشكل بدائى للعلم، عجز تدريجيا أن يمنح للإنسان صورة موضوعية عن الحقيقة، ومن ثم تعين عليه الانسحاب أمام أشكال العلم الأكثر حداثة، حيث الصرامة المنهجية والروح الشكية هى الأقدر على إعطاء صورة أكثر موضوعية عن الحقيقة، وهنا يصبح مفهوم الألوهية أقرب إلى نظرية فيزيائية بدائية، ومفهوم النبوة مجرد نظرية نفسية متقادمة، ومفهوم الوحى تصور خرافى متهالك أمام النظريات الفلكية الحديثة، وهكذا فما إن يتقدم العلم، ويستنير العقل الإنسانى، حتى تسقط تلك المفاهيم: الله، النبوة، الوحى، لأنها ليست سوى أكثر من شموع بالية انتهت صلاحيتها. والمؤكد أن هذا الفهم غير صحيح بالمرة، فالدين فى جوهره رؤية كلية للوجود، وموقف من الحقيقة ولكن بمعناها الشامل وليس فقط العلمى / التجريبى. وعلى المستوى الثالث ثمة اختزال جغرافى / حضارى للدين فى التجربة المسيحية الأوروبية التى سادت العصر الوسيط، باعتبارها الأكثر تمثيلا لادعاءات الدين فى ترسيم معالم الحقيقة، حيث أنتج الكتاب المقدس بذاته، أو بحسب التأويلات المتوالية له فى عهديه القديم، والجديد، رؤية معرفية للكون تتسم بآفات التحديد الدقيق، والطابع المغلق، ومن ثم كان من الطبيعي أن تصطدم بالنظريات العلمية الحديثة، المنفتحة على الجديد، والقائمة على النزعة النسبية، خصوصا نظريات من قبيل: مركزية الأرض، والتطور، وعمر الكون، والطوفان، الأمر الذى أنتج صراعا حديا بين منطق العلم الجديد، ورؤية الكتاب المقدس، التى تفتقد للإحكام المنهجى ناهيك عن الصدق التاريخى. ويكفى هنا أن نتبين طرفى المعركة غير المتكافئة عندما نضع إنجازات العلم الحديث التى قامت على عناق بين الرياضيات والفيزياء فى صوغ رؤيتنا الحديثة، الأكثر انضباطا، عن الكون، فى مواجهة مقولات العلم الاستنباطى / التقليدى التى قامت على عناق بين منطق أرسطو الصورى، ورؤية الكتاب المقدس العلمية، واللذين شكلا معا النزعة الفلسفية المدرسية/ الإسكولائية، كسلطة معرفية للقرون الوسطى بدأت خصوصا مع توما الأكوينى فى القرن الثالث عشر وبلغت أوجها فى مناهضة الثورة العلمية طوال القرن السادس عشر، ومطالع السابع عشر، كما ظلت بقاياها المتحجرة تنازع اختراقات العلم التجريبى ربما حتى نهاية القرن التاسع عشر. غير أن ما جرى فى السياق المسيحى الأوروبى، لا يمكن أبدا تعميمه على الفضاء الإنسانى كله، فلم يجر ما يشبهه، مثلا، فى نطاق الدين الطبيعى/ الآسيوى، رغم ما قدمته الديانات الهندية، خصوصا الفيدية والبرهمية، مثلا، من تصورات للزمان تعتمد مفهوم الدورة الكونية ذات العمر المحدد. وذلك لأن عمر تلك الدورات كان طويلا، يعد بملايين السنين على نحو جعلها أقل صداما مع الرؤية العلمية. كما لم تكن لديها بنية كهنوتية وسلطة بطريركية ترعى رؤيتها وتسعى إلى فرضها كحقائق خالدة وأبدية، على منوال الكنيسة الكاثوليكية. ولعل المثال الأكثر دلالة، يأتى من داخل الإسلام، الذى خلا تقريبا من الإدعاءات العلمية الصارمة حول الطبيعة والكون والإنسان، وإن كان النص القرآنى المؤسس قد أشار دوما إلى آيات كونية، اعتُبرت محض تخيلات عامة، وتدليلات كلية على الحقيقة الإلهية، ولكن من دون تحديد تاريخى دقيق يقيدها، ولا صياغة منهجية صارمة تضفى عليها إنغلاقا ذاتيا، وتضعها فى دائرة الصراع مع أى حقيقة علمية يمكن اكتشافها عبر حركة التاريخ وتقدم العقل / العلم الإنسانى. صحيح أن مسيرة العلم العربى قد توقفت عن التطور منذ القرن الثانى عشر الميلادى على أكثر تقدير، ولكن ذلك الجمود يجد تفسيراته فى أسباب تاريخية وحضارية، وليست اعتقادية أو كهنوتية. [email protected] لمزيد من مقالات صلاح سالم