"لا يكتمل فهم أى أجنبى للصين بدون زيارة شيآن".. هذه العبارة التى شدد عليها أحد الأساتذة بجامعة رينمين خلال محاضرة عن تاريخ الصين دفعتنى إلى السعى لزيارة هذه المدينة، المشهورة بكونها العاصمة الثقافية للصين ومعسكر "الجيش الطينى" والمحطة الأولى على طريق الحرير، ومركز مقاطعة شنشى رائدة الابتكارات العلمية والأفكار غير التقليدية فى جميع المجالات، ومسقط رأس الرئيس الصينى شى جين بينج. نصيحة الأستاذ وجدتها يقينا راسخا لدى كل الصينيين الذين قابلتهم فى مدينة شيآن، فهم يؤكدون أن بكين هى العاصمة السياسية للصين، وشنغهاى العاصمة الاقتصادية، وشيآن العاصمة الثقافية، والمدن الثلاث تمثل رؤوسا لمثلث المعرفة وفهم الصين بشكل جيد، ففى بكين يدرك الأجنبى حجم الصين السياسى، وفى شنغهاى يتعرف على قدرتها الاقتصادية، وفى شيآن يقتنع بتاريخها وثقافتها الضاربة فى عمق التاريخ، ومن هنا كانت مقولة أن معرفة الصين لا تكتمل بدون الزيارة والتعرف على هذه المدن الثلاث، لكننى وجدت فى زيارة مقاطعة شنشى بعدا مهما آخر تمثل فى تعرفى على تجارب متميزة للتنمية الزراعية، ونتائج مبهرة لمحاولات تفكير غير تقليدى من بعض أبناء المقاطعة بدأت قبل أكثر من 20 عاما، وأصبحت نموذجا للخبرات المتراكمة والنجاح الكبير فى هذا المجال، يمكن لنا أن نستفيد منها فى مصر، خصوصا مع بدء المشروع القومى لاستصلاح 4.5 مليون فدان. قدرات علمية مثل غيرها من المقاطعات الصينية تؤكد تفاصيل وملامح "شنشى" لزائريها للمرة الأولى بأنهم يزورون بلدا مختلفا، فالتنوع فى الصين يجعلها قارة أكثر من كونها دولة، وتتزاحم مميزات المقاطعة عن غيرها من المقاطعات الصينية عند الحديث مع أحد أبنائها، فهم لا يتوقفون عند ذكر أن عاصمتها شيآن واحدة من أقدم المدن الصينية وكانت من العواصم السبع القديمة للصين، حيث حكمت البلاد منها 13 سلالة أشهرها أسر هان وتشين وتانج، لكن أكثر ما يعتزون به أنها حاضنة لعدد كبير من مراكز الابتكارات العلمية، وبها أكثر من 200 جامعة للتخصص فى دراسات علوم الكمبيوتر والتكنولوجيا الحديثة، وهو ما يجعل آلاف الطلاب الأجانب يقصدونها للدراسة، كما أن مقاطعة شنشى بها أحد مراكز علوم الفضاء الصينية الكبيرة، الذى كان أول مركز تم بناؤه فى مشروع استكشاف الفضاء الصينى، ومنها تنطلق الأقمار الصناعية الصينية إلى الفضاء، كما تشهد نموا كبيرا لصناعة الإلكترونيات والبرمجيات، وترتفع بها نسبة طلاب الجامعات العلمية بشكل لافت، وقد ساهم فى ذلك أنه منذ بداية التسعينات تقريبا بدأت تنمية شيآن كجزء من الإنعاش الاقتصادى لمنطقة وسط الصين، وتم التركيز على إنشاء مراكز ثقافية وصناعية وتعليمية وبحثية فيها. طريق الحرير مدينة شيآن كانت المحطة الأولى فى طريق الحرير البرى التاريخى، وهو ما جعلها تاريخيا المركز السياسى والاقتصادى والثقافى للصين، وكانت ومازالت من أكبر المدن الصينية من حيث عدد السكان، ومع طرح مبادرة إحياء ذلك الطريق بدأت المدينة فى العمل على استثمار المبادرة فى تحسين تبادلها التجارى مع الدول الواقعة على الطريق، فكل شئ فى شيآن يدل على أنها كانت مدينة منفتحة على العالم، وعاش بها عدد كبير من التجار، من بينهم العرب، ومازالت آثارهم باقية فى متحف المدينة، حيث جلبوا معهم منتجات من بلدانهم الأصلية، على رأسها الأثاث المنزلى، الذى كان مختلفا عن نظيره الصينى، وكذلك طريقة بناء بيوتهم وتجسيدها لفنون العمارة المختلفة. وقد كان طريق الحرير سببا فى دخول الإسلام إلى شيآن، من خلال التجار المسلمين الذين جاءوا إليها من الدول العربية ودول الشرق الأوسط وأقاموا بها، وتزوجوا وكونوا عائلات، وأصبح يعيش فى المدينة ومقاطعة شنشى أعداد كبيرة من المسلمين، يمثلون الآن أحد أكبر التجمعات المسلمة فى المقاطعات الصينية بعد منطقتى نينغشيا وشينجيانج، وبالمدينة مسجد "شيآن الكبير" وهو واحد من أقدم وأهم مساجد الصين، حيث يعود بناؤه الأول إلى عهد إمبراطورية تانج وأعيد بناؤه عام 1392م، وجرى ترميمه بعد ذلك ثلاث مرات، ويتميز المسجد بزخارفه الجميلة، وجمعه بين فنون العمارة الإسلامية والبناء الصينى التقليدى القديم، حيث لا يختلف من الخارج عن غيره من المبانى الصينية التاريخية التقليدية. ويقع المسجد بالقرب من شارع "المسلمين" كما يطلق عليه سكان شيآن، وهو شارع كبير مكتظ دائما بالسياح، حيث تكثر به محلات بيع الملابس والهدايا التذكارية، التى تتوزع بين المطاعم الإسلامية الأكثر انتشارا بالشارع، وتقدم الأطعمة خفيفة ومختلفة عن بقية الطعمة الصينية، حيث تنتشر مطاعم المشويات التى تقدم لحوم الضأن، وأرجل الماعز المشوية، والمشروبات الملونة، ويكتسب هذا الشارع شهرة واسعة فى الصين، حيث يعود تاريخه إلى أكثر من ألف عام. صناعة الكيوى زيارة مزارع ومركز أبحاث ومصنع وثلاجات فاكهة الكيوى كانت من بين أكثر الزيارات الميدانية التى قمت بها فى مقاطعة شنشى متعة، حيث حملت العديد من المفاجآت لى، فرغم معرفتى الكبيرة بالزراعة إلا أنها كانت المرة الأولى التى أرى فيها شجرة الكيوى، التى تحتاج إلى حامل تماما مثل شجرة العنب، ولم يكن شكل شجرة الكيوى فقط هو الجديد بالنسبة لى، فقد علمت أن الكيوى يوضع فى ثلاجات ضخمة بين درجة حرارة صفر و1 مئوية لمدة تتراوح بين 4 و5 أشهر قبل أكله، تماما كما يحدث للموز، ولكن مع اختلاف درجات الحرارة والمدة. وللكيوى فى مقاطعة شنشى قصة مثيرة للاهتمام، لدرجة أن الرئيس الصينى شى جين بينج تحدث عنها فى أحد خطاباته كنموذج لنجاح الأفكار الخلاقة، فقبل عام 1987 لم تكن هذه المنطقة تعرف حتى شكل شجرة الكيوى، ولم يكن الكيوى من الفواكه التى يتم إنتاجها، حتى جلبها أحد المزارعين وبدأ فى إقامة مزرعة منها، وبعد أن حقق النجاح قلده عدد من الفلاحين، وانتشرت مزارع الكيوى، فتنبه المسئولون فى المنطقة لأهمية هذه الفاكهة، وبدأ إنشاء مراكز أبحاث خاصة بالكيوى، وبمرور السنوات نجح الباحثون فى استباط أنواع جديدة مختلفة عن الكيوى التقليدى، وصلت إلى 8 أنواع تتدرج فى درجة السكر بها، ويختلف لون كل منها من الداخل، كما يتباين ملمس بعضها من الخارج عن الكيوى التقليدى. هذه الأنواع تم استنباطها باستخدام أحدث وسائل التكنولوجيا لاستنساخ النباتات، والتلقيح والتطعيم وغيرها من الوسائل لتتناسب مع البيئة المناخية ومع التربة، ومع الوقت زادت مساحة الأراضى المنزرعة بالكيوى فى مقاطعة شنشى، وتم استصلاح أراض جديدة كانت صحراوية وزراعتها وبناء ثلاجات كبيرة لتستوعب الإنتاج المتزايد، والذى وصل إلى حوالى نصف مليون طن فى 2014، وأصبح يتم تصديره إلى روسيا وعدد من الدول الأوروبية. آلاف الوظائف زيادة إنتاج الكيوى دفعت المسئولين المحليين لمقاطعة شنشى إلى إنشاء مصنع كبير يقوم بتصنيع الكيوى، فيستخرجون منه النبيذ، ويصنعون العصائر والمربى والمشروبات الغازية، كما يصنعون منه بعض مستحضرات التجميل، وكريمات إزالة المكياج، التى يتم تصديرها إلى كوريا الجنوبية، وقد وفرت هذه المشروعات الآلاف من فرص العمل، قال مدير عام العلاقات الخارجية بالمقاطعة إنها توفر حوالى 120 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة، بداية من العمال الزراعيين، وعمال المصانع، والسائقين، والباحثين فى مراكز الأبحات، والمتخصصون فى الطاقة الشمسية التى تعمل بها المزارع، وخريجو الجامعة الذين يعملون فى المركز التجارى الملحق بالمزارع لتلقى الطلبات الإلكترونية (الأونلاين) لشراء الكيوى، ويتم توصيلها لأى مكان فى الصين خلال مدة أقصاها 5 أيام، إضافة إلى العمال فى مصانع الكرتون التى تقدم العبوات المختلفة للكيوى، وشنط الهدايا للطلبات الإلكترونية، وموظفون بشركات للشحن وغيرها من الوظائف المعاونة الكثيرة. العنب الثلجى تجربة الكيوى ليست التجربة الوحيدة الناجحة فى التنمية الزراعية بمقاطعة شنشى الصينية، فهناك تجربة أخرى لا تقل إبهارا وإن كانت على نطاق أضيق، بطلها مزارع صينى ظل 22 عاما يجرى تجارب ويحاول استباط سلالات جديدة من العنب، ونجح بالفعل فى إنتاج ثلاثة أنواع مختلفة من العنب، أطلق عليها اسمه وهى "هوتاى 8، وهوتاى 9، وهوتاى 10"، وتتميز هذه الأنواع المختلفة من حيث الحجم ودرجة تركيز السكر فيها بأن شجرتها تظل مثمرة طوال العام، فلا ينقطع الثمر عنها نهائيا، على خلاف العنب العادى الذى يسقط أوراقه ويتوقف عن الإثمار فى الشتاء. وقال المزارع الصينى صاحب الابتكار شين هوتاى خلال زيارة "الأهرام" لمزرعته إنه كان يفكر فى زيادة دخل المزارعين المادى وهو يعمل على فكرة أن تظل أشجار العنب مثمرة طوال العام، حيث كانت فترة الشتاء وتوقف العنب عن الإثمار تعتبر أوقاتا صعبة على المزارعين، مشيرا إلى أن هذه السلالات التى استنبطها تثمر حتى مع سقوط الثلوج فى الشتاء، وأنه يصنع النبيذ من العنب، ونبيذ عنب الشتاء يكون أخف حيث يتم عصره مع الثلج، ولهذا السبب أسماه "نبيذ الثلج". وعندما سألته هل تستطيع هذه السلالات النمو فى مصر أكد أنها تتحمل درجات الحرارة العالية حتى درجة 45 مئوية، حيث إن الصيف فى شنشى شديد الحرارة، كما أنه يتحمل البرودة حتى درجة 40 تحت الصفر، مؤكدا أن هذه الأنواع معتمدة من وزارة الزراعة الصينية، وأنه حصل على شهادات بتسجيلها باسمه، وأنه يتم الآن تعميم أبحاثه للاستفادة منها فى زيادة إنتاج العنب بالصين. هدية للأصدقاء بدون تردد أجاب شين هوتاى على سؤالى إذا كان يقبل نقل هذه السلالات من العنب التى ابتكرها إلى دول أخرى مثل مصر، حيث قال كما ترى من الصور المعلقة فى المزرعة أنها أصبحت مزارا للكثير من الضيوف الأجانب والمسئولين الصينيين، وأنا لا أمانع فى نقلها إلى أى مكان، ومصر دولة صديقة للصين وبيننا علاقات قوية، وهنا تدخل أحد المسئولين المرافقين لى فى الزيارة وقال إن حكومة المقاطعة على استعداد تام لتقديم الخبرات والتكنولوجيا المتقدمة فى مجال التنمية الزراعية لمصر ولغيرها من الدول الصديقة فى إفريقيا دون أية شروط، فهذه التكنولوجيا متاحة وموجودة لمن يريد، فهدفنا تحقيق زيادة فى الإنتاج الزراعى ليجد المواطنون فى كل دولة ما يكفيهم من الطعام، ونحن نتعامل مع الأمر بطريقة إنسانية، فلا يجوز أن يحتكر أحد أية تكنولوجيا يمكن أن تساهم فى الحفاظ على حياة البشر وتوفير الغذاء الصحى لهم، ونحن منفتحون على الجميع ونرحب بكل من يريد أن يشترى هذه المعدات الحديثة، وندربهم عليها أيضا. جيش التيراكوتا "إذا عُرف السبب بطل العجب".. هكذا يقول المثل الشعبى المصرى، فهذا النجاح الذى تحقق فى مجال التنمية الزراعية ب"شنشى" الصينية لا ينفصل على كونها مقاطعة سكنها الفلاحون منذ زمن بعيد، واستفادوا من توافر المياه، حيث بها نهر جين وى، ونهر تشينج شان، وكان الطمى أحد مكوناتها التاريخية المهمة، والدليل على ذلك الجيش الطينى أو "جيش التيراكوتا" الذى تم اكتشافه صدفة عام 1974 بالقرب من مدينة شيآن حينما كان أحد المزارعين يحاول حفر بئر لرى أرضه، وهو الجيش الضخم المكون من أكثر من 8 آلاف تمثال مصنوع من الفخار لجنود يحملون أسلحتهم وعتادهم كاملا ويقفون فى صفوف مظبوطة كما لو كانوا فى طابور عسكرى، كما تم العثور على 130 عربة، و520 حصانا، إضافة إلى 150 حصانا للفرسان، مصنوعة من المواد نفسها. هذا الكشف الأثرى الكبير الذى تم العثور عليه مطمورا تحت التراب على عمق أكثر من ثلاثة أمتار يعتبره كثير من علماء الآثار عجيبة الدنيا الثامنة، حيث يعود تاريخه إلى أكثر من 2100 عام، حينما أمر الإمبراطور الصينى كين شين هوانج ببناء هذا الجيش ليتم دفنه معه عندما يموت، فشارك أكثر من 70 ألف شخص فى بناء هذه التتماثيل من الطين، وجرى حرقها فى أفران بلغت درجة حرارتها ألف درجة مئوية لتتحول إلى فخار وجرى تلوينها بعد ذلك، ومن عجائب هذه الجيش أنه رغم العدد الكبير لتماثيل الجنود فإن ملامح الوجه فى كل تمثال تختلف عن الآخر، وقد أمر الإمبراطور ببنائه حتى يكون عونا له لبناء إمبراططورية فى الآخرة. هذا الأثر يعتبر من أكثر المناطق التى يتوافد عليها السياح فى الصين، حيث يزوره أكثر من 10 ملايين شخص سنويا، حسب مديرة المرشدين السياحيين به، وقد جرت تغطيته بالكامل للحفاظ على التماثيل من التقلبات الجوية، ومازال العمل جاريا فى ترميم أعداد كبيرة أخرى من التماثيل التى تم العثور عليها محطمة، أو تحطمت فى أثناء الكشف عن هذا الجيش، الذى يعد أحد أهم معالم شيآن ومقاطعة شنشى الصينية.