إنه «محمد رجب النجار» يا عالم (19412005)، الفلاح المصري، صاحب الرؤية المتسعة المؤسسة التي جمعت عناصر الفولكلور ضمن نسق علمي، وربطه كمادة تراثية بالعلوم والنظريات الحديثة، وفضَّ مغاليق سكت عنها علم الفولكلور طويلا، ولم يكن مجرد راصد على أهمية دراسات الرصد لكنه غاص في أعماق الفولكلور، بتكويناته، ومورفولوجية محتواه، ليستخرج لآلئه المبهرة. ومنذ بداياته تمتع بشخصية علمية وإنسانية كبيرة، وعقل موسوعى يدرك قيمة أهدافه، فدراساته المستفيضة والمعمقة فى السرد الشعبى العربي، والشعر الشعبي، تسلحت بحرص المدقق الذى لم يفقد فضيلة الدهشة أبدا، ورجع فى دراساته جميعها إلى ينابيع مصدرية مهمة، لم تكن عودة ماضوية، ولا رغبة فى إشباع خرافة الأبوة، بل لتجذير عناصر المأثور الشعبى الحي، والتنقيب عن تجلياته فى بطون الكتب، والرواسب الثقافية التى تشع من عناصر الفولكلور إلى الآن، فشكَّلت محاولاته مشروعا علميا ثريا استنطق تنويعات التراث جمعا وتصنيفا وتحليلا، ولا أغالى إذا قلت إن الدكتور «محمد رجب النجار» هو من رصف هذا الطريق، فبات عُمدته فى الوطن العربى. وأى تأمل دقيق لمشروع هذا العالم الجليل يكتشف دراسات موسوعية مستفيضة ومؤسسة، ومصنَفَة إلى دراسات خاصة بعنصر محدد أو بنوع أدبى خاص، وفيها يتخذ موقفا تحليليا، يربط بنية النصوص الاجتماعية والتاريخية بتكونها الدلالي، ومشروعه بحاجة إلى دراسة مستفيضة تؤكد هذه المعاني، وسنرصد هنا بعض دراساته ربما منحتنا دلالاتها. فمن دراساته التى تقدم تأسيسا جامعاً فى التراث القصصى المعنونة ب « دعوة لدراسة تراثنا القصصى فى ضوء مناهج الفولكلور»، وأيضا دراسته «الأدب الملحمى فى التراث العربى مدخل بنيوى لدراسة السير الشعبية الأساطير العربية»، وكذلك «حكايات الحيوان فى التراث العربي»، و « فن الأحاجى والألغاز فى التراث العربي»، و«ملاحظات حول أدب الملاحم العربية وقضايا البطل الملحمي»، و«حكايات الشطار والعيارين فى التراث العربي»، وأيضا «المرأة فى الملاحم الشعبية العربية»، و«البطل الأوليائى فى القصص الصوفي»، و«شخصية السندباد فى التراث الشعبى العربي»، و«موت البطل فى السير والملاحم الشعبية»، هكذا يتحرك مشروعه بداية من قاعدة صلبة تتأسس عليها ومنها فروع العلم وما يستتبعه من دراسات نوعية، وفى إطار دراسات فنون السرد تأخذ دراسات السير والقصص؛ كل واحدة لها مكانتها على حدة فى قلب مشروعه العلمي، مثل: « قراءة فى سيرة حمزة العرب» أو «ملحمة الصراع بين العرب والفرس فى التراث الشعبى العربي»، و« سيرة فيروز شاه أو الرواية العربية للشهنامة الفارسية»، و« قصص الحب فى الليالي» البنى والوظائف، و« الأصول الأسطورية لسيرة سيف بن ذى يزن»، و«أبو زيد الهلالي» دراسة نقدية فى الإبداع الشعبى العربي»، و«جحا العربي»، وتتوالى الحلقات حتى تصل إلى نوع إبداعى من هذه الفنون، يندرج تحت جنس الأدب الشعبى ليدرس: «الغطاوي»، و «الألغاز»، و«المعاظلات اللسانية»، و«الأمثال»، وهذه العلاقة الواضحة بين دراساته، والتشابكات بينها المبنية بإحكام تكشف ذهنيته العلمية التى أكدت لنا عبر دراساته أن المأثور الشعبى لم ينشأ من فراغ، وإنما يقبع خلفه تراث لابد من العودة إليه، وتؤكد أيضا على معنى آخر هو « إن الانشغال بمعرفة التراث يعنى الاستعانة بالنظريات والمناهج الجديدة»، و الدكتور «النجار» فى هذا الإطار قدم للباحثين وعشاق التراث والمأثور الشعبى تجربة مفادها أن العمل الميدانى لا بد أن يستند إلى عمل مكتبى فى كتب التراث التى تزخر بعناصر ومواد فولكلورية ذات علاقة بما نجمعه ميدانيا، ولعل أهم كتبه فى هذا السياق هو « التراث القصصى فى الأدب العربي: مقاربة سوسيو سردية»، ومن يقرأ مادة هذا الكتاب الغزيرة، سيجد أفكارا تتسم بالرحابة، وسيجد بناء كبيراً يضم عددا هائلا من تجليات السردية العربية، يؤسس ويمهد بموسوعية طريقا جديدا للباحثين والقراء ليتعرفوا على تراث أمتهم القصصي، ويراكم معرفتهم به، حيث ظل ذلك التراث القصصى متناثراً فى بطون الكتب ولم تجد من يجمعها قبل الدكتور «النجار»، ولم يكن غريبا أن يقع المجلد الأول وحده فى 942 صفحة. ويكشف لنا أيضا تناص أعمال بعض كبار الكتاب مع عناصر التراث، كما أظهر ذلك فى كتابه «توفيق الحكيم والأدب الشعبى أنماط من التناص الفولكلوري»، وهو علامة فارقة فى دراسات استلهام وتوظيف المأثور والتراث الشعبى فى الإبداع، ولنقل إنه واحد من « الكتب القليلة والنادرة التى تصدر عن أحد المفكرين أو المبدعين»، ويرى د. النجار أن الكتاب محاولة لإعادة اكتشاف «توفيق الحكيم» من وجهة نظر باحث فولكلوري. لهذا كله، وغيره، وبضمير مطمئن، أعتبر الدكتور «محمد رجب النجار» أحد أهم وكبار الغوَّاصين فى «الذات الشعبية الجمعية» وهو « بشهادة كل المهتمين بالتراث الشعبى العربي» سيد هذا المجال، بما قدمه من خدمات جليلة للتراث العربي، ومنها «دراساته عن الفولكلور الكويتي»، ومنها على سبيل المثال «أول معجم عربى عن الألغاز الشعبية الكويتية»، ثم دراسة فلكلورية أنثربولوجية عنها، ثم جمعه مادة غزيرة عن «الغطاوى الكويتية»، بجانب كتاباته المتنوعة عن جوانب أخرى من التراث الكويتي، حيث جمع بعد وصوله للكويت (500 ساعة تسجيلات لكبار السن فى الكويت) عن «القصص الشعبي»، وقام بتصنيفها وتبويبها ضمن دراسة فولكلورية. ولأن مشروع الدكتور النجار بحاجة لدراسات مستفيضة فى مجالاته وطروحاته المثيرة، نشير هنا إلى عدة مجالات منها : «دراسات فولكلورية عامة»، و«دراسات فى الفولكلور الكويتي»، و«أصول الجمع الميداني»، و«تحقيق النصوص الشعبية»، و« دراسات فى التناص مع عناصر الفولكلور»، و«الدراما الشعبية»، و«الحرف والصناعات الشعبية»، و«القيم والعادات والمعارف والمعتقدات الشعبية»، و«التصنيف والببليوجرافيا». وهذه التصنيفات توجه عقولنا لفيض علمه الذى فتح طرقاً ظلت مستغلقة لقرون، وأنار سبلا لم يطرقها أحد من قبل، فقدم عددا من الفتوحات البحثية التى لا يقترب منها إلا فنان استقوى بالعلم، وحافظ على دهشته، ليجاوز الأفكار المنمذجة، وها هى الأيام الآن توقفنا أمام منجزه العميق، الذى سيظل ممهوراً ببصمته إلى أمد غير منظور، بحفظه لإرث جماعتنا الشعبية و هويتها التى تعرضت كثيرا للإهمال والتبوير، ونصاعة جهوده هذه تجعلنا نستعيد صورته البهية، وفتوحاته العلمية بفخر، تقديرا لعالِم أقل ما يوصف به هو «الجليل». مهما كتبنا عنه !! أميل بوضوح إلى أن الدكتور «محمد رجب النجار» كان أخلص الباحثين فى التراث والثقافة الشعبية، وأكثرهم دأبا، وأمعنهم نظرا، وأقدرهم على اكتشاف جواهره، وتقييمها بأدق تقدير. وفى حديثى مع ابنه المهندس «علاء النجار» كشف لى عن قناعة والده العميق بأن «الثقافة الشعبية هى مفتاح الشعوب»، وهو ما أثبته عملياً فى كتبه، فمن يقرأ أعماله المدهشة يدرك أن هذا الراحل الكبير كان يمتلك حِساً علميا مُرهفاً، ووجدانيا رائعاً، تجاه ثمار «الجماعة الشعبية»، ويدرك أهميتها فى تفسير وفهم وعى الشعوب بحركة التاريخ، وسِيَر حكامهم، وتقلبات الأوضاع السياسة، ورصد تجلياتها الاجتماعية والروحية، بروح إيجابية، وعين مُحبَّة، وهو ما جنَّبه التسليم بالمقولات السائدة، مثل المصطلح الشهير «عصور الانحطاط» الذى يعطى انطباعا سلبياً بخلو العصر المملوكي، مثلا، من أى وجود شعبي، لكنه برؤيته الثاقبة أثبت فى كتابه «الشعر الساخر فى العصر المملوكي»، أن الشعب المصرى كان دائما «صاحب موقف إيجابي»، لا يقبل الدنية، فإذا اشتدت عليه يد البطش، استخدم سلاحه الأمضى، وهو «السخرية»، وهو كفيل دائما بردع الظالمين، وهدم هيبتهم، وهذا من أهم مفاتيح الشخصية المصرية. وكذلك امتلك الدكتور «النجار» ذهنية باهرة تجاه المسلمات، فلم يكن يقبلها ببساطة، بل يتمعنها، ويقلبها على كافة الأوجه حتى يصل لرأى مطمئن، كما فعل مع مقولة أن «الشطار والعيارين» محض لصوص، وخارجين على القانون، لأنه رأى موقفهم من زاوية «الظلم الاجتماعى والسياسي» الذى دفعهم بقوة لاقتناص حقوقهم وحقوق الفقراء، فأضفى عليهم «مصداقية موضوعية» مغايرة تماما للسائد، فتحولوا بفضل رؤيته العميقة الشاملة من مجرمين ضد السلطة والمجتمع، إلى جماعة شريفة تطبق «العدل خارج القانون». ولم يرتح له جانب حين تشكك فى أن «ابن المقفع» مترجم «كليلة ودمنة»، ومال إلى أنه مؤلفها، وتعقب الأمر حتى أثبت وجهة نظره فى كتابه «كليلة ودمنة تأليفا لا ترجمة»، لينتصر للمخيلة العربية، وينسب إليها الفضل. وكان هذا دأبه فى كافة أعماله البديعة، فلم يكن مجرد باحث يرصد ويجمع ويؤلف، بل كان مفكرا صاحب وجهة نظر، يمتلك قريحة مذهلة، أثبتت صدق رؤاه، وصواب مساعيه الجادة. هذه الصفحة تحية لروح العالم الجليل «محمد رجب النجار» الذى لم يغادر مكتبه طوال حياته، إلا إلى العمل أو النوم فقط، وأوقف عمره كاملا على التنقيب فى تاريخنا الغني، من زاوية الثقافة الشعبية، التى أتاحت له إضاءة جوانب معتمة كثيرة فى حياتنا، والتوصل إلى حقائق تدعونا للفخر بجماعتنا الشعبية، وتاريخنا المضىء. ومهما كتبنا عنه فلن نوفيه حقه، فعشرات الصفحات لا تكفى لإظهار جهوده الخلاَّقة الضافية، وما قصدنا هنا إلا تشجيع القارئ الجاد على البحث عن كتبه، والاطلاع على عالمه المفيد الثري. أ . ر