أسئلة وقضايا كثيرة، يفجرها كتاب "جوهرة في يد فحام" الصادر حديثا عن دار "مدارك" للإبداع والنشر والترجمة والتعريب ببيروت، للإعلامي السعودي الشهير تركي الدخيل، مقدم برنامج "إضاءات" بقناة "العربية"، من هذه القضايا: الجدل الدائر الآن في اليمن: جدل المثقف والسلطة، الأدب والسياسة، المرأة وحقوق الإنسان وغيرها، وهي قضايا يطرحها الدخيل للنقاش في حوارنا معه، إلي جانب تفجير قضايا أخري تتعلق بالوضع الثقافي السعودي، الفكر الوهابي، جيل المبتعثين الجدد، الرواية السعودية الجديدة، العلاقة بين مصر والسعودية، فكرة الريادة الثقافية، وغيرها من القضايا، وإلي نص الحوار: المجتمع السعودي وصل للاختناق.. ورغم أن الإنترنت حرره من كمامته لا يزال يعتبر الليبرالية كفراً بداية ماذا تقصد باسم الكتاب "جوهرة في يد فحام"، ولماذا اخترت اليمن بالتحديد لتكتب عنه؟ - هي عبارة استخدمها الأديب الراحل عبدالعزيز الثعلبي، عندما قال إن اليمن جوهرة في يد فحام، كان يتحدث عن وصفها مخزنا من مخازن الحضارة والمعرفة والتاريخ في العالم، إلا أنه بلد مهمل، أهله يهملونه وجيرانه يهملونه، ولا يليق أن يكون غفلا من التنمية أو نائيا عن أي عناية، فهو بلد عظيم، قال عنه الرسول (ص): "الإيمان يمان، والحكمة يمانية". وما نوع الاهمال الذي تقصده؟ - اليمن بعيد عن أي تنمية تليق به، وأقصد التنمية في وجوهها المتعددة، التعليمية والاقتصادية والبشرية وغيرها، وعلي مستوي الإهمال الخارجي، فإن عدم دخول اليمن بشكل كامل في منظومة مجلس التعاون الخليجي يعد خطأ كبيرا، فلماذا يتركون اليمن وهو يقع معهم في نفس السلسلة الجغرافية؟، هل لأن نظام حكمه ليس نظاما وراثيا؟، إن منظومة الاتحاد الأوروبي دفعت بدوله الغنية لأن تعمل علي الارتقاء بدوله الفقيرة، ودول مجلس التعاون الخليجي لديها دخل مرتفع، واليمن لديه مخزون بشري كبير، فلماذا لا يعمل جيرانه علي رفع مستواه وإعادة تأهيله؟! الكتاب يناقش جدليات: الثقافة والسلطة، والدين، والمرأة، وحقوق الإنسان، ما الذي توصلت إليه عبر مناقشة هذه الموضوعات؟ - يصعب اختصار كل ما خرجت به من حوارات امتدت لعشرات الساعات في إجابة قصيرة، لكن أي قارئ سيكتشف من خلال الكتاب كم أن الانسان اليمني رائع في بساطته وطيبته وكرمه، لكني وجدت أن هناك تداخلا عجيبا في صناعة الوعي الديني باليمن، تداخل بين اليمن السني ممثلا بالشافعية والصوفية مع اليمن الزيدي، الذي يمثل جزءا منه الحوثيون، واكتشفت كم يمكن لتنظيم القاعدة أن يستغل مناطق الصراع والضعف في الشعب اليمني، وكيف يلعب علي الفجوات التي تحدثها المؤسسات، والفروق بين القبلية والمدنية، لكي يلج من خلالها إلي تكوين خلايا للعمل، فالشعب اليمني عنده السلاح مثل رغيف الخبز، وعلي جانب المرأة، اكتشفت أن اليمن يمر بتجربة مجتمع مدني حديثة، وفي هذا الإطار تكافح السيدة أمل الباشا- التي التقيت بها، علي أكثر من جبهة من أجل، تدعيم وتكريس حقوق المرأة. ألم تواجه انتقادات من داخل اليمن، بسبب كتابتك عنه عبر عدد من اللقاءات، ربما لا تكون كافية لتعرف البلد بشكل جيد؟ - نعم ووجهت ببعض الانتقادات، فنحن لدينا ظاهرة منتشرة في الوطن العربي وهي ممارسة الشوفينية المحلية، ننتقد أنفسنا مثلما نريد لكن لا نسمح لأحد أن ينتقدنا، وعندما قلت عن اليمن أنه كريم برغم فقره، ظن بعض اليمنيين أنني أعيرهم بالفقر، وأسهل شيء إن الواحد يكون سلبيا ويفسر الأشياء بمنطق مؤامراتي. ألا تخشي أن يفسر البعض كتابك عن اليمن، علي أنه محاولة لتهدئة وتجميل العلاقات بين اليمن والسعودية؟ - العلاقة بين السعودية واليمن هي علاقة حب وكراهية في نفس الوقت، منذ أن تغير نظام الحكم في اليمن من نظام الأئمة إلي نظام الجمهورية، وهذه هي طبيعة العلاقة بين الجيران، أن تحب جارك و"تناكفه"، والحقيقة تقول أن اليمنيين صاروا جزءا من نسيج السعودية، بل ساهموا في تنميتها وبنائها، ففي الوقت الذي تأتي فيه الجنسيات الأخري إلي السعودية للعمل، وتقوم بجمع المال وترحل، يظل اليمني مقيما بالسعودية، ولهذا تجدين أن أكلاتنا الشعبية صار فيها أكلات يمنية كالمعصوب والمندي والمظبي وغيرها، ولهذا أقول أنني كتبت الكتاب لأنني أحب اليمن حقيقة دون أن ألتزم بهدف لا أدعيه، فالعلاقات السيئة بين الدول لا يصلحها كتاب، والجيدة لا يفسدها كتاب. تناولت في الكتاب الجدل الدائر في اليمن، ماذا عن الجدل الدائر في السعودية الآن، ما أبرز القضايا المطروحة؟ - هناك قضايا كثيرة يصعب اختزالها في إجابة، وانفتاح المجتمعات علي بعضها البعض، جعل معرفة ما يحدث في الشئون الداخلية للدول أمرا سهلا، لكن دعيني أقول، أن هناك عالم ما بعد 11 سبتمبر، اكتشفنا أنه فيه 15 من الذين اختطفوا الطائرات سعوديين، ومن نظم هذا العمل أراد له أن يكون بيد سعودية، مستثمرا توجه الناس للتدين بشكله السلبي وليضرب "إسفين" في العلاقة الجيدة بين السعودية والغرب وأمريكا تحديدا، لكن لماذا فعل السعوديون ذلك؟ وهل هم جزء من نسيجنا أم أنهم خارجون عنه؟ هذا الجدل دائر بