هل هناك كراهية أو خوف أو رهاب -فوبيا- من حرية الرأى والتعبير، وحرية التدين والاعتقاد فى مصر وعالمها العربي؟ ما سر هذه الموجات المتلاحقة من دعاوى ازدراء الأديان، والحسبة التى يحركها بعض آحاد الناس من خلال شكاواهم للنيابة العامة؟ حالة تبدو سوسيو-نفسية، وتعبر عن احتقان ممتد، والسؤال من يخشى سلطان العقل وانطلاقه الحر، والإبداع وتخيلاته المحلقة فى مدارات الحرية واكتشافاتها وأسرار الإبداع وجمالياته المغايرة للواقع الموضوعى ومحمولاته ومشكلاته وتعقيداته؟ إن معرفة الفاعلين ومحركى هذه الشكاوي، ربما يكشف عن حدود هذه المشكلة التى باتت تشكل توظيفا سلبيا للنصوص والآليات القانونية فى محاولة الحجر على حرية الضمير والتدين والاعتقاد، وحرية الرأى والتعبير بوصفها الحرية الأم والمدخل للتطور والمساءلة السياسية والدينية والاجتماعية لمؤسسات ثقافية وأكاديمية ودينية وسياسية يحاول بعضها إعاقة سلطة العقل والإبداع حتى لا تنكشف هذه السلطات وإنتاجها، وما يبدو داخلها من اعتلال، ويمكنننا الكشف عن بعض هذه المؤسسات/ الفاعلين الذين يريدون وضع العقل والإبداع والرأى والبحث العلمى تحت السيطرة فيما يلي: أولاً: بعض الآراء من المتحمسين أو الغلاة الذين يدافعون عن معتقداتهم وآرائهم الوضعية حول الدين أو الأخلاق والآداب العامة، ويعتقدون أن نقد الخطابات والآراء والفتاوى الدينية البشرية هو نقد للدين والعقيدة ذاتها، وأن الإبداع الفنى فى مختلف مجالاته هو الواقع ذاته، وأنه يشكل خطرا على الأخلاقيات والآداب والعقائد العامة. بعض الآحاد يرمون إلى تحقيق بعض الشهرة والذيوع إعلاميا، وبعضهم الآخر تدفعه انتماءاته التنظيمية لإحدى الجماعات الدينية السياسية، ويهدف إلى الحجر على التفكير والإبداع. ثانيا: بعض رجال الدين من المؤسسة الرسمية أو خارجها السؤال لماذا تقلق بعض المؤسسات الدينية العربية والمصرية من حريات الرأى والفكر والإبداع والتدين والاعتقاد؟ لعديد الأسباب على رأسها ما يلي: 1- الخوف من حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، هو تعبير عن جمود الفكر الدينى لهذه الديانة أو المذهب، عن مواجهة أسئلة ومشكلات الحياة التى تواجه المؤمنين بديلا عن البحث عن أين الخطأ فى بعض الفقه واللاهوت والوعظ والإفتاء المسيطر داخل المؤسسة، حيث يتم الدفاع عن الموروث الفقهى واللاهوتى الوضعى والدفاع الشرس عنه بديلا عن الاجتهاد، والمراجعات للفكر الدينى المسيطر، والهجوم الشرس على العقائد والمذاهب والمدارس الفقهية واللاهوتية الأخرى دفاعا عن استمرارية دور بعض رجال الدين ومكانتهم. 2- النزعة الوصائية على إيمان المؤمنين وآحادهم المخلط بين القدسى والوضعي، والخوف من تأثرهم بالأفكار النقدية والتنقيحية أو الإبداعية على نحو يؤثر على سلطتهم. 3- دعم التسلطية السياسية الحاكمة منذ نظام يوليو 1952، وتحالفهم معها الذى يعطيهم سطوة ونفوذا على الضمائر والإيمان والأخلاق العامة. 4- خوف بعض رجال الدين - أيا كانوا- على طلاب المؤسسة التعليمية التابعة لهم من الدراسات السوسيو- تاريخية حول الإنتاج الفقهى واللاهوتى التاريخي، ومن الإبداعات الفنية- أيا كانت -التى تستمد موضوعها من بعض الرموز والوقائع التاريخية والرمزية، والتى يعتبرها بعض رجال الدين أنهم حماة التاريخ الرسمى للدين أو المذهب، ومن ثم يخلط بعضهم بين التاريخى والرمزى والتخيلي. 5- تبدو حرية الرأى والتعبير والإبداع وتجلياتها وإنتاجها وأسئلتها ورؤاها النقدية تشكل تهديدا للتكوين الأصولى واللاهوتى النقلى الوضعى وإعادة النظر فى مدى صلاحية بعضه أو مواءمته للتعامل مع أسئلة الإيمان والحياة فى عصور متغيرة، ومن ثم تمثل الخطابات النقدية والإبداع الفنى غير المألوفة للذائقة التقليدية صدمة للعقل النقلى عموما، وثمة استثناءات لدى بعض رجال الدين المثقفين القادرين على التكيف واستيعاب الأفكار الجديدة والحوار معها فى حرية وبلا وجلّ، وهو ما ظهر فى تاريخ الأزهر، وبعض رجال اللاهوت الأرثوذكسي. 6- العقل النقلى عموما بحكم تكوينه يعتمد على الثنائيات الضدية حول الحلال والحرام والإيمان والكفر، وبعض المساحات الهامشية فيما بينهما أحيانا، ومن ثم هو عقل مسيج بسياجات لا يجوز التحرك خارجها، أو حولها فى الغالب الأعم إلا نادرا ذ لدى بعض رجال الدين المثقفين- للتعامل مع أسئلة وإشكاليات خارج حدود العقل النقلي. 7- جمود علم أصول الفقه - أحد أبرز تجليات العقل الإسلامى وذروة تطوره تاريخيا - وعلم الكلام، وعدم تطورهما ومواكبتهما للتغير فى مناهج دراسة الأديان المقارنة وثورة العلوم الألسنية/ اللغوية، والتطور فى العلوم الاجتماعية على خلاف ما كان سائدا فى بدايات تكوين وتأسيس هذا العلم الأصولي، واعتماده على عديد المصادر إلى جانب النص القرآنى المقدس والسنة النبوية المشرفة كالعرف والاجتماع والمصالح المرسلة والقياس، ويعود ذلك إلى تجليات وآثار قفل باب الاجتهاد وجمود المذاهب والمدارس الفقهية، وتحولها إلى مؤسسات دينية وضعية، وحراسة التابعين، وتابعى التابعين، الخ والمقلدين، ودفاعهم عن المتون التأسيسية لكل مذهب ورأى المؤسسين واتباعهم .. الخ. ثالثاً: الجماعات الدينية المسيسة تميل هذه الجماعات إلى التشدد والغلو لأسباب سياسية فى صراعها للوصول إلى السلطة والتمدد بين جمهور المؤمنين، ورغبة فى إظهار التمايز مع ما هو سائد، لاسيما من بعض المتشددين والسلفيين الغلاة. بعض منظرى هذه الجماعات يميلون إلى استخدام سلاح التكفير فى مواجهة خصومهم بإفراط شديد، وهى ممارسة تهدف إلى الهيمنة على الأتباع. رابعا: النخبة الحاكمة والتوظيفات السياسية للدين يشير تاريخ دولة ما بعد الاستقلال فى غالب الدول العربية إلى توظيف الدين فى العمليات السياسية، كمصدر للشرعية، وأداة للتوازن السياسي، والضبط الاجتماعي، وفى تبرير أيديولوجيا النظام وسياساته وقراراته، وذلك فى مسعى لتأميم الدين ووظائفه لصالحها، والدفاع عن تفسيراتها ومعها المؤسسة الدينية التابعة لها إزاء القوى الدينية السياسية الأخري. لا شك أن أهداف الأطراف الفاعلة فى المجالين الدينى والسياسى ترمى إلى فرض قيود على سلطة العقل وحرية الرأى والتعبير والإبداع، والتدين والاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية، وهو ما أدى ولا يزال إلى تراجع مستويات المعرفة والإبداع والبحث الأكاديمي، لأن رهاب حرية العقل والإيمان يؤدى إلى كبح الأفكار الجديدة. ويستخدم هؤلاء جميعا نصوصا وآليات قانونية- كازدراء الأديان والحسبة- لفرض وصاية على العقل والضمير، وهى نصوص غامضة، وتتنافى مع النصوص والمبادئ الدستورية العامة والمستقرة.. وللحديث بقية. لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح