ثمة لحظة فارقة تمر بها الأمة المصرية الآن، تتجلى عبر مشاهد متقاطعة تشكل هذا الفضاء العام بتنويعاته وتعقيداته معا، ومن متن الهرب من مواجهة اللحظة الراهنة على نحو علمى وبطرق منهجية تعيد الاعتبار لقيم العدل والكفاءة والنزاهة والشفافية، وتكرس لقيمة العمل باعتباره الأداة المركزية لمجابهة واقع مسكون بالخيبات والإخفاقات، تلوح أفكار فنتازية تختزل مشكلاتنا الحياتية والمجتمعية وأزماتنا السياسية والثقافية ومآسى ناسنا فى التهميش والإقصاء والظلم الاجتماعى وتغييب معنى العدل وتسييد القبح، وغيرها، فى غياب الأخلاق. وفى الأيام الماضية تواترت الأخبار والتصريحات عن حملة للأخلاق يرصد لها الأموال، وتنهض بها مؤسسات أهلية مختلفة تحت مظلة وزارة الشباب فى الحكومة الحالية، وبعيدا عن الخيال القديم الذى صاحب الحملة وتأسيسها، فإن المشكلة الأساسية تكمن فى هذا الاستدعاء القسرى لمفهوم الأخلاق، وكأنها سلعة اكتشفنا أهميتها فجأة فقررنا شراءها من أقرب سوبر ماركت يديره ساسة، ورجال دين، وإعلاميون، وغيرهم، فيحل التصور المثالى عن العالم محل الآخر الواقعي، ويصبح الخطاب اللغوي/الإنشائى أداة للتغيير بدلا من الفعل السياسى /الثقافي، لندخل - ومن ثم - فى حلقة مفرغة من الرطان الذى لا ينتهي، وتصبح ماكينة إنتاج الكلام المجانى أكثر قيمة من مساءلة واقع معبأ بالمشكلات ، وكأننا أصبحنا لنجد أنفسنا أمام مشكلة وجودية مع فكرة الأخلاق!، وبما يستلزم حملة تعد لها الأموال بوصفنا أمام المشكلة الأبرز الآن! وبما يذكرنى بتلك الحماسة الغضة للفلاسفة الأخلاقيين ، تلك التى قابلها البعض بمزيد من المراجعة والانتقاد، على غرار ما صنع الفيلسوف البريطانى الشهير هربرت سبنسر يوما ما، حين رأى أننا كثيرا ما نجد علماء عارفين لكنهم فاسدون أخلاقيا، وقد نجد جهالا أخلاقيين، فالأخلاق ليست علما من وجهة نظره، وبعيدا عن كل تلك المماحكات النظرية، فإنه من الواجب القول بأنه لا خلاف على أهمية الأخلاق فى حياة البشر، ولا على الاعتداد بفكرة القيمة فى عالم عبثى ومتوحش، حيث تمثل الأخلاق بمعناها الإنسانى النبيل رهانا على المعنى الذى اهتز، والقيمة التى أهدرت، غير أنه ومن الحتمى أيضا التفكير الجدى فى تحسين اشتراطات الحياة للناس، والاهتمام الفعلى بقضايا الفقر والتنمية والبطالة والتعليم والصحة وغيرها، حيث إن استعادة الأخلاق معنى ومبنى يكون باستعادة إنسانية الإنسان ذاته، والتكريس لقيم الحرية والكرامة والعدل الاجتماعي، أما الخطابات الإنشائية التى تزيف وعى الجماهير وتؤسس لأنماط مصطنعة فلن تفضى إلى شيء سوى المزيد من الزيف الاجتماعي، والتناقض الفادح فى بنية المجتمع وأنساقه المختلفة. تبدو الحاجة إلى المبادرات المبتكرة غاية وضرورة ، شريطة أن تتسم بالجدة والجدوى فى آن، غير أن اتخاذ الحملة صيغة ماضوية تتمثل فى المزيد من الشيوخ والدعاة، وبعضهم ابن بار لتيار الإسلام السياسى الرجعى والمتشدد أمر يدعو للحذر والتساؤل، وبعيدا عن غايات الحملة وأهدافها وتصوراتها الكلاسيكية عن العالم فإن اختياراتها أيضا تكمل الصورة الكلية لسياق مرتبك بحق، قديم وفقير الخيال، مبنى على استحضار "الشو" أكثر من المعنى، فقد جاء اختيار أحد رموز الحملة ممن عرف بمغازلة الإخوان والانتماء إليهم تعبيرا فجا عن غياب الرشد السياسى لدى بعض أصحاب الفكرة، خاصة أن سمة التلون قد صاحبت الداعية اللندنى طوال تاريخه الحافل بالمزيد من التحولات الدراماتيكية التى تشير إلى أزمنة رواج الخفة، والميتافيزيقا والتدين القشري، والنمط الاستهلاكى فى رؤية العالم والأشياء. وهذا كله يظل موضع تساؤل دال لا يحتاج عندى لجواب قدر ما يحتاج إلى حتمية مراجعة هذا الواقع المأزوم بحق، الذى يفرز أفكارا خارج اللحظة والزمن والتاريخ، وبدلا من تجديد أدوات العقل العام، والسعى نحو خلق مناخ داعم لحرية البحث العلمي، والتفكير، والحريات الأكاديمية، وحرية الإبداع والرأى والتعبير، ومجمل الحريات والقضايا الأساسية القادرة على تحرير الوعى المصرى من الأغلال والقيود والتصور الماضوى عن العالم، بدلا من هذا كله يتحول الاهتمام العام إلى أفكار جزئية ومبتسرة لا تغير واقعا ولا تخلق عالما جديدا. لو أردنا حقا تجديد معنى الأخلاق واستعادة قيمها النبيلة فهذا لن يكون أبدا بغير مزيد من التكريس لقيم التقدم، والعلم، والمواطنة، فالغايات الكبرى للأمم تتحقق عبر استعادة جدارة البشر ذواتهم، وحقهم فى عالم أكثر رقيا وجمالا وعدلا وإنسانية. وبعد.. لا تتقدم الأمم حين تصر على أن تسير وعينها على الماضي، تستحضره بوصفه ملجأها، وملاذها، وهى حين تفعل ذلك لا تعادى راهنها فحسب، ولكنها تصادر المستقبل أيضا، حيث تتجه ساعتها وبمحض إرادتها إلى العدم والفناء، وهذا ما نرفضه ونأباه، أما ما نأمله ونتمناه حقا، فهو أن ننظر إلى مدى أبعد، فنعيد صوغ حاضرنا بما يليق بنا وبجماهير شعبنا، ونؤسس لمستقبل مسكون بالحرية والكرامة والعدل، ومن ثم فعلى الدولة المصرية بمؤسساتها المخلتفة أن تتبنى خطابا جديدا بحق، يبلور أمانى الناس فى غد أفضل، ويتبنى أشياء حقيقية تتماس مع راهن المصريين، وحيواتهم المختلفة، تنير وعيهم، وتبصرهم بواقعهم، فنرى تكريسا لمناخ جديد يحتفى بقيم المواطنة، ودولة القانون، والعدالة الاجتماعية، والتنوير الحقيقي، والعلم، والتقدم، والإبداع. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله