الكتابة الدينية/ السياسية, والمعالجات الإعلامية, الشفاهية المرئية والمسموعة حول الخطابات والظواهر الدينية علي اختلافها كيف تنتج, وتوزع علي قواعد استهلاكها علي اختلافها؟ وفي ظل أية سياقات زمنية؟ هل نحن غائبون عن زمن العالم المعولم وظواهره وتحولاته المتغيرة؟ هل نحن لا نزال نعيش في عصر الراديو, أو الترانزستور أو التلفاز؟ بعضهم يبدو خطابه قادما من أزمنة وعقود ماضوية بعضها ينتمي إلي العصور الوسطي لغة ومنطقا ورؤية, وبعضها الآخر يمثل إعادة إنتاج لنمط من الخطابات الدينية الوعظية والإفتائية واللاهوتية والفقهية- الوضعية التي كانت تعبيرا عن استجابات بعض الفقهاء والوعاظ والمفسرين واللاهوتيين لمشاكل, وظواهر عصورهم التاريخية وليست لعصرنا وزماننا ومشاكلنا! ليس هذا فحسب بل كانت تعبيرا عن رأي بعضهم آنذاك, ولم يكن رأي آخرين عاشوا معهم, ويتم حجب اجتهاداتهم وآرائهم وتفسيراتهم, لأنها لا تجد هوي, والأحري مصلحة لإحيائها وتطويرها, وتقديمها علي أنها جزء لا يتجزأ من مرحلة وظواهر وتفاعلات, ومصالح هذا اللاهوتي, أو الفقيه, أو الداعية أو الواعظ أو المفتي من الذين يسيطرون علي مواقع الفتوي والوعظ الآن! من المعروف أن الرأي أو الاجتهاد البشري, هو جزء من سياقات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية.. إلخ, أي ابن مرحلة في مجتمع محدد وعصر ما, ومن ثم هو جزء من الحالة التاريخية والفقهية واللاهوتية الوضعية حول الأديان والمذاهب والمدارس ومنتجيها, ومصالحهم, وارتباطاتهم السياسية والاجتماعية ومواقفهم. نحن إذن لسنا إزاء نصوص مقدسة ومتعالية واجبة الاحترام والتطبيق, وإنما نحن إزاء آراء بشرية, وضعية تدور حول دوائر إنتاجها التاريخي, ومن ثم لا قداسة لها قط, وإنما الاحترام للخطابات الفقهية واللاهوتية الوعظية والإفتائية والكلامية... إلخ التي حاولت وفق قواعد ومعايير وآليات التفسير التي كانت سائدة آنذاك, أن تجتهد منزهة القصد وبريئة عن الأهواء والآثام, لإيجاد حلول لمشاكل الناس في حياتها اليومية, وفي فهمها لقواعد الدين ومعاييره وأصوله. نعم الاحترام والتقدير واجب للفقهاء واللاهوتيين والمفسرين والوعاظ الذين استشعروا قلق ومشكلات اللحظة التاريخية ومعاناة الناس منها كي يقدموا إجابات أو مشاريع إجابات تعلي من شأن الإيمان الداخلي, والقيم الفضلي, وتقيم جسرا بين الحياة وأخلاقيات الدين, والخير, والعدالة, والمساواة, والأخوة, والمحبة والتعامل بالحسني... إلخ! وغيرها من القيم الدينية داخل كل ديانة من الديانات, حتي يتعايش الناس سواسية حول المشترك من القيم الدينية, وما تنتجه تدافعات الحياة والناس والأفكار والأعمال, من رأسمال مدني للحياة المشتركة. الأزمة الكبري لبعض الخطابات الدينية الإسلامية والمسيحية السائدة, تكمن في أنها تتغذي علي ثقافة النسق المغلق الذي يركز علي المنظومة الدينية العقدية والقيمية والأخلاقية, وكأن الديانة أو المذهب داخلها, واقع تحت تهديد ومخاطر الاجتياح, وكأن ثمة تهديدا حالا علي الدين ذاته! من الأديان الأخري, أو من مذاهب علي أخري, والأحري, القول من بعض رجال الدين هنا وهناك علي آخرين مختلفين معهم في الديانة أو المذهب! حالة نفسية_ وسوسيولوجية تحتاج إلي دراسة معمقة. لسنا أمام تهديدات للدين/ المذهب/ المدرسة الفقهية أو اللاهوتية داخله, وإنما نحن إزاء عمليات لتجسيد وتضخيم' الخطر الموهوم' أمام غالب الجماهير علي اختلاف انتماءاتها ومصالحها الاجتماعية_ التابعة لهذا الدين, أو ذاك! ومحاولة تعبئتهم, وشحنهم نفسيا إزاء الخطر المتوهم الذي يجسدونه في الآخر الديني شريك الوطنية والحياة المشتركة! السؤال الذي يطرح هنا لماذا يشيع بعض رجال الدين والخطابات الدينية شعور الخطر الداهم علي الدين/ المذهب... إلخ بين أتباعهم؟ وما هي وسائل إشاعة الخطر الداهم علي إيمان الجمهور؟ 'إشاعة الخطر علي الدين والإيمان' خطاب ديني وضعي يرمي من ورائه بعض رجال الدين_ أيا كانت دياناتهم أو مذاهبهم أو آراؤهم_ فرض العزلة النفسية الاجتماعية الثقافية علي إتباع الديانة, أو المذهب, وحصرهم شعوريا في إطار الدين/ المذهب وبناء حوائط عزلة نفسية واجتماعية إن أمكن!, وذلك حتي يتحقق لرجال الدين السيطرة الرمزية والعقائدية والسياسية وهذا هو الأخطر علي الأتباع, وتوجيههم سواء حول الدين/ المذهب أو الدنيا/ السياسة والمصالح والنفوذ! إنتاج العزلة والانسحاب عن التفاعل المشترك والخلاق والمنتج اجتماعيا وسياسيا, ليس نتاجا فقط لفعل بعض رجال الدين وخطاباتهم المتزمتة والمغلقة, وإنما هو تعبير عن عديد العوامل الأخري ومنها: القيود المفروضة علي المجال العام السياسي, وقمع مبادرات الفعل السياسي والاجتماعي والثقافي الحر أو التلقائي, بعيدا عن أجهزة الدولة والسلطة السياسية, وضعف المشاركة السياسية, وانسداد هياكلها عن قبول التعدديات الاجتماعية والسياسية والدينية ومصالحها وممثليها داخل المؤسسات السياسية علي اختلافها. ثمة هيمنة لمنظومة من القوانين المقيدة للحريات العامة والشخصية علي حرية المواطنين, ولاسيما تلك التي تميز بين المواطنين علي أساس المعيار الديني, سواء في الحقوق أو الواجبات العامة, أو التي تقيد من حرية التدين والاعتقاد, وممارسة الشعائر الدينية المنصوص عليها دستوريا. عديد القيود, والفراغات السياسية, التي أدت إلي تمدد الغلاة والمتزمتين من رجال الدين, وبعض المؤسسات الدينية الرسمية كما حدث في السلطة الكنسية علي المسيحيين المصريين, وثمة نظائر إسلامية/ سياسية وغيرها, أو بعض الجمعيات,' الأهلية', أو الحركة السلفية التي هيمنت رمزيا علي الفراغات عبر تركيزها علي بعض الآراء الفقهية المحافظة والمتشددة من الحجاب إلي النقاب. ذهب بعضهم داخل دوائر المؤسسة الرسمية إلي اعتبار الحجاب' جزءا من الأمن القومي المصري', وآخرون إلي اعتباره أحد ثوابت العقيدة الإسلامية وإدراكاتها... إلخ! وليس بوصفه جزءا من مكارم الأخلاق, أو أحد خيارات الحرية الشخصية, وبما لا يخل بالنظام العام! ثم تم الانتقال إلي المرحلة الثانية في السيطرة الرمزية علي المجال العام, وهي تمدد ظاهرة النقاب, ولم يعد مجديا_ في ظل تنازلات وتراجعات بعض أجهزة الدولة لهؤلاء الغلاة سوي توجيه بعض من اللغة الخشنة ولا أزيد إلي بعض المعتدلين من مشايخ الأزهر, وعلي رأسهم الإمام الأكبر, ومحاولة تجريح آرائهم عبر التلفازات الفضائية السلفية المغالية, والمواقع النتية, وفي بعض المساجد والزوايا, وشاركهم في ذلك بعض رجال المؤسسات الدينية الرسمية, علي نحو أدي إلي مشاكل مختلفة اجتماعيا. بعض الخطاب الديني الإسلامي, والمسيحي المتشدد والمحافظ, يؤسس لسيطرة رجال الدين علي الحياة, وفي قلبها السياسة علي نحو أو آخر من خلال التركيز علي شكلانيات التدين ومظاهره الطقسية والرمزية, ولم يعد التدين تجربة عميقة داخل الذات تطهرها دوريا من الآثام والخطايا ونزعات الشر, وتعظم من الخير والتسامح والعدالة والمساواة وحسن المعاملة... إلخ مع الآخرين أيا كانت انتماءاتهم. محور تعظيم أشكال التدين ورموزه الظاهرة, يؤدي إلي شيوع الاستعراضات السلوكية عبر نظام الزي والعلامات واللحي ولغة الخطاب اليومي المرموز دينيا إلخ-, والمغالاة في أدائها حتي يؤدي ذلك في بعض الأحيان- ولدي بعضهم دون الآخر إلي ستر الخطايا, وإخفاء مضمرات النفس الأمارة بالسوء, أو بعض أشكال الخروج علي قانون الدولة, كما تشير إلي ذلك بعض صفحات الحوادث بالصحف. المحور الثاني: هو تسييد خطاب كراهية الآخر, بدعوي تهديده لإيمان وعقائد الجمهور, وإبراز الاختلافات_ لا المشتركات في القيم العامة_ أو التركيز علي التناقضات من وجهة نظر الغلاة. إشاعة ثقافة الكراهية, هي تعبير عن إنتاج للحواجز النفسية بين المصريين المتعددي الديانات والمذاهب, بل وتؤدي إلي إنتاج الخوف وتعميمه, وهو ما يؤدي إلي تيسير السيطرة الرمزية والدينية من بعض رجال الدين علي إتباعه. من قلب الخوف يولد الإرهاب ومعه تنطلق السيطرة علي الأرواح والعقول والأجساد, ومن ثم نكون إزاء ظاهرة سياسية بامتياز, وعبرها تظهر التواطؤات والتحالفات العلنية والضمنية بين بعض أجهزة السلطة والصفوة السياسية وبعض رجال الدين أيا كانت دياناتهم ومذاهبهم-, وبعض الحركات الدينية المتشددة التي ترتدي وجوه الدعوة والعقيدة والإيمان والأخلاق, بينما الهدف الاستراتيجي سياسي واجتماعي تمييزي بلا نزاع من خلال مد نطاق الهيمنة الرمزية علي الفضاء العام والخاص معا, وعندها لا نكون إزاء دولة مصرية حديثة وثقافة مدنية وأمة وقومية حديثة ومعاصرة, وإنما نكون إزاء انقلاب صامت حدث فعلا! وللحديث بقية