الكتابة عن علاقة يوسف إدريس بالأهرام، فى فقرة أو فقرتين، أشبه بمن يريد أن يُدخل عاصفة فى زجاجة! فمنذ أن التحق إدريس بالأهرام، فى الأول من يونيو 1969، محرراً أدبياً، براتب 160 جنيهاً، وهو فى مناوشات دائمة لم تسكن إلا بموته. ولقد كانت الأهرام هى الحاضنة، لا المصدّ، لهذه العاصفة. لم تثنها أبداً عن الفوران، خاصة فى عهد هيكل، كاهن البلاغة الأعظم وحارس الأقلام، لم تخفف من حمولتها أو حدتها ولم تقترح تغيير المسار. لذلك ظل يوسف يهبّ فى كل اتجاه.. المسئولين، الناس.. الدنيا والآخرة، ولما لم يجد ما ينقده، أتى على نفسه. استدارت العاصفة إلى الداخل.. تآكلت، والحاصل أنه لم يبق منها غير قلب واهن توقف، هو الآخر، عن الحركة فى الأول من أغسطس 1991. حتى بعد موته ظل يوسف عاصفة مكتملة تهب علينا من القبر. أرشيفه، المقصوص من صفحات الأهرام، يملأ 3 ملفات ضخمة، يخيل إليك، من فرط حيويتها، أنها مستعصية على الطيّ. ما زالت، رغم أوراقها المصفرة الهشة، نابضة طرية الحبر كأنها كتبت للتو، لا من 42 عاماً.. ومفتوحة، تماماً كما كانت عين صاحبها، على أمراضنا المزمنة.. المواصلات، التعليم، الفساد، الأمية، الجهل، سينما العوالم، الفقر، البلادة، الزحمة، الخرافات، الحوادث، إلى آخر الأشياء التى ما زالت تحدث بالطريقة نفسها، كأننا نتقدم إلى الخلف، أو نسير نحو المستقبل بظهورنا، لذلك لم أكن بحاجة إلى تقليب كثير فى هذه الملفات، فتوقفت، و«اختيار المرء قطعة من عقله»، أول ما وقعت عليه عينا: بعض يوسف.. بعضنا المؤلم الكاشف الذى ما زال يلحً علينا.. ب «أهمية أن نتغير يا ناس»، قبل أن نفقد الأمل فى أننا شعب قابل فعلاً للتغيير.. وقبل ان أقوم فتنتنى قصة «أمُّه» : آخر جوهرة فريدة جاد بها إدريس على فن القصة القصيرة العربي- (على صفحات الأهرام التى أضافت إليه، وأضاف إليها، الكثير) وإن لم تكن قصته الأخيرة. ولا أستطيع أن أحرم القارئ الأهرامى من بعض نفحات منها: مقاطع من قصة «أمٌّه» فى ليلة شتاء وجدها, ثالث شجرة قبل النفق وجدها واحدة من أشجار (أم الشعور) القائمة على جسر النيل عند نهاية شارع قصر العيني كان قد طفش مرة أخرى طفش جرب عربات القطار القديمة المركونة صدئة على القضبان لا تستعمل وجرب أسفل عربات النقل والفجوات الكائنة فى سور فم الخليج والمقابر والخرائب وحظائر المواشي، وأشياء، وأماكن كثيرة جربها، وكان البشر يطاردونه، كما يطارد الكلب المسعور أو الأجرب كان طفش منذ أن طرده زوج أمه وهو يطفش …………………….. المشكلة فى الليل والمأوي وفى ليلة شتاء وجدها .. الشجرة جذعها من جذور ولهذا يسمونها (أم الشعور) فجذورها فى الهواء، تلتحم معاً وتجف ملتحمة وتصنع ساقاً وجذعاً، تتوالى عشرات السنين تضخيمه وتكبيره ليتحمل عبء الشجرة المهول. ولأن ساقها جذور متلاصقة فهى لا تكون جذعاً مستديراً مصمتاً، ولكن يظل فى الجذع فجوات هى تلك المسافات التى كانت تفصل الجذور. فجوات كبيرة وصغيرة، مفتوحة من. الناحيتين ومغلقة أحياناً صانعة عشاً مسقوفاً ذا فتحة واحدة. ذات ليلة، وهو سائر بائس ولكن غير باك، فحين يصبح البؤس هو القاعدة اليومية الليلية التى لا تتغير لا يعود الانسان يبكى بؤساً، فالبكاء، يجيء أملاً فى حل أو استدراراً لأمل، أو رجاء إلى الذى خلقنا أن يهدينا للحل أو بالحل ويريحنا ولو ساعة من ألم مستمر أضاع منا حتى الاحساس بالألم. كان الليل قد بدأ يمطر، ثم بغزارة راحت السماء تصب سيولاً تفرغ الشوارع من الناس والدنيا من الونس وتخلق فى النفس شعوراً قوياً بالخوف. ولجأ إلى الشجرة يحتمى من السيول التى بللته حتى وصلت إلى نخاع عظمه، وعلى الضوء القادم من عامود نور ساطع الضوء، رأى الفتحة واقترب، وبعينيه راح يتفحصها واستغرب حين وجد لها عمقاً وكأنها كهف. دخل وكأنه إلى سرداب سعادة دخل. فمجرد إحساسه أن قذائف الأمطار وسياخها المائية قد كفت عن الدق فوق رأسه واختراق أسماله، وأنه قد أصبح فى مأمن، مجرد إحساسه بهذا، فرحة كبرى غمرته، وكأنه الصعلوك قد أهدته السماء قصراً من عجب …………………………. ومن فرط سعادته راح يقاوم الخدر الذى بدأ يدب فى جسده ويقوده إذا استسلم إلى نوم ما ذاقه فى عمره أبداً. إنه هنا ليس فى مِلك أحد كى يطارده أحد، وليس قريباً من مخزن أو دكان ليأخذوه بالشبهة، ولا عسكرى يستطيع أن يراه ولا إنس ولا جن أو بشر. راح يقاوم حتى يستمتع بشيء حُرم منه على الدوام منذ أن كان له بيت وكان له أب وكانت له أم حنون يجد فى حضنها الأمان والدفء والحماية من كل شرور البشر. يقاوم الخدر المؤدى حتماً إلى النوم. بإرادته يقاوم ومعه البرد الشديد يساعده، وكلما أحس بالدنيا خارج الكهف ترعد وتبرق والمطر بإلحاح ينهمر، وأحس بنفسه محمياً بالشجرة العجوز وحضنها عن هذا كله، كما أحس بشعور الناجى من غرق، المحمى فى قلعة حصينة، حولها وحوش الدنيا كلها تعوى وتتلمظ، وهو يخرج لها لسانه اطمئناناً وتأكداً أن أنيابها تماماً بعيدة عنه وأن زئيرها، زئير العاجز أن يناله، وأن الدنيا أمان مبطنة بالقطيفة، وقطيفتها الزغبية النباتية أصبحت تحنو عليه، ويسرى إليه منها دفء لا يعرف مصدره وصحا فى الضحى صحا ظل يحدق طويلاً من خلال فتحة الشجرة إلى المارة والعربات ويجتر نصف نائم، عمره كله، حتى يتذكر اللحظة التى دلف فيها إلى .مثواه الجديد ذاك. وعمره كله كوم وليلة الأمس وحدها كومة أخرى وثمة فاصل حاد باتر بينهما. ……………………………………………. أحس، قرب الفجر أن ثمة دفئاً ما قد بدأ يشمله .. يحس بالدفء ملموساً لا يعرف مصدره، فقط حين بحكم العادة . وخاف، حتى كادت الرعشة، رعشة الرعب من هذا الدفء الغريب المجهول، تعاوده لابد أنه خرف أو بدأ يخرف، فقد لمعت فى ذهنه الطفولى فكرة أن الشجرة العجوز قد بدأت تدفئه، وتفعل مثلما تفعل أى أم حين ينكمش ابنها فى حضنها وتحس أنه بردان، فتدفئه.. وتخريف أو لا تخريف، أعجبه الخاطر تماماً واستراح حتى كفت أسنانه عن اصطكاكها، وأطرافه عن الرعشة، ووضع رقبته تحت ذقنه ثم دفن رقبته بين ساقيه وكأنه يتخذ وضع الوليد فى بطن أمه. ونام وكما انتمى للشجرة تماماً وأصبحت ملجأه وملاذه من العالم الخارجى الشرير، حتى أصبح يأوى إليها فى عز النهار هرباً من القيظ حين جاء الربيع وجاء معه الحر، فوجئ ذات يوم وكأن الشجرة كانت ضائعة هى الأخري، وبلا قريب مثله، وبدا كما لو كانت فجوتها تتحور لتأخذ شكل جسده، بل فوجئ ذات يوم بعرق داخلى منها يبرز ويمتد إلى الخارج من فتحتها ويواليه بالطبطبة وبالسقيا حتى لفى أسابيع قليلة يكبر ويكاد يملأ فتحة الفجوة ويصنع لها باباً يكاد يخفى الفتحة، بحيث لم يعد يعرف مكانها سواه. ودون أن يدرك هو ما يحدث، وبالطبع دون أن تدرك الشجرة، بدأت علاقة أكبر من مجرد الانتماء، والحنان المتبادل، والبرودة تغمره بها صيفاً، والدفء تغطيه به شتاء أحبها أكثر مما أحب أمه، لقد كانت الحضن والبيت والظليلة والعائلة وكل ما يمت إليه فى الدنيا ولا يدرى كم من الزمن مضي، عام أو عشرة أعوام، فالزمن كان قد توقف به عند اللحظة التى اكتشف فيها أم الشعور، تلك التى دبت الحياة فى كل أنحائها تماماً واخضر كل مكان متخشب فيها... ( الأهرام- 22-2-1982)