الحروب الأهلية المشرقية. الإرهاب الإسلاموي بمعاقله المحلية حيث تنهار الدول وينشر شبكاته المعولمة. اللجوء والهجرة الناجمان من الحروب المشرقية بعد فشل الثورات العربية. الجاليات الإسلامية في أوروبا. وما يتفرّع عن ذلك كله من معضلات: هذه أهم المحاور التي تشغل السياسات والمجتمعات الأوروبية اليوم فالاعتداءات الجماعية التي شنّها شبان ورجال من أصول عربية وشمال إفريقية ضد نساء عابرات في ساحة محطة القطارات الرئيسية في مدينة كولونيا الألمانية، ليلة رأس السنة الفائتة، لا تزال تتفاعل بقوة في المانيا، ولدى الرأي العام الاوروبي. ردود الفعل على هذه الحادثة وتفاعلاتها الإعلامية والسياسية والإجتماعية، سرعان ما طاولتْ مباشرةً مواقف الساسة والجمهور في المانيا وأوروبا من اللجوء واللاجئين والمهاجرين والجاليات الإسلامية في البلدان الأوروبية كافة، حيث يتزايد التطابق بين الخوف من اللجوء والإسلام والإرهاب الإسلاموي المعولم - والمحلي. هذا بعدما صُعِقَتْ فرنسا بهذا الإرهاب صعقتين كبريين متتاليتين في بداية العام 2015 ونهاياته. في هذا السياق المحموم نشرت مجلة "شارلي إيبدو" الكاريكاتورية الفرنسية في عددها الأسبوعي لأواسط يناير الجاري رسماً كاريكاتورياً استعاد الصورة الشهيرة للطفل السوري إيلان الكردي وجعلها موضوعاً للتعليق والتعقيب الساخرين على الحادثة الالمانية. في أعلى الرسم الكاريكاتوري وُضِعتْ صورة الطفل الفوتوغرافية المفجعة، بعدما لفظ الموج جثته على الشاطئ التركي في واحدة من رحلات الموت السوري في اتجاه الشواطئ الاوروبية. وكانت الصورة نفسها قد هزّت "ضمير العالم" الإعلامي والإنساني، وأطلقت موجة عالمية إعلامية وسياسية كبرى وعارمة من التعاطف مع مآسي اللجوء واللاجئين، وخصوصاً السوريين. تصدّرت المانيا المستشارة أنجيلا ميركل موجة التعاطف هذه، فشرّعت حدودها لدخول اللاجئين واستقبالهم وإغاثتهم وإيوائهم، فاستضافت المانيا منهم ما يزيد عن مليون لاجئ في العام 2015. المجلة الكاريكاتورية الفرنسية استعملت فجيعتها بالمقتلة الباريسية الشهيرة المعروفة باسمها (تبناها تنظيم "القاعدة في جزيرة العرب" وأودت ب12 من رساميها ومحرريها إعداماً ميدانيا في مكاتبها في 7 كانون الثاني/يناير 2015). وهي استعملت أيضاً فجيعة فرنسا بالمقتلة الباريسية الثانية الكبرى (تبنّاها تنظيم "داعش" وأودت ب 120 شخصاً ومئتي جريح في عملية إعدام جماعي عشوائي في شوارع باريس في 13نوفمبر من العام 2015). استعملت المجلة هاتين الفجيعتين وأصداءهما الأوروبية والدولية لقلب التعاطف الإعلامي والإنساني الكبير الذي أثارته صورةُ إيلان كردي، إلى عكسه ونقيضه. فهي، أي المجلة في رسمها الكاريكاتوري، استلهمت أو استعادت الاعتداءات الجنسية في المانيا لتقول للأوروبيين: هل تدركون مع من تتعاطفون؟ إنكم تتعاطفون مع من لا بدّ أن يكون وحشاً جنسياً يطارد نساءكم في الشوارع، في حال نجاته من الموت غرقاً ووصوله إلى الشواطئ الأوروبية. وذلك على ما ورد في الرسم الكاريكاتوري في صيغة سؤال هذه ترجمته الحرفية: ماذا سيكون (أو سيصير) الصغير إيلان لو كَبُرَ (وشبَّ)؟ والجواب يصورّه الرسم تحت صورة الطفل الميت على النحو الآتي: رجال في هيئات شبه خنزيرية يطاردون امرأة تركض هلعة مستغيثة أمام الرجال المتوحشين الراغبين في افتراسها أو اغتصابها. يقول الرسم الكاريكاتوري إذاً: من المستحسن أن الطفل إيلان قد غرق ومات قبل وصوله إلى أوروبا. ضمنياً يتمنى الرسمُ الموتَ لكل من يحاول اللجوء إلى الديار الأوروبية، ما دام لن يكون سوى مهووس ومغتصب للنساء. كأنما الهوس الجنسي، اغتصاباً وسبياً ونهباً، يجري في دماء اللاجئين والمهاجرين كلاً وجميعاً وفرداً فرداً من دون تمييز. وهو هوس يلابس الأشخاصَ أفراداً وجميعاً، كالهوية الأولى الأصلية والمكتومة، والتي ستستفيق لا محالة وتروّع الأوروبيات في ديارهن. وهذا مهما فعلت أوروبا بإسم التعاطف الإنساني وحقوق الإنسان، وتحت الحاح حاجتها للعمال الأجانب ولتغطية انحفاض الولادات والنقص الديموغرافي في بلدانها. يشي رسم "شارلي إيبدو" الكاريكاتوري هذا بأن دوائر واسعة من الرأي العام الأوروبي - المتزايد انقساماً حول مسألة اللجوء واللاجئين والجاليات الإسلامية في دياره تسير حثيثاً وسريعاً نحو الصدوع الى "سياسات الهوية" الدينية والثقافية. وذلك للرَّد على الحوادث المتصلة بالإرهاب الإسلاموي وبتدفق اللاجئين إلى الديار الاوروبية. هذا بعدما رأى الباحث الفرنسي أوليفييه روا أن نظرية "صدام الحضارات" لا تتيح فهم أسباب اجتذاب الحركات الإسلامية السلفية شباناً أوروبيين. وفي مواجهة مقولة "صدام الحضارات" نَحَتَ روا فكرة "الجهل المقدس" باعتباره "زمن دين بلا ثقافة". وهو جهل قوامه "الاعتقاد الديني المحض الذي ينبني خارج الثقافات، ويحرّك الأصوليات الحديثة المتنافسة في سوق للأديان يفاقم اختلافاتها ويوحّد أنماط ممارساتها". أليست هذه أمنية "القاعدة" و"داعش" وسائر مشتقاتهما المعولمة التي تريد أن يكون العالم كله على صورتها ومثالها؟ لمزيد من مقالات ياسر عبيدو