يلعب د. مراد وهبة دورا مهما فى تجديد الفكر الديني، بما له من رؤية عميقة للحياة والإنسان، مع الشجاعة الأدبية فى الكتابة عنها، وفى مقاله بالأهرام (19 يناير 2016) بعنوان«مصير الإنسان على كوكب الأرض» يطرح عددا من الأفكار التى تستحق المناقشة، ويبدأ بالحديث عن اتفاقية تغيير المناخ الكوكبى (باريس 12 ديسمبر 2015) لمنع ارتفاع الحرارة وغاز ثانى أوكسيد الكربون والبحث عن طاقة من الشمس والماء والهواء بديلا عن البترول والفحم والغاز، وإلا فسوف تصبح الحياة على كوكب الأرض مستحيلة (بسبب العواصف العارمة وارتفاع مستوى سطح البحر وذوبان الجليد ) ثم يطرح سؤاله الأول : لماذا أصبح الإنسان على هذا الحال ؟ يبدأ مراد وهبة بتاريخ نشوء الكون وفق نظرية «الانفجار العظيم» الذى حدث منذ13٫5 بليون سنة وتطور الذرات والجزيئات المستمر حتى تكونت المادة الحية عبر 8 .3 بليون سنة، وأخيرا تطور الإنسان ( الهومو سابيانس ) عبر 0 7 ألفا عن نسل القردة العليا ، ثم يسأل سؤاله الثاني: بماذا تميز الإنسان المسمى سابيانس ؟ ويقول إنه تميز بالثورة أو بالتغيير الجذري، الذى بدأ باكتشاف الزراعة لمواجهة أزمة الطعام فى عصر الصيد، مما نتج عنه فائض طعام، وتطورت وسائل التجمع والاتصال من ركوب الدواب إلى اكتشاف اللغة، ومن هنا قيل عن الإنسان إنه حيوان لغوي، وأدت اللغة إلى ابتداع الأساطير والآلهة والأديان التى أصبحت الأساس لأى نظام اجتماعى وثقافي، وما يسمى العقل الجمعى . ويشرح د . مراد وهبة أن الثورة الزراعية أحدثت بترا بين الإنسان والطبيعة فأصبح مغتربا عنها وتمركز حول ذاته، منزله مغلق ومعزول عن جاره، وانتشر الظلم والقلق والاغتراب، ومن هنا جاءت شريعة حمورابى (فى عام 1776 قبل ميلاد المسيح ) من أجل تحقيق العدالة، إلا أن العدالة لم تتحقق، بل اشتد الظلم، وبحث الإنسان عن السبب فوجد أنه كامن فى تذوق الموت دون تذوق الحياة، ولا أدل على ذلك من العمليات الانتحارية التى يمارسها الإرهابى فى تفجير نفسه مع الآخرين. ثم يسأل مراد وهبه سؤاله الثالث، هل فى الإمكان تذوق الحياة دون تذوق الموت ؟ ويقول إنه يمكن تداخل المادة الميتة مع المادة الحية، وهناك العلم الجديد ( بيونيكس) الذى يخلق آلات شبيهة بالكائنات الحية ومن هنا يمكن خلق آلات حية ، وإحداث حوار بين مخ الكومبيوتر والمخ البشري، ومع التطور المستمر يتلاشى الفاصل بين الحياة عن الموت . والسؤال الرابع والأخير فى مقال مراد وهبة، هل يحدث الارتقاء إلى نوع جديد من البشر ؟ ويرد بأنه ممكن، إذ إن تاريخ الإنسان يدل على أنه تطور من حيوان مهمل فى إفريقيا إلى سيد كوكب الأرض واليوم يقف الإنسان على عتبة تطور جديد، يردد فيه الإصحاح الأول من سفر التكوين «خلق الله الإنسان على صورته» وبهذا الإصحاح يختم مراد وهبة مقاله. المناقشة : أولا: يشجع المقال (بصفة عامة) على التفكير خارج المنهج المدرسى التقليدى ، مما يؤدى الى تجديد الفكر بصفة عامة والفكر الدينى بصفة خاصة، إلا أنه يقع فى عدة ثغرات فكرية تجعله يرتد ويعترف فى نهاية المقال بما أنكره فى البداية، فقد بدأ مراد وهبة بنظرية علمية عن تطور نشوء الكون والإنسان عبر ملايين السنين، لكنه انتهى بآية من آيات الكتاب المقدس وهى الإصحاح الأول من سفر التكوين عن خلق الإنسان على صورة خالقه .وقد لا يقلل هذا التناقض من قيمة المقال، إلا أنه يتعارض مع منطق المقال كله، فإذا كان الإنسان فى تطور وتغير مستمر، فكيف يكون مخلوقا بشكل معين سابق عليه ؟ ثانيا: يتبنى مراد غالب نظرية التطور عبر بلايين السنين، مثله مثل أغلب علماء القرن العشرين، فى المجالات المختلفة، منها علم الفلسفة والطب والبيولوجيا (علم الأحياء) والأنثروبولوجيا (علم الإنسان) والفيزياء (علم الطبيعة) والبيوكيمسترى ( علم الكيمياء الحيوية) وغيرها، بخلاف ما يعتقده بعض القسس (ورجال الأديان الأخري) أن الكون تم خلقه فى ستة أيام كما جاء فى الكتاب المقدس. وقد لعبت علوم الفضاء الجديدة وعلم نشوء الكون منذ منتصف القرن الماضى دورا مهما فى تجديد الفكر الديني، رغم أن الخلاف بين نظرية الخلق الدينية ونظرية التطور العلمية لا يزال مستمرا فى العالم حتى اليوم، وهو خلاف سياسى اقتصادى اجتماعى (أكثر منه ديني) يدور بين الفرق اليمينية المدافعة عن الرأسمالية والسوق الحرة والثوابت الدينية، والفرق اليسارية المدافعة عن العدالة والمساواة بين البشر بصرف النظر عن الطبقة أو الجنس أو العرق أو الدين أو اللغة أو الهوية أو غيرها. وقد اعتمد مراد وهبة فى مقاله على التحليل التاريخى الاجتماعى الاقتصادى الأبوى لتطور المجتمعات البشرية من بداية اكتشاف الزراعة حتى اكتشاف اللغة والدين والثقافة، وكأنما الإنسان ( فى نظره) هو الرجل فقط أو الأب، الإله الذكر، ولم تكن هناك مجتمعات بشرية فى مصر وفلسطين والعراق واليونان وغيرها، حيث كانت الإلهة أنثي، والمرأة هى مكتشفة الزراعة واللغة (لغة الأم) والكتابة وقوانين العدل والمعرفة، مما هو محفور فى تاريخ الحضارات القديمة، وأقربها إلينا الحضارة المصرية، وإلهة الحكمة إزيس وإلهة العدل معات. ولم يستطع إله الكتاب المقدس أن يحذف من التاريخ دور المرأة الفكرى الريادي، وجعلها أول من أكل من شجرة المعرفة، لكنه جعل المعرفة خطيئة، وصب لعناته على المرأة وجعلها حواء الآثمة، جسدا بغير رأس، ورأسها هو زوجها ، الذى يسود عليها وهى تزحف إليه اشتياقا، وتلد ( فى الأسى والألم) أولادا يحملون اسمه (اسمها أصبح عارا )، وكانت المرأة المصرية القديمة تلد أطفالها (دون ألم ) ويحملون اسمها بكل فخر ويرثون عنها العرش . لكن مراد وهبة يقفز فوق هذه المراحل من التاريخ ليذكر فجأة الملك حمورابي، سادس ملوك بابل (من 1792 إلى 1750 قبل ميلاد المسيح) الذى وضع شريعته ليحارب الظلم، لكنه لم يحقق العدل بل اشتد الظلم. وهنا يتحير مراد وهبة عن سبب استمرار الظلم، ثم يجده كامنا فى تذوق الموت دون تذوق الحياة ، ويدل على ذلك (فى رأيه) ذلك الإرهابى الذى يفجر نفسه ويفجر الآخرين فى العمليات الانتحارية .هنا يبتعد مراد وهبة عن لب مقاله، ورؤيته التاريخية السياسية الاقتصادية الاجتماعية للحياة البشرية، ولا يسأل لماذا يشتد الظلم فى العالم، رغم التقدم العلمى والتكنولوجى الهائل. ولماذا أصبح 1 فى المائة من البشر يملكون كل شيء و 99 لا يملكون شيئا، لماذا يتدفق ملايين المهاجرين إلى بلاد تطردهم وتقهرهم، أو يموتون غرقا أو جوعا فى الطريق، لماذا يقع الظلم أساسا على النساء والفقراء والأطفال، لماذا أدى تطوير الصناعات الرأسمالية الحديثة إلى مشكلات المناخ التى تهدد مصير الحياة فوق كوكب الأرض، لماذا ساءت الأحوال إلى هذا الحد، وهو السؤال الأول الذى طرحه مراد وهبة فى بداية مقاله، إلا أنه يقفز فى النهاية إلى أسئلة فلسفية مجردة منفصلة عن الواقع: هل يمكن تذوق الحياة دون تذوق الموت ؟ وهل يتطور الإنسان إلى نوع أرقى من البشر ؟ ويدلنا التاريخ أن الحياة والإنسان فى تطور دائم لا يتوقف، من الأدنى إلى الأرقي، لكن النظام الأبوى الرأسمالى الذى يحكم العالم حتى اليوم، يعرقل رقى الإنسان وتطور عقله وتفكيره، كما أن ثنائية الحياة والموت ( أو انفصال الحياة عن الموت) هى إحدى الثنائيات المغلوطة الموروثة، منذ نشوء النظام الأبوى العبودى فى التاريخ ، ومنها ثنائية الحاكم والمحكوم، الذكر والأنثي، الإله والشيطان، المادة والروح، السماء والأرض، الموت والحياة، الشرف والعار، الأبيض والأسود، الجنة والنار، وغيرها من الثنائيات التى تشطر العقل، وتفرض الغباء أو العماء عن الواقع والحقيقة، ومن هنا ازدواجية القوانين والمقاييس لكل شيء فى حياتنا، أصبح الإنسان مزدوج الوجه، يعيش حياة مزدوجة، حياة فى العلن وأخرى فى الخفاء، يعيش الإنسان فى عالمين. عالم الواقع والحقيقة، وعالم آخر افتراضى (موهوم)، وهذا الآخر الموهوم، هو الذى يشكل أغلب عقول البشر منذ الطفولة، بسبب التربية فى البيوت والتعليم فى المدارس والجامعات والجوامع والكنائس والمعابد والأحزاب السياسية، ومن هذا الانشطار العقلى يحدث ما يسمى فى الطب النفسى مرض الانفصام أو الشيزوفرينيا والرغبة فى الانتحار أحيانا، وما يسمى فى السياسة العمليات الانتحارية الإرهابية، التى يقتل فيها الإنسان نفسه مع الآخرين، هذا الانتحار ليس بسبب تذوق الموت دون تذوق الحياة، كما يقول د مراد وهبة، بل لأن هناك حياة أخرى بعد الموت (فى نظر المنتحر) أفضل كثيرا من الحياة التى يعيشها فى الواقع والحقيقة. هذه ليست إلا مناقشة أولية لمقال د. مراد وهبة بالأهرام، والذى يستحق المزيد من المناقشة. لمزيد من مقالات د.نوال السعداوى