وسط حالة من الذعر الإخوانى، تضاربت الأنباء، أخيرا، حول وساطات متعددة للمصالحة بين مصر وتركيا، وخرجت علينا الكاتبة الكويتية المثيرة للجدل «فجر السعيد» بتصريح عن نية الرئيس التركى رجب طيب أردوغان زيارة القاهرة الشهر المقبل، وبغض النظر عن صحة هذا الادعاء فإن تواتر الأنباء يشير إلى تبدلات مهمة فى معادلات الشرق الأوسط وتوازناته تجبر نظام أردوغان على إعادة ترتيب أوراقه والانحناء للعاصفة وأن نتيجة المواجهة وارتداداتها تكشف عن تسجيل السيسى هدفا فى مرمى «السلطان العثمانى» بروية واقتدار. لقد حطمت مصر قلب «السلطان العثمانى» ولطالما فعلت - وتركته هائجا مائجا يعض أنامله، وهو يرى آماله تتهاوى كقصور الرمال على الشاطئ.. ظل يمنى نفسه بزعامة العالم الإسلامى، واستعادة النفوذ العثمانى القديم على بلاد العرب، بعدما أغلقت أوروبا أبوابها فى وجهه، شجعه النجاح الاقتصادى الكبير الذى حققه حزب العدالة والتنمية، منذ وصوله إلى سدة الحكم فى أنقرة عام 2002، لكن هذا لم يكن كافيا، لحمل طموحات الزعامة الأردوغانية إلى أرض الواقع.. فجأة تغيرت الأحوال جاء الربيع العربى فى 2011، صعدت جماعة الإخوان فى مصر وتونس وليبيا واليمن، بدا المستحيل ممكنا، لبس الرجل «قلنسوة السلطنة» بنى «القصر الأبيض» شرب «كأس النشوة»، أطلق أحلام الهيمنة على المنطقة من عقالها، تحت ستار شراكة استراتيجية، مع مصر «تابعة»، تكون فيها تركيا الشريك الآمر الناهى، لكن الشعب المصرى كان له رأى آخر، أزاح حكم «الإخوان» الإرهابية، بعد 30 يونيو 2013، بينما قمع أردوغان بعنف ثورة شعبية مماثلة فى ميدان «تقسيم» باسطنبول، فطاشت آماله هباء منثورا، صب النار على زيت الخلافات وأجج العداوات بشكل هستيرى، خاصة أن البلدين اتخذا مواقف متعارضة فى القضايا الشائكة، فى سوريا وليبيا وغزة وجماعات العنف والإرهاب،على رأسها «داعش» الذى ينطق من «حنجرة أنقرة»، وظل الموقف من «الإخوان المسلمين» أبرز علامات الشقاق بين الدولتين، بمرور الأيام بدا الرهان المصرى فى محله وخاب سعى أردوغان..! ظلت تركيا - أردوغان العدو الأكبر لثورة 30 يونيو، وقفت بقسوة وعنجهية ضد إرادة المصريين، استضافت أقطاب الجماعة الهاربين، جعلت أراضيها منصة لمخططاتهم وفضائياتهم، كسرت كل الأعراف الدبلوماسية والأخلاقية، وهى تحرض على حكم السيسى، ولما ضاقت القاهرة ذرعا بتلك الممارسات طردت السفير التركى وجمدت اتفاقيات اقتصادية، التبادل التجارى 5 مليارات دولار، منها نصف مليار فقط صادرات مصرية، مما جعل ثمن العداء نزيفا تركيا.. كما نسجت مصر - دون جلبة أو ضجيج - تحالفا اقتصاديا أمنيا، على أساس استراتيجى، من تحت أنف أنقرة، ضم اليونان «العدو التقليدى لتركيا»، وقبرص، لاستغلال الثروات الطبيعية، خاصة حقول الغاز شرق المتوسط، ووثقت الوشائج السياسية والعسكرية، انزعج الأتراك وتألموا، لفرط شعورهم بالعزلة، ثم أتى التدخل الروسى فى سوريا عبئا ثقيلا عليهم، تبدت مخاطره الجمة، بعد إسقاط «المقاتلة الروسية» وإهانة بوتين لأردوغان وإحباطه مخططات الأخير بسوريا، ودعمه طموحات الأكراد فى الاستقلال، والظروف آخذة فى النضوج، كابوس الأتراك الأكبر: 40 مليون كردى يقيمون دولة مستقلة، كيان معاد آخر، يجلس على رقبتهم، مما يهدد بتمزيق الوحدة الترابية لتركيا نفسها أوإزالتها من الوجود. لا ننسى عاملا آخر تحول من عنصر قوة إلى نقطة ضعف فى جدار حكم «حزب العدالة والتنمية»، أقصد فضيحة دعم فرق الإرهاب الوحشى، بدءا من سوريا والعراق مرورا بسيناء وليبيا وغيرها.. الطامة الكبرى لو تأكد تورط «جماعة الذئاب الرمادية» القومية التركية، المرتبطة بداعش والمخابرات التركية، فى إسقاط طائرة الركاب الروسية فوق سيناء، ساعتها ستواجه أنقرة أوضاعا بالغة الحرج والخطورة بشكل غير مسبوق، وسيذوق الطباخ السم الذى دسه للآخرين. فى الوقت نفسه، تسير مصر ببطء - إنما بثقة - لضبط الأوضاع ولجم الانهيار الحادث فى العالم العربى، تكبح التدخلات الخارجية من جانب قوى إقليمية، مثل إيرانوتركيا، والحيلولة دون انتشار «شبح التقسيم» الذى ينذر بإعادة رسم الخريطة الجغرافية والسياسية لدوله، مما يسهم فى تضارب الأهداف بين مصر وهاتين الدولتين، ورغبتهما فى التوسع والهيمنة، اقترحت القاهرة تشكيل «القوة العربية المشتركة»، احتضنت القمة العربية مارس الماضى، وسعت لتطوير آليات العمل المشترك، انغمست بوعى فى قضايا الشعوب العربية،لاسيما القضية الفلسطينية. اللافت فى هذا الشأن أن مصر فازت بعضوية مجلس الأمن الدولى، بينما خرجت منه تركيا. اليوم يتواتر الحديث عن وساطة سعودية للتقريب بين الطرفين، لصياغة مثلث قوة وحل مشكلة تسليم رئاسة القمة الإسلامية من الرئيس السيسى إلى الرئيس التركى، واحتمال قيام السيسى بزيارة أنقرة أبريل المقبل - وهى خطوة لا تحظى بتأييد المصريين، ما لم يتخذ أردوغان الخطوة الضرورية اللائقة، بزيارة القاهرة والكف عن التدخل فى الشأن المصرى بأى صورة، صحيح أن الدولتين قوتان مركزيتان فى المنطقة، تحوزان قدرات استراتيجية هائلة وإرثا حضاريا زاهيا، لكن الحرائق المشتعلة والمتغيرات العميقة فرضت تراجع الموقف التركى الداعم لسياسة الفوضى بالشرق الأوسط، مقابل تقدم الدور المصرى بشكل ملحوظ إقليميا ودوليا، إنه زمن «المحروسة» لو أحسنا التدبير.. الخلافات يمكن تجاوزها لكن «صلف السلطان» لاترياق له سوى لغة الأقوياء ومواقفهم. [email protected] لمزيد من مقالات د. محمد حسين أبوالحسن