عادة ما يسيطر على الدوائر الأكاديمية والأمنية المهتمة بالإرهاب فى عدد من الدول العربية، تصور بأن كل تنظيم يمارس الإرهاب لابد أن يكون له قيادة وهيكل واضح الأبعاد، يحاكى هيكل تنظيم القاعدة أو تنظيم داعش، ويتم إغفال أن العديد من التطورات التى أطلقتها الثورات العربية منذ نهاية عام 2010، وحتى فبراير 2016 ساعدت على انتشار نمط «غير تقليدي» من الإرهاب بصورة ملحوظة فى العديد من الدول العربية والغربية. وهو نمط الإرهاب بلا قيادة leaderless terrorism، سواء أخذ شكل الخلايا الصغيرة التى تتألف من عدد محدود من الأشخاص تربطهم علاقات ثقة تجسد رأس مال اجتماعى فيما بينهم، أو شكل الإرهابى الملهم أو الذئب المنفرد، أو شكل الأرملة السوداء black widow، وهى اشكال متعارف عليها بدرجة أكبر فى الأدبيات الغربية. فعلى سبيل المثال، يشير تقرير مؤشر الارهاب فى العالم لعام 2015 والذى يصدر عن معهد الاقتصاديات والسلام، إلى أن 70% من العمليات الإرهابية التى وقعت فى الدول الغربية خلال الفترة 2006 - 2015 هى فى شكل إرهاب فردى أو ذئب منفرد، وكانت تدفعها الأفكار الراديكالية الإسلامية، وأفكار التطرف السياسى كما يعبر عنها اليمين المتطرف والقوميون المتطرفون. دواعش محلية ويلاحظ أنه لا يوجد حصر مماثل لهذه العمليات فى دول الشرق الأوسط، ولكن هناك أمثلة كثيرة لهذا النمط من الإرهاب شهدتها الدول العربية خلال الفترة الأخيرة، ففيما يتعلق بالخلايا الصغيرة رصدت الأجهزة الأمنية فى مصر فى الفترة التالية على ثورة 30 يونيو 2013، تشكل العديد من هذه الخلايا، كما أن العديد من الدول العربية رصدت تشكل هذه الخلايا تحت اسم الدواعش المحلية، ويكون تحديد القائد فى هذه الخلية صعبا نظرا لعدم ثبات الأدوار التى يلعبها الأعضاء فيها. فعلى سبيل المثال، أعلنت السلطات السعودية فى 8 ديسمبر 2014 عن القبض على 135 متهماً بتهمة انتمائهم للتنظيمات المتطرفة، كونوا خلايا متعددة لتنفيذ عمليات متفرقة فى الدولة، منهم 109 سعوديين و26 أجنبياً غالبيتهم من سوريا. وأعلنت كذلك فى 29 أبريل 2015 عن اعتقال خليتين مكونتين من 80 شخصاً جميعهم يحملون الجنسية السعودية باستثناء أربعة أحدهم يمنى والآخر فلسطينى و2 من حملة البطاقات (من البدون)، كانوا يخططون لاستهداف عدة مقار أمنية، وكانت احدى تلك الخلايا تتألف من 15 سعوديا وحملت اسم «جند بلاد الحرمين»، كما أعلنت فى 18 يوليو 2015 عن القبض على أربع خلايا تنتمى لتنظيم داعش وتضم 431 سعودياً بخلاف عدد من الأجانب. استلهام التكتيك وفيما يتعلق بالإرهابى المنفرد أو الذئب المنفرد، فهو ينطبق على الحالات التى يعتمد فيها الفرد فى اكتساب المعرفة الخاصة بالتخطيط لعملية إرهابية ما من خلال مواقع إلكترونية على شبكة الإنترنت، دون أن ينتمى تنظيمياً لجماعة أو تنظيم محدد، وبعد أن ينفذ العمل الإرهابى لا تتبناه أى جماعة إرهابية، وعادة يكون منفذ هذا النوع من الإرهاب من المواطنين ويستلهم التكتيك الإرهابى من تنظيم ما دون أن يرتبط به بأى علاقات تنظيمية، ومن ذلك اعتقال القوات السعودية فى 11 أبريل 2015 مواطنا سعوديا بتهمة التدرب على تكتيكات داعش، وتخطيطه لاستهداف القوات الأمنية السعودية، وعمله من خلال ستة حسابات على تويتر على تجنيد الشباب السعودي، وكذلك قيام شاب سعودى فى 16 يوليو 2015 بقتل خاله الذى كان يقوم بعمله فى أحد الكمائن الأمنية فى الرياض. وفى حالة الأرملة السوداء، فإنه تقوم فتاة ترتدى ملابس سوداء بتنفيذ عملية إرهابية ما بصورة منفردة، دون أن تنتمى تنظيمياً لجماعة او تنظيم محدد، وهو نمط شهدته روسيا منذ فترة، وقد شهدت الإمارات واقعة فى ديسمبر 2014، تحاكى هذا النمط وعرفت إعلامياً باسم «شبح الريم»، والتى سعت لاغتيال أجانب يعملون فى الإمارات باستخدام قنابل يدوية الصنع، وقد تحولت شبح الريم إلى «إرهابية إلكترونية» كما كشفت عن ذلك التحقيقات، من خلال نشاطها المتزايد على موقع يسمى «المنبر الإعلامي»، حيث كانت تروج لاستهداف مؤسسات الدولة فى الإمارات، بما فى ذلك الجيش والشرطة، وتنشر وتعيد نشر مقاطع فيديو خاصة بكيفية صناعة القنابل. إرهابى مؤقت وهنا تجدر الإشارة إلى علاقة هذا النمط مع الإرهاب التقليدي، إذ لا يعنى الحديث عن انتشار نمط غير تقليدى من الإرهاب خلال المرحلة الحالية، انقطاع صلته بالنمط التقليدى من الارهاب الذى تعبر عنه القاعدة وداعش وغيرهما من التنظيمات الارهابية ذات الهياكل التنظيمية الواضحة، سواء الرأسية أو الأفقية، ومن المهم الاشارة إلى عاملين. الأول خاص بأنه وبخلاف الإرهاب التقليدي، فإن من يمارس الارهاب غير التقليدى ليس إرهابيا «دائما» وإنما إرهابى «مؤقت»، وقد لا يتعدى عدد الأعمال التى ينفذها عملا واحدا، وبعدها قد يقرر التوقف عن ممارسة الفعل الارهابي، وهذا يفيد بأن هذا النوع من التهديدات الأمنية هو تهديد «غير مرئي» حتى يقع الفعل الإرهابي، وذلك على عكس التنظيمات التقليدية التى تستند لشبكات من التجنيد والتمويل وهياكل قيادية يمكن تحديدها. وينصرف العامل الثانى إلى أن الأفراد الذين يمارسون هذا النوع من الارهاب غير التقليدى المدفوعين بدوافع دينية، استلهموا الفكر الارهابى من تنظيم ارهابى تقليدى انتهى وجوده، أو لايزال نشيطا فى الدول المجاورة، وذلك دون ان يرتبطوا به تنظيميا أو يأخذوا منه أوامر، حيث لا توجد قيادة فكرية أو عملياتية يمكن تتبعها أو ترقبها. وفى حالة الأفراد الذين يمارسون الإرهاب لأسباب سياسية فإنهم عادة ما يستخدمون الدين لتبرير أفعالهم الإرهابية، وتظل قوة الدوافع السياسية مرتبطة بحالة من الحنق من النظام السياسى ومؤسسات الدولة. المحدد الأيديولوجى وفى كل هذه الحالات لا يوجد تنظيم عنقودي، أو قيادة واحدة تصدر الأوامر أو مجلس شورى أو لجان متعددة أو مجموعة من القيادات العملياتية المسئولة عن المناطق والخلايا. حيث إن مركز الثقل الحقيقى لهذا النوع من الإرهاب، هو الأيديولوجيا التى يعتنقها كل من يمارسه، سواء كان فردا، أو خلية محدودة العدد، والتى تجمع بين اعتقاد ديني، ومشاعر عدم الرضا لأسباب إثنية أو طائفية. ولعل هذا يفسر العلاقة بين تنظيم داعش وبعض الخلايا الصغيرة التى تمارس الارهاب فى بعض دول الخليج، والتى يسارع تنظيم داعش باعلان مسئوليته عن العمليات التى نفذتها فى حال نجاحها، وكذلك استلهام العديد من الشباب فى السعودية تقنيات داعش فى ممارسة الإرهاب، دون أن يرتبطوا تنظيميا به، وهو ما حدث فى نوفمبر 2014 حين تم استهداف حسينية بمنطقة الدالوه فى الإحساء، حيث تم اغتيال خمسة أشخاص أثناء خروجهم منها، وفى مايو 2015 عندما تم استهداف مسجد الإمام على فى مدينة القديح بالقطيف، كما تم تفجير مسجد الإمام الصادق فى منطقة الصوابر بالكويت فى يونيو 2015، وكذلك تفجير مسجد الإحساء فى يناير 2016. تحديات المواجهة إن الاهتمام بالاستفادة من التصنيفات المختلفة من الارهاب التى تطورت فى الدراسات الأمنية فى تحليل ما تشهده الدول العربية خلال المرحلة الحالية من عمليات إرهابية ليس مسألة ترفيه، وإنما الهدف منها تحديد أبعاد هذا التهديد على نحو يساعد المؤسسات المعنية فى تطوير أو مراجعة السياسات المتبعة على نحو يسمح بمواجهة فعالة له. ويمكن فى هذا الإطار ذكر عدد من النقاط. تتمثل النقطة الأولى فى أن هذا النمط من الارهاب من الصعب التنبؤ به، أو التنبؤ بالهجوم التالي، ولا تتكشف أبعاده إلا بوقوع الفعل الارهابي، ومن خلال تحليل عدد من العمليات التى وقعت فى عدد من الدول العربية خلال الفترة الأخيرة، يتضح أنه من الصعب تحديد خصائص شخصية معينة لمن يمكن أن يمارسوا هذا النوع من الإرهاب، سواء من حيث الخلفية التعليمية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، حيث أصبحت الأفكار المتطرفة الدينية أو السياسية التى تمثل دينامو لهذا النمط من الإرهاب منتشرة فى منصات متعددة، ولم يعد التعرض لها يقتصر على الجوامع أو الزوايا، ولم يعد الانجذاب لها مقصورا على من ينتمون لفئات اجتماعية محددة. وتنصرف النقطة الثانية إلى أن الإرهاب كتهديد للأمن الوطنى لأى دولة يستمر طالما كانت هناك قدرة على التجنيد، وممارسة الفعل الإرهابي، ففى حالة التجنيد فإن الأفراد الذين يقررون ممارسة هذا النمط من الارهاب، سواء بصورة فردية أو من خلال مجموعات صغيرة العدد ،هم مجندون بصورة «تلقائية»، ولأسباب فكرية أو أيديولوجية، وما يمثل trigger لممارستهم الفعل الارهابى هو تعرضهم بصورة مستمرة لمواد تسهل عليهم التخطيط للعمل الارهابي، وعادة ما يحدث ذلك من خلال مواقع مختلفة على شبكة الانترنت. فعملية تجنيدهم لا تتم بصورة منظمة فهم لم يتخرجوا من المدارس الدينية، أو مخيمات التدريب، كما كان الحال مع مجاهدى القاعدة، حيث حدث تحول فى فكر هذه العناصر من خلال المدونات الجهادية والمواقع الإرهابية، وعبر الدورات التدريبية المتاحة على الإنترنت حول كيفية تنفيذ العمليات الإرهابية محدودة النطاق، أى أنهم اعتمدوا على «التعلم الذاتي». ولذا، لا تتمتع هذه العناصر فى بعض الأحيان بمهارة كافية لتنظيم أو تخطيط أى تفجيرات أو عمليات. وتتعلق النقطة الثالثة بأن من يمارس هذا النمط من الإرهاب هو غير منعزل عن مجتمعه، فعلى خلاف الطبيعة الانعزالية التى ميزت جماعات الإرهاب التقليدية، خاصة إرهابيى القاعدة وداعش، وكونهم منعزلين فى مكان ما جغرافيًا عن أسرهم وعائلاتهم، فإن العناصر المعبرة عن هذا النوع الجديد من الإرهاب، تتفاعل بصورة مستمرة مع المجتمع المحيط بها، وهذا التفاعل هو الذى يزيدها راديكالية، ويوجد نوعًا من العزلة النفسية بينها وبين المجتمع ويجعلها أكثر عداء له، وفى الوقت نفسه يجعل مهمة المؤسسات الأمنية أكثر صعوبة. وتتعلق النقطة الرابعة بأن انتشار الأشكال المختلفة من الإرهاب بلا قيادة فى العديد من الدول العربية، صاحبه تحول خريطة الارهاب فى المنطقة، حيث شهدت دول عرفت تقليديا باستقرارها وبخلوها من خطر الإرهاب ان جاز التعبير وقوع أحداث إرهابية متعددة، مثل تونس التى شهدت فى 26 يونيو 2015 مجزرة فى شاطئ مدينة سوسة، أدت إلى مقتل 39 سائحًا وإصابة 40 آخرين، ولكن تظل جهود مراكز الفكر المبذولة فى إطار رصد هذا التحول فى الخريطة محدود ومقصورة على الارهاب التقليدي. كما يصاحب ذلك تجدد ظاهرة المقاتلين العائدين من داعش، والذين أصبحوا ممارسين محتملين لنمط الارهاب بلا قيادة بأشكاله المختلفة فى دولهم فى حال نجاحهم فى العودة لها دون أن ترصدهم المؤسسات الأمنية. وتنصرف النقطة الأخيرة إلى أن التكلفة السياسية والأمنية لهذه العمليات مرتفعة، ولكن التكلفة الاقتصادية قد تكون محدودة، حيث عادة ما يكون عدد الضحايا من هذا النوع من الإرهاب محدودا مقارنة بالموجات السابقة من الإرهاب، وهذا ما تكشف عنه العمليات التى شهدتها الدول العربية فى الفترة السابقة. ولكن، بصفة عامة، لا يوجد حد أقصى لمستوى العنف الذى يمكن أن يعتمده عناصره، خاصة وأنهم لا يهتمون بتكوين أتباع أو متعاطفين معهم. تظل التطورات الحالية فى منطقة الشرق الأوسط توفر سياقا خصبا لانتشار وازدهار هذا النمط من الإرهاب، على نحو يجعله النمط الأكثر انتشارا خلال الفترة المقبلة، وهو أمر سيضع مزيدا من التحديات أمام المؤسسات الأمنية المعنية بمواجهته.