رحل المؤسسون وبقى المبني.. توالت العصور وتعمق المعني.. هبت على مصر رياح تحولات وثورات، وظلت الأهرام شامخة فى قلب جميع الحكايات، شاهد عصر فى كل الأحوال، وصانعة له فى بعض الأحيان. فى البدء كان الكلمة.. بحسب سفر التكوين، وكان الأمر اقرأ.. مفتتحا للقرآن الكريم، ومع بدء الحداثة كانت الصحافة، وفى طليعة الصحافة كانت الأهرام، وليدة سكندرية صغيرة قبل مائة وأربعين عامًا، لأبوين لبنانيين مارونيين هما سليم وبشارة تقلا، هربا من الاستبداد العثمانى إلى مصر بعدما استحالت ملاذًا آمنًا للعرب .. نبتة صغيرة، لم يكن يحلم غارسوها أن تربة مصر بهذا الجود وأن للاسم (الأهرام) كل هذا السحر وذاك الخلود. لم تكتف الأهرام بالمشاركة فى عرض الوقائع بل سعت إلى فهم الحقائق، طلبا للمعنى والمخبوء، فيما وراء الظاهر والمشهود، فاستضافت على صفحاتها نخبة العقول المصرية، واستحالت بؤرة للاستنارة العربية. ضمن هؤلاء ثمة رموز تركوا البصمة واضحة والأثر نافذا، أكتفى هنا بالوقوف عند أكثر الذين علمونى من بينهم.. المفكر المتفلسف زكى نجيب محمود. يكاد الرجل يمثل فى الفكر العربى ما يمثله نجيب محفوظ فى الأدب العربي، فكلاهما يجسد النموذج الكلاسيكى للمبدع الذى يصبغ عصره بصبغته هو فيكون علما عليه.. وكلاهما طال به العمر وكثر إنتاجه وصاغ مدرسته على مهل وفى حكمة على عكس آخرين لم تنطو مواهبهم على حكمة الاستمرار وملكة الانتظام فكانوا كالشهاب الخاطف سرعان ما ينطفئ.. وكلاهما أيضا عاش مراحل إبداعية مختلفة، إذ مرت على محفوظ نزعات تاريخية، وواقعية / اجتماعية، ورمزية، بينما توالت على زكى نجيب محمود مراحل صوفية، ووضعية، وصولا إلى التوفيقية. على منوال موسى بن ميمون فى الفكر اليهودي، وايمانويل كانط فى الفكر الغربى المسيحي، وابن رشد فى الفكر العربى الإسلامي، الذين صاغوا منطق العلاقة التوازنية بين العقل والإيمان فى مراحل تحول كبرى داخل ثقافاتهم، يقف د. زكى نجيب محمود شامخًا على قمة موجة هادرة فى تيار النهضة العربية، عكست نزوعا توفيقيا بين الأصالة والمعاصرة. منذ عودته من لندن 1947 حاملا للدكتوراه فى (الجبر الذاتي)، وحتى مطلع الستينيات عاش الرجل ثورته الوضعية، مؤلفا ل: «المنطق الوضعي»، «نحو فلسفة علمية»، «خرافة الميتافيزيقا» الخ. داعيًا إلى تخليص الثقافة العربية من هيمنة الميتافيزيقيا التقليدية كطريق ارتآه ضروريا للعقلانية والتقدم، فيما كان يُهاجم كثيرًا من التيارات الرجعية تحت مظنة إنكاره للدين باعتباره مجرد «ميتافيزيقا» وإلى درجة اضطرته لتغيير عنوان كتابه «خرافة الميتافيزيقا» إلى «موقف من الميتافيزيقا» وأشعرته بالغربة عن محيطه الثقافى الذى لم يمنحه القدر الكافى من التقدير، خصوصا وهو الرجل المسالم والمتنسك فى محراب فكره. ولذا فقد اعتز كثيرًا بوصف العقاد له (أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء)، ليس لأنه وصف مستحق، حيث كان قادرًا على نقل الأفكار الفلسفية بلغة أدبية سهلة، بل لأنه شهادة تمكين صادرة عن شخصية لها ذلك الحضور «العقادي». لكن التمكين الأكبر أتاه من الأهرام، يوم انضم للعقد الفريد من كتابه الكبار، كدرة فلسفية فى مفرق التاج الأدبى والنقدي، ليطل من نافذته العالية على جموع قراء العربية. وفى الحقيقة لم يتصور الفيلسوف الواعد الوضعية المنطقية باعتبارها «مذهبا فلسفيا» خالصا يقول شيئا خاصا أو «موجبا» فى قضايا الفلسفة الكبرى من قبيل الله، والحرية والخلود مثلا، بل تصورها بالتحديد «منهجا» للتفكير العلمى يستوعب الواقع الطبيعى والاجتماعي، كما يقلص من فضاء المعرفة الفلسفية التأملية (الميتافيزيقا) الى حدود دنيا. وبمعنى أبسط أراد القول: مات أرسطو.. عاش بيكون. غير أن هذا التصور أثار عليه من المتاعب والمعارك الفكرية ما أرقه لزمن غير قصير، حيث ظن كثيرون فى إلحاده لنفيه إمكانية المعرفة الميتافيزيقية. ويبدو أن تأويلهم له جاء على هذا المنوال: مادام ينفى المعرفة الميتافيزيقية، ووجود الله هو من القضايا الميتافيزيقية، فهو إذن ينفى وجود الله، ومن ثم لا يؤمن به. ولم يكن ذلك صحيحا على أى وجه، فكل ما قصده الرجل هو استحالة إقامة البرهان العلمى على وجود الله، وإن كان هو نفسه يؤمن بوجوده منذ طفولته، غير أن إيمانه هذا لا يأتيه من خلال التجربة بالأساس، بل من خلال الوجدان، وعن طريق الحدس المباشر الذى هو طريق للمعرفة يغاير طريق العقل الخالص، وإن لم يكن بالضرورة مناقضا له. عبر ثمانية عشر عاما متصلة (1974 1992) استضافته الأهرام، كأستاذ فلسفة كبير ليكتب مقال الثلاثاء، فكان ذلك فتحا كبيرا له، وللأهرام معا. بالنسبة له كانت الكتابة للأهرام بمثابة تقدير لم ينله قبله سوى عمالقة الفكر المصري. كما كانت فرصة ذهبية أحسن استغلالها لعرض جل مؤلفاته، صانعا لتقليد غير مسبوق، وهو وضع مؤلفاته، ذات البنية الصارمة، فى مقالات مسلسلة محكمة البنية، يتم نشرها قبل أن تضمها دفات الكتب. وهنا نجد أثر الأهرام واضحا فى عمل الرجل الذى هيكل نتاجه الفكرى الكبير على مقاس الصحيفة العريقة، ليخرج عبرها من كهف أستاذ الفلسفة الموهوب إلى آفاق المفكر الفلسفى المرموق. وبالنسبة للأهرام كان زكى نجيب محمود أكبر عقل نظرى كتب على صفحاتها، وصاحب أبرز مشروع تجديدى فى الفكر العربي، حتى بروز نجم المفكر المغربى الكبير «محمد عابد الجابري» ومشروعه الكبير «نقد العقل العربي». كما تمكن الرجل من ترك بصمته ليس فقط على قراء الأهرام ومريديها، بل وفى أبناء الأهرام وصحفييها. وبالنسبة لكاتب هذه السطور بالذات، كان الرجل ملهما إلى الحد الذى احتل معه موقع الجد الفكري، وإلى درجة لم يستطع معها تصور أى مستقبل لى بعيدًا عن جدران الأهرام التى أطل الجد من خلفها، وذلك دون أى تفاعل مباشر اللهم سوى لقاء زعابرس بمؤتمر للجمعية الفلسفية أغسطس 1992م فى مدرج (78) بآداب القاهرة، تم خلاله الاتفاق على لقاء عامر لم يتم أبدا، حيث التحقت بالخدمة العسكرية بعد شهرين فقط، فيما التحق الرجل العظيم بالرفيق الأعلى بعد عشرة أشهر تقريبا.