ليس في نيتي أن أعلق علي الواقعة السفيهة الخاصة بمحاولة تنطوي علي بذاءة أكيدة لإهانة رجال الشرطة, فقد أُشبعت عليقاً في كل منابر التعبير عن الرأي ، وحدث كالعادة استقطاب بين طرفين لا يري أولهما أي تجاوز فيما حدث, بينما يري الثاني العكس تماماً، وأتمني علي وزارة الداخلية ألا تنشغل بالتعامل القانوني مع الواقعة لأن تصرفاً كهذا نابع من ظاهرة لا تعالج بالعقاب وإنما بإعادة التربية, كما أتمني علي الشباب الرافض لممارسات النظام الحالي عامة ووزارة الداخلية خاصة وهذا حقه أن يدرك أن الخلاف بينه وبين مؤسسات النظام مسألة جادة ومهمة بالنسبة لمستقبل الوطن ولا يعالج بهذا النوع من الاستخفاف البذيء، وبالتأكيد فإن هناك آليات «فكاهية» للحركة السياسية إذا جاز التعبير, وقد أطلقت إذاعة بي بي سي علي ثورة يناير وصف الثورة الضاحكة غير أنه شتان بين الفكاهة والبذاءة . ما يعنيني في الأمر ارتباطه بالمسألة الأخلاقية في مصر الآن والتي يتعين علينا أن نكاشف أنفسنا بشأنها بصراحة كاملة, وأقصد بذلك التدني الأخلاقي المريع في لغة الحوار السياسي وبالذات بين قطاع لا يستهان به من الشباب علي مواقع التواصل الاجتماعي، وأوضح بداية أن هذا التدني يشمل أطراف الحوار كافة أي خصوم النظام ومؤيديه وأنصار الإخوان وأعداءهم، ومن هنا ضرورة دق أجراس الخطر لأن التدني صار سمة مجتمعية وليس صفة لقطاع من فصيل سياسي دون غيره . لم تتجاوز مساهمتي في ثورة يناير حدود الكلمات من خلال ما كنت أكتبه من مقالات في ذلك الوقت, إذ لم يكن لي شرف المشاركة في أيٍ من فعالياتها لتزامن حدوثها مع تفاقم محنة صحية كنت أمر بها، ولذلك كنت أتابعها من نافذة منزلي وشرفته الذي يقع علي شارع الهرم الذي مكنتني تطورات الأحداث فيه من مظاهرات ومواجهات بين الثائرين وقوات الأمن من التنبؤ الصحيح بتوقيت نجاح الثورة ، وكم شعرت بالفخر حينذاك وأنا أتابع شبابا وطنيا في مظاهراتهم وهم يرفعون شعارات نبيلة ويؤكدون سلمية ما يقومون به ، وعندما أُذن لي بعد تنحي مبارك بشهور قليلة بالخروج من المنزل ومررت بسيارتي بأماكن كثيرة شملت وسط القاهرة وأطرافها أُصبت برعب حقيقي من كم الشعارات البذيئة المكتوبة علي جدران عديدة بمداد أسود وحروف ضخمة قبيحة تعبيراً عن مواقف معارضة، ولا أدري لماذا قفزت إلي ذهني علي الفور حينذاك كلمات لينين الذي ربط التدني الأخلاقي بالنظام الذي ثار عليه واعتبر الفضيلة سمة للثوار ولمجتمع الثورة ، وهي مسألة منطقية فالثورة تنتصر لقضايا الحق والحرية والعدل والمساواة ، ومن يدافع عنها لابد أن يكون علي خلق عظيم ، وتذكرت أننا شعب مؤمن وأن الديانتين السائدتين فيه وهما الإسلام والمسيحية تحضان علي مكارم الأخلاق التي قال الرسول عليه الصلاة والسلام أنه بعث ليتممها ، ولذلك كان رعبي يزداد عندما أقرأ لشباب ينتمون إلي الإخوان المسلمين يكتبون علي صفحات التواصل الاجتماعي أكثر الألفاظ بذاءة لا يميزهم في هذا شىء عن غيرهم الذين لا يدعون تديناً ولا يتمسحون بالإسلام ، وبعد لينين تذكرت أيضاً مكيافيللي الذي ذهب إلي أن منطق السياسة يمكن أن يتعارض مع الأخلاق, لكنه بالتأكيد لم ينصح ز الأمير ز أو غيره بأن يكون بذيئاً ، وتساءلت في أسي عن سبب الانهيار من سمو شعارات أيام الثورة الأولي إلي ماحدث بعد ذلك . عندما تيقنت من أن السقوط الأخلاقي قد أصبح ظاهرة مجتمعية وبالذات في أوساط شبابية بغض النظر عن درجة انتشارها بدأت أفكر في الأسباب ، فهل يمكن أن تبدأ من أسر لا تهتم بغرس الأخلاق الحميدة في أبنائها ؟ والأخطر أن البعض بات يتحدث عن عدم ثقته في أن تكون تنشئة أبنائه علي الأخلاق الحميدة مساعدة لهم علي شق طريقهم في الحياة ، وهل تمتد الأسباب إلي المدرسة التي يترنح دورها التربوي ومن ثم من البديهي أن تغيب أو علي الأقل تضعف مسئوليتها الأخلاقية ؟ وكذلك إلي دور العبادة التي لا تهتم بالتنشئة الأخلاقية لمرتاديها كما ينبغي ، ثم نأتي إلي بعض وسائل الإعلام التي تدخل بيوتنا فلا تراعي لها حرمة بالتركيز علي برامج الفضائح والإثارة, بل إن التدني الأخلاقي يمتد أحياناً إلي إعلاناتها المسفة ، ناهيك بالفن الهابط المتمثل في الأغاني البذيئة والأفلام الأكثر بذاءة ، وأذكر أنني هاتفت يوماً الزميلة العزيزة الدكتورة درية شرف الدين أهنئها علي عمود كتبته انتقدت فيه بشدة أحد هذه الأفلام فأقسمت لي أنها تخجل من أن تردد علي مسامعي لفظاً واحداً من الألفاظ التي حفل بها ذلك الفيلم ، والمأساة أن هذه النوعية من الفن الهابط تلقي رواجاً بين كل طبقات المجتمع, ولابد أن نعترف بأن مفرداتها صارت متداولة فأين المفر ؟ لا أنوي أن ألبس ثوب المصلح الاجتماعي ولكنني أعتقد أن ثمة مسئولية ملقاة علي عاتق أساتذة علم الاجتماع المصريين الذين يعتز أي مصري بإسهاماتهم العلمية الجادة والرفيعة في تقصي أسباب هذه الظاهرة المخيفة وتحري آليات مواجهتها فالأمر جد خطير وقد بشرنا الشعر مبكراً بأن الأمم تقوم علي الأخلاق فإن ذهبت ضاعت هذه الأمم مع ضياعها ، وأعتقد أن ز المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ز وعلي رأسه مديرته القديرة الأستاذة الدكتورة نسرين البغدادي يتحمل مسئولية خاصة في هذا الصدد بعقد حلقة نقاشية يحضرها أكاديميون متخصصون ومسئولون وسياسيون تكون تمهيداً لمؤتمر يتناول الظاهرة ، كذلك أعتقد أن أوان التصدي الحازم للبذاءة في الإعلام والفن قد حان وأعلم أن هناك من سيصرخ بدعوي حماية حرية الفكر والإبداع ولدي الشجاعة كي أقول إنه لا حرية للبذاءة أياً كانت صورها, وفي الوقت نفسه فإن القوي الفاعلة في المجتمع عليها أن تقف بالمرصاد لأي محاولة لجعل هذا التصدي الحازم باباً خلفياً لتقييد الحرية . لم أقصد بهذه المقالة بالتأكيد أن أقول إن المجتمع المصري صار مجتمعاً لا أخلاقياً ولكني قصدت التنبيه إلي أن جرثومة التدني الأخلاقي قد انتشرت في هذا المجتمع إلي حد ينذر بالخطر ويتطلب المواجهة . لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد