منذ زمن قديم جدا يتجاوز السبعة آلاف عام... والشمس لا تخلف موعدا، والليل لا يعرف برداً أو وحدة أو خوفاً، ونهر النيل العظيم يتحرك فى ترفع وهدوء شديد. مشهد شديد الروعة والعبقرية على امتداد البصر حيث توجد الأرض هبة الله لأهل مصر. نقترب أكثر وأكثر، لنجد رجالا يذهبون ويجيئون فى اطمئنان المزارع الآمن الذى يتابع العمل فى الحقول، وقد ارتدى زيا بسيطا ومتواضعا، وأما النساء فقد عرفن الحلى وكحلن أعينهن. ونضيف إلى هذا ان هؤلاء جميعا قد أصبح لهم بيوت، وأعراف وتقاليد متداولة تحكم الحياة. صورة بعيدة عن كل التصورات المتوقعة لبر مصر فى ذلك الزمن الذى يسبق عصر الوحدة على يد مينا أعظم حاكم فى التاريخ المصرى القديم. كلام قد يغير فينا الكثير، فهؤلاء بحسابات الزمن يبتعدون عنا بآلاف السنين، حتى أن بردية تورين التى تعتبر من أهم مصادر التاريخ المصرى القديم تضع أمامنا حقائق مذهلة لا يصدقها عقل. فهذا البلد يكون له على أساس هذه البردية حياة تمتد لأكثر من عشرين ألف سنة بشكل تقريبى. تفيد البردية بأن فجر التاريخ يمتد فى بر مصر بشكل لايصدق، فكما يشير د. رمضان السيد فى " تاريخ مصر القديمة" يرجع المصريون عصور ما قبل التاريخ إلى نحو 36620 عاما قبل حكم الملك نعرمر مينا أى قبل اتحاد الوجهين وتأسيس الأسرات، وهذا يعنى مع بعض التجاوز أن أصول الحضارة المصرية ترجع إلى أكثر من 36 ألف عام قبل الميلاد. ولكن إذا رجعنا إلى قائمة مانيتون، نجد أنه يعطى لأسرات تاريخ 15150 عاما، وإلى الملوك الذين حكموا قبل مينا 9777 عاماً. ولم يأخذ أغلب العلماء بهذه التواريخ ورأوا فيها الكثير من المبالغة. وفى المقابل يضع العالم الكبير عبد العزيز صالح تصوره الخاص حيث يرى أن ثلاثة عصور أقدم سبقت العصر الحجرى الحديث الذى شهد الوجود القوى للمراكز المتحضرة وهم: فجر العصور الحجرية، العصر الحجرى القديم والعصر الحجرى الوسيط. مازلنا مع بردية تورين التى تمنح قائمة بأسماء الملوك الأوائل فى تاريخ مصرالذين حكموا البلاد قبل مينا ومدد حكمهم والعلامات الباقية فى الكتابة التى تسمح لنا بقراءة أسماء نبلاء منف، والوجه البحرى، واتباع حورس . هناك رصيد كبير لمصر يثبته عالم آخر هو ده مورجان الذى كشف عن سلسلة متصلة الحلقات من الحضارات تنتمى إلى العصر الحجرى القديم تماثل حضارات فى آوروبا جاءت بعدها بزمن طويل. وهنا لابد أن نتوقف عند الوجود القوى لمراكز التحضر المصرى فى الفيوم ونقادة ودير تاسا والبدارى ومرمدة بنى سلامة وجرزة. كل هذه المراكز عاش بها أهل مصر فى ذلك الزمن البعيد كتلميذ صغير يفتح قلبه للحياة من حوله، ويمنح عقله الفرصة للكثير من الاجتهادات. كانت المساكن تصطف على طول طريق يخترق القرية، كما حدث فى مرمدة بنى سلامة فى المجتمع الزراعى الصغير، التى كان أهلها يدفنون موتاهم ووجوههم إلى الشرق. كانت البيوت فى حقيقة الأمر مجرد أكواخ من الطمى، ولم تكن جدرانها عالية، وكانت الأرضية تغطى أيضا بالطمى- والعهدة على د.إبراهيم شتلة فى " جذور الحضار المصرية" - وكان يوضع تحتها أحيانا إناء من الفخار تتجمع فيه مياه الأمطار. وقد أنشئ مركز التحضر فى العمرى على ربوة مرتفعة عند مصب وادى حوف، بينما أقيمت مساكن الفيوم على شواطئ البحيرة القديمة قريبا من الماء، وأقيمت قرية مرمدة بنى سلامة فى بقعة تطل على الوادى من جهة الشرق، ويحميها تل مرتفع من جهة الغرب. وشهدت البدارى بمحافظة أسيوط مساكن تحوى بعض الأثاث الخشبى الخفيف البسيط والوسائد الجلدية. وبالقرب من البدارى بمحافظة أسيوط، ظهرت حضارة دير تاسا كنموذج راق لحضارات وادى النيل فى العصر الحجرى الحديث كما أوضحت موسوعة «تاريخ الحضارة المصرية». وعرفت صناعة الفخار والكتان وتربية الحيوان وعرفوا الزراعة. كما ظهرت حضارة جرزة شرق مدخل الفيوم من ناحية وادى النيل وعرفت بثرائها فى الأسلحة والملابس. ووسط كل هذا، اعتبرت نقادة بمحافظة قنا بمراحل تطورها من أهم المناطق التى قدمت صيغة للتحضر فى مصر، حيث إنها والكلمة للعالم الأثرى د. عبد الحليم نور الدين - قد أرست قواعد الحضارة الزراعية، وخطت خطوات واسعة فى الصناعات الحجرية والمعدنية، وتوسعت فى استخدام النحاس. وقد نجح سكان نقادة فى تصوير المراكب بشكل دقيق على سطوح فخارهم، وتقدموا إلى حد كبير فى صناعة الأسلحة من حجر الظران، كالسكاكين ورءوس السهام. تبدو هذه القصص ذات ملامح غير مسبوقة ، وكلها ترجمات لفكرة التخريجات أو الابتكارات التى طالما لجأ إليها أهل مصر على مر تاريخهم. فقد استفاد أهل مصر من المعرفة التى حققتها هذه المراكز المتحضرة على الأرض المصرية، حتى قبل أن ندخل فى عمق قصة الوجهين القبلى و البحرى وتكون هناك بعدها مصر موحدة. كانت هناك بالفعل علاقات منذ حقق المصريون المعجزة وسجلوا تفردا منذ العصر الحجرى الوسيط تربط بين القرى والأقاليم بعضها ببعض، فأصبح هذا التواصل وهذا التفاهم خطوة من خطوات كثيرة سبقت التوحد المصرى داخل دولة . وإن كان يجب أن نعرف ايضا أن وسط هذه المراكز المتحضرة من سبق، ومن أتى لاحقا. فلا يمكن أن تولد كلها فى اللحظة نفسها اليوم نفسها، وهى أمور تهم المؤرخين، أما ما يهمنا فهو شكل ونمط هذه المراكز المتحضرة التى قدمت لبر مصر الشىء الكثير. وهم فى النهاية أهل مصر الذين وصفهم الأثرى عبد الحميد زايد بأنهم قضية مبتدأ مصر وأساس قصة الزراعة التى عرفوها فى جماعات صغيرة محدودة، اتسعت مع الزمن، وانضمت إلى بعضها البعض قبل زمن مينا موحد القطرين. وأما المصريون فى عهد الأسرات بعد توحد القطرين فهؤلاء قصة أخرى. فالدخول إلى أرض مصر والتعامل مع سكانها لغز آخر، فإذا كنا قد اتفقنا أن هذه البلاد قد عرفت ووصلت إلى درجات كبيرة من التحضر منذ فجر التاريخ صنعتها بيديها وقلبها. فمن يكون هؤلاء المصريون صناع هذا التاريخ المديد؟!.