يتوجه كثير من الشباب إلى لجان الفتوى للسؤال حول قضايا دينية شائكة ذات صلة بالوجود والقرآن والنبوة والبعث والحساب،ويأتيهم الرد بقوالب جامدة وفكر تقليدي وردود غير مقنعة للشباب مما يؤدي إلى مزيد من انتشار الإلحاد بينهم، فهل نحن بحاجة إلى تأهيل المفتين والعاملين في لجان الفتوى حتى يكونوا قادرين على الإجابة على تساؤلات الشباب والقضايا الجدلية؟ وهل يمكن مواجهة التحديات الفكرية الراهنة بنفس العقلية التقليدية التي كان يتم التعامل من خلالها في السابق، رغم تغير وتفاقم المشكلات في عصر الانفتاح المعرفي؟! ولماذا يفتقد كثير من العلماء والدعاة إلى لغة التواصل مع الشباب وإدراك ما يدور في عقولهم وطرق تفكيرهم وما يناسبهم من موضوعات، ويعمدون في مواعظهم وفتاواهم إلى الاستطراد والجمود والأسلوب الممل، وعدم إدراك ما يدور على الأرض وما يحفل به الواقع. وهل يملك خطباء الجمعة والوعاظ والقائمون على لجان الفتوى رؤية دينية مستنيرة للإجابة على تساؤلات الشباب حتى ان كانوا ملحدين؟ أم أننا بحاجة إلى إعداد وتأهيل الخطباء والأئمة والوعاظ تأهيلا حقيقيا لمواجهة مستجدات العصر بطرق غير تقليدية وفكر جديد يلقى قبولا في أوساط الشباب؟ يقول الدكتور صابر مشالي عميد كلية دار العلوم وأستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الفيوم، إن إشكالية الإلحاد لا تختلف كثيرا عن الأصولية المتشددة بتوحشها في اللحظة الراهنة، فالملحد لا يختلف عن الأصولي المتشدد من حيث الضرر الذي يمكن أن يصيب المجتمع، فلا يتولد إلحاده أو تشدده من فاعلية خطاب ديني فقط، وإنما من هيمنة خطاب وغياب أثر أو عدم وجود خطابات أخرى. وحل إشكالية الإلحاد قديما أو حديثا لا يمكن أن تأتي من خلال مقاربة وحيدة من الاتكاء على تجديد الخطاب الديني، وإنما من خلال مقاربات عديدة، ومن علوم أخرى، أهمها ما هو اجتماعي، بالإضافة إلى تشكيل أو صناعة هدف قومي، فالأنساق الاجتماعية لها فاعلية في تشكيل النموذج الإلحادي، فحين يكون الوصول لأي شيء سهلا ومتاحا تتولد التربة المناسبة للإلحاد، وبالمقابل حين تغيب فرصة التميز والرقي والمساواة مع الآخر تتولد فكرة الأصولية والمشدد. فعلاج هذه الظاهرة لا يتم بسيادة نسق الخطاب الديني بمفرده، وإنما بوجود ومشاركة كل الخطابات والقيام بدورها المناسب بجوار الخطاب الديني، وفي مركز فقه الواقع وتجديد الخطاب الديني ليس همنا دينيا فقط، فلا بد من حمل رؤية أكثر شمولية بعد أن أصبح وجودها حتميا في إطار اللحظة الراهنة، نحن نعمل على تشكيل إطار معرفي، منها الإطار الديني، والإطار الاجتماعي والإطار العلمي في تجاور وتضافر له تميزه ووجوده اللافت. الطريق الممهد للمعرفة أما عن الأسئلة المطروحة من الشباب وخاصة إذا كانت ذات طابع فكري، مثل أسئلة الوجود والبعث أو الحساب؟ فيقول الدكتور صابر مشالى، ان مؤسسات الدولة يجب أن يكون لها دور تنويري، ومن هنا كانت مبادرة كلية دار العلوم بالفيوم بانشاء مركز علمي تحت مسمى (مركز فقه الواقع وتجديد الخطاب الديني)، وليس بالضرورة أن يكون همنا مرتبطا بالخطاب الديني فقط، وإنما اهتمامنا يتعلق بطريقة أو منهجية المقاربة لمثل هذه الموضوعات ولدي قناعة بأن الإجابات السهلة البسيطة هي الطريق الممهد إلى تسطيح المعرفة التي يجب أن يقدمها المركز، نحن في مركز (فقه الواقع وتجديد الخطاب الديني) لسنا مهمومين بهذه الإجابات السهلة أو البسيطة، وإنما عملنا يجب أن يكون ماثلا في محاولة إعادة الوعي وبناء الإطار المعرفي للفرد، نحاول أن نعيد تشكيل الفرد وفق توجه جديد يبتعد به عن اليقينيات البسيطة والانتماءات البسيطة، وهذا لن يتم إلا بالاستناد إلى معرفة مغايرة. فهذا التوجه يتشكل بالتعاون والاتكاء على مساحة واسعة من الرؤية والحركة، ولا نريد أن نصادر على المركز وفاعليته من البداية، دعنا نعمل ونجتهد ونترك المركز يتشكل وفق سياق نوعي مغاير للمعهود والمقرر والمنتظر، وفي إطار إنشاء هذا المركز وفاعلية دوره، يمكن استعادة الدور الغائب للمؤسسات الدينية. القوافل الدعوية والتأثير السلبي ويشير د. مشالي إلى دور القوافل الدعوية في إعادة صياغة الجمعيات الشبابية، مؤكدا أن هذه المؤسسات يجب أن تعمل بجد على التغيير من نفسها بشكل سريع حتى تكون متسقة مع اللحظة الراهنة، وتوغل بعض الخطابات في الاتكاء على غياب تأثير خطابات أخرى كان له تأثير سلبي. ونحن في اللحظة الراهنة بحاجة ماسة إلى محمد عبده أو الأفغاني أو على عبدالرازق، فهؤلاء الأعلام الذين كانوا يعلون من دور العقل وفاعليته مع الاتكاء على تراث ضخم، فلا يؤثر تجذرهم في التراث على رؤية وإبصار اللحظة الراهنة ومعاينة تشكلاتها الجديدة، وهذا يجعلهم قادرين على التجدد. أما الجمعيات الشبابية فيجب أن نشير إلى أن هناك نوعا من الفوضى في هذه الجمعيات، ومعظم هؤلاء الشباب غير مؤهلين للقيام بالدور المنوط بهم، فنحن بحاجة ماسة إلى إعادة تشكيل هؤلاء الشباب ومحاولة توليد إطار فكري فلسفي يتم بناؤه بالتدريج من القاعدة العريضة بعيدا عن الخطابات المتكلسة التقليدية، وأظن أن رسالة المركز الأساسية تقوم على أداء هذا الدور بالرغم من صعوبة المهمة في هذه الجزئية بالذات، فنحن نواجه خطابا يملك يقينا، واليقين حين يتشكل ويستوطن يغيب العقل ويؤثر على عمله بشكل حرّ. فقدان الاحترام والثقة من جانبه يقول الدكتور عبد الفتاح محمود إدريس أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة جامعة الأزهر، انه بعد هذه الهجمة الشرسة على الإسلام من الداخل والخارج، لابد أن يحدث نوع من التصدع في معتقد الناس، ويتساءل الكثيرون منهم عن مدى صحة مسلكه، أهو على صواب أم خطأ فيما يعتقد، وكثير من الناس ورثه والداه وأسرته وبيئته ومجتمعه مفردات هذا المعتقد، وهو ما أشربه منذ نعومة أظفاره، وهؤلاء بعد أن كثرت وسائل الإعلام، وتنوعت توجهاتها واختلطت واختلفت أهدافها، فإن الكثيرين معذورون في هذا التشكك الذي استحوذ عليهم متعلقا بما آمنوا به، خاصة وأن الذين يخوضون خوضا شديدا في أمور الإسلام، ينسبون أنفسهم إلى العالمين به، حتى خرج علينا أحد المعاتيه ليدعي بأنه أفقه من علماء السلف، مع أنه رشف من علمهم وتكسب به، وصال وجال بلسانه في عرضهم، ليحصل في نهاية هذا الخوض على عطايا الفضائيات التي استقطبته، بل إن بعض المنتسبين إلى ما يعرف بالمؤسسة الدينية ممن لا علم ولا فقه، لديهم جرأة فائقة في التصدي للفتوى، مع أن ما يفتون فيه قضايا شائكة، لو حدثت في زمان عمر لجمع لها أهل بدر، وهذا أمر مفجع، والذي لا يعلمه الكثيرون، أنه ما من أحد يلجأ لهؤلاء