تحتاج العلاقات بين الشعوب العربية, خاصة المصرية السعودية إلي تأكيد أهميتها الاستراتيجية ودعم أواصر مجالاتها الاجتماعية والاقتصادية, والنظر إلي الكيان العربي الشامل. لابوصفه وحدة حضارية واحدة في منظومة أي نظام عالمي مهما كانت المتغيرات التاريخية والمعطيات المتجددة, فالعربي هو العربي, عليه أن يصنع مصيره بوعي, متجاوزا كل دعاوي الشعوبية والعنصرية والمذهبية, والتاريخ سيحاسبه علي دوره الحضاري دون تفريق بين عربي هنا وآخر هناك. ولم تكن العلاقة بين الشعبين الشقيقين في شرق البحر الأحمر وغربه, في حاجة إلي ما يدعمها أكثر من الوصف القرآني لمصر بأنها (مقام كريم), ومن قول الرسول صلي الله عليه وسلم مصر أطيب الأرضين ترابا, ووصيته عليه السلام حين سئل في مرض موته فيم نكفنك؟, فأجاب: في ثيابي هذه أو في ثياب مصر..
وكانت وصية الرسول صلي الله عليه وسلم بأهل مصر مرجعية فكرية محورية في سياسة الملك عبدالعزيز آل سعود, الذي طالما ردد بلسان صدق ووعي سياسي وقلب مخلص استوصوا بمصر وأهلها خيرا, فالسيدة هاجر أمنا جميعا ومحبة زمزم تروينا مثلما يجمعنا عشق النيل العظيم الذي ضم علي ضفتيه العرب من كل حدب وصوب, وكان الملك عبدالعزيز حريصا علي لقاء ممثلي البرلمان المصري والاستماع إليهم والاحتفاء بهم, وذكر ذلك عباس محمود العقاد رحمة الله عليه حين كان عضوا في البرلمان المصري واستقبله الملك عبدالعزيز استقبالا سياسيا بصفته برلمانيا, واستقبالا أخويا بصفته صديقا مقربا من عقله وقلبه.
وبين الأشقاء داخل الأسرة الواحدة قد تحدث مشكلة,, بل إن الإنسان الواحد أحيانا قد تتنازع علي رأيه فكرتان, وعليه أن يكون حكيما لكي يصل إلي درجة التصالح مع نفسه, مثلما عليه أن يكون لبيبا في احتواء أخيه وتقدير موقفه, والذي يلجأ إلي تصعيد وقائع الحياة اليومية في الأسرة الواحدة هو صاحب أهداف استراتيجية يريد شيئا لنفسه فيزايد علي هذا أو ذاك, وهو خارج السياق ينظر إلي الطرفين ربما بسخرية, فهو يعلم في دخيلة نفسه أن المتنازعين سيخسران ويصبح هو الرابح, وفي الوقت الراهن ما أكثر أصحاب المصالح السياسية والاقتصادية الذين يجعلون كما يقول المثل المصري من الحبة قبة, أو يلوحون بقميص عثمان وكلام الحق الذي يراد به باطل, فمن الذي ستعود عليه المنفعة من شق صف العرب؟.. ومن الذي يرغب في زعزعة الاستثمار أو إحلال خبرة بخبرة أخري, أو نمط من العمال بنمط آخر, أو تغيير مسار السياحة في المنطقة؟
إن الأطراف التي تبحث عن مصالحها لها الحق في ذلك وعلينا أن نقرأ خريطة الأفكار السائدة ونحدد توجهات القوي المختلفة لكي نفهم ماذا يحدث دون أن ننساق خلف هذا أو ذاك. الشباب العربي في هذا الوقت تتنازع عليه تيارات مختلفة لدرجة التناقض, ربما كان في هذا ظاهرة صحية علي نحو ما, لكن المشكلة أن الإعلام الكوني الذي تديره المنظومة العالمية لا يعرف فقط كيف يستغل الحدث, وإنما يجيد صناعته أيضا, وهذا الفضاء الشاسع تحركه قوة المال وتسيطر عليه الهيمنة السياسية الصانعة للنظام العالمي, مهما تذرع بالمهنية والاحتراف, إن دموع امرأة بائسة من الممكن أن تغير مؤشر القوي الاجتماعية في لحظة ما سواء أكانت هذه الدموع صادقة أم كاذبة, وفي الحالتين, قد تكون الدموع مأجورة, إذن يصبح الرهان علي ثقافة المتلقي العربي الذي يجب ألا يسلم بصره وبصيرته وأذنيه ووعيه لامرأة الميديا المفترسة التي أكلت أبناءها في الأسطورة الإغريقية التي اشتق منها اسم الميديا, ومازالت تلتهم أحلام البشر وأمانيهم وهي تدعي محبتهم ورعايتهم, بينما يتقاسم أصحاب صناعتها المدعمون من مراكز صناعة القرار في العالم الغنائم التي يرتفع مؤشرها مع تزايد ارتفاع مقياس بحر الدموع.
إن الصراع بين اليمين واليسار يتخذ أشكالا قد تبدو بعيدة عن السياسة, ومن مصلحة الكبار أن يظل الصراع بعيدا عنهم مع حرصهم علي تصدير آلات التنازع وتقنياتها, وحصد الثمار المتساقطة من هنا وهناك, وقد يستغل أصحاب فئة ما حادثة أو حدثا محدودا للتلويح به كي يصبح قضية عامة فتجد القنوات تفتح موضوعا للنقاش, ويأتي من منحوا ألقاب الخبراء والمحللين والحقوقيين, ثم تسمع كلاما صادقا حينا وصادما حينا, ورثا ضحلا لا يستند إلي فكر ولا تدعمه حجة ويفتقر إلي آداب الحديث في كثير من الأحيان, ولا أحد يسأل نفسه من طرح هذا الموضوع بداية, وما دوافعه, ومن الذي احتشد له, وما أهدافه, ومن الذي يديره, ومن سيخسر ومن سيربح ما يفتقده الخاسرون؟! إن القضايا التي نسمع عنها كل يوم وما تلبث أن تختفي بعد أن يحقق أصحابها أهدافهم كثيرة ومتشعبة, ولو حاولت إدارة ما في أي مكان من العالم تحقيق أهواء البشر جميعا, لتحطمت كل النظم الاجتماعية, ولم يبق إلا الفوضي التي مازال البعض يقوم بالترويج لها وتصديرها للآخرين الذين يراهم أعداء له, بينما هو أحرص الناس علي تنظيم مؤسساته وتدعيم قواها, والدور الحقيقي المنوط بالمثقف العربي هو الارتقاء بالوعي, وإعادة قراءة التاريخ وتحليل وقائعه, لمعرفة آليات الفتن ومن الذي يفيد منها.
إن الوقوف علي أسباب النزاع في قضية ما بين شقيقين أمر يحث عليه العقل ويفرضه الضمير, أما تصعيد الحالة الخاصة لتصبح نغمة عامة نتباري جميعا في الانسياق لها ثم نقف ونتساءل: لماذا نفعل ذلك؟.. وماذا جنينا؟ علي غرار ما يحدث في الأفلام الكوميدية القديمة, فهذا الأمر كوميديا سوداء وسذاجة تجعلنا فرجة لأعداء هذه الأمة, وستظل حالة الدفع بين البشر تحقيقا لسنة الله سبحانه وتعالي في الكون.. ففي هذه الحالة ترصد العقول متغيرات الأحوال ومقاييس القوي.
ويري بعضنا بعضا في مرآة الحقيقة لا مرايا الزيف, ومناقشة قضايانا العربية بكل ما فيها من خلفية ثقافية بحكمة أمر لا جدال فيه, كما أنه لاشك في أن حق العربي واحد وكرامة السعودي من كرامة المصري وحرمة الدم والمال لا فرق فيها بين هذا وذاك.. فهكذا تحدث الرسول الذي نهتدي بسنته في مصر العربية العزيزة والمملكة العربية السعودية سواء بسواء, وهكذا تقول لنا مبادئ الإنسانية السمحة التي يحترمها المصري والسعودي وكل عربي مرت خطوات الأنبياء فوق أرضه وكانت حضارته فجرا للضمير الذي حافظ علي مرجعية العدالة في تاريخ البشرية. المزيد من مقالات د. غازي زين عوض الله