ليسألهم عن مسألة، إلا وسأل عشرات غيرهم، ليكون الجواب غير ما سمع، فيفقد احترام وثقة من أفتوه أولا، وتسقط هيبتهم من نفوس الناس، وهذا يدق ناقوس الخطر على طريقة اختيار المتصدين لأمر الدعوة، وأنه يجب مراعاة أهل الكفاءة للقيام بمهمة تبصير الناس بحقيقة ما يعتقدون، وغني عن الذكر أن اختيار أهل الثقة وإقصاء أهل الكفاءة في هذا الجانب، هو الذي أوصل قطاعا كبيرا من الناس خاصة الشباب إلى مرحلة التشكك فيما آمنوا به، لأنهم صاروا موزعي النفوس بين موروثهم العقدي الذي استقر في وجدانهم، وبين ما يسمعونه ممن يطلقون على أنفسهم التنويريين، وبين الجهال المتشنجين، الذي لا يعرفون عن الإسلام إلا قشوره، والذين وصلوا إلى أرفع المراكز في مجال الدعوة بالرشوة تارة وبالوساطة والمحسوبية أخرى، ومما لا شك فيه أن استمرار الوضع على الحال الذي هو عليه الآن لا يبشر بخير. دعاة غير تقليديين وأضاف: إن المجتمع في حاجة إلى اختيار دعاة غير تقليديين، تبحروا في علوم الشريعة، وصار لهم منهج غير نمطي، يقوم على إقناع طوائف المجتمع، بثقافاتهم ومستوياتهم الفكرية والإدراكية، بحيث يكون لهؤلاء الدعاة حرية اختيار الخطاب وفق مقتضى حال المخاطبين به، وثقافتهم، وخبرتهم، واهتماماتهم، ومشكلات حياتهم، وهذا النهج اتبعه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد بلغ من حرصه صلى الله عليه وسلم على تنويع الخطاب، أنه كان يخاطب بعض القبائل بلهجتها، حتى حفظت كتب السنة حديثه بلغة أهل حِمْيَر باليمن: (ليس من امبر إمصيام في إمسفر). تيارات تمس العقيدة ويطرح الدكتور أسامة فخري من علماء الأزهر، عددا من الحلول من أبرزها الحل الاهتمام بالمنهج العلمي الذي يناقش ما يطرح من أفكار هؤلاء الشباب بدراسات جادة ومتخصصة، خاصة علوم الأرض والفيزياء والفلك والجيولوجيا وغيرها، وكذلك الاهتمام بجوانب الإعجاز العلمي في القرآن والسنة وعمل مرصد عام يمكّن من جمع كل ما يطرح من أفكارهم وما يعتمدون عليه في البرهنة على ما يدينون به عبر تاريخهم، مع مراعاة ما استحدثوه، وكذلك قراءة ما يمكن أن يستحدثوه مستقبلا ليكون هناك موقف المبادرة لما سيطرح من خلال حسن قراءة ما يفكر فيه هؤلاء .. فالأمر ليس رد فعل وفقط وإنما لا بد من المبادرة وتجديد الفكر الإسلامي من حيث أسلوب مناهجه بما يتناسب مع العصر، وبما يمكّن المسلم بالثبات على دينه وقيمه وسائر أحواله، ويحصنه ضد الفكر الإلحادي، مع جمع الأدلة من مظانها في كتب السادة العلماء الأعلام ممن كتبوا في الرد على شبهات الملحدين ومثلهم قديما وحديثا، وجمعها في كتاب واحد؛ ليسهل على المسلم الوقوف على شبهاتهم وكيفية الرد عليهم، وفهم حقيقة ما يدعون إليه، ومن ثم ينتج عن ذلك العمل بالإضافة إلى تقوية المناعة وحصانة النشء، كما نحتاج إلى عمل مشروع كبير من شأنه أن يحصّن الأجيال ويعمل على وقايتهم من الوقوع في مثل هذه الأفكار أو مجرد التفكير فيها، بل نهيأهم لأن يحسنوا الرد عليها، فلا بد من حسن الإعداد لكل ما يمكن أن يَرُدَّ شبهات الملحدين بتجهيزهم لما يفد من أفكار الملحدين، فيكون لديهم الحصانة ضدها وكذلك القدرة على مواجهتها، فنُعلِّمهم من أساسيات الدين ما يُمكِّنهم من الدفاع والردِّ بالحجة والإقناع حتى لا يقعوا فريسة سَهْلة في أيدي هؤلاء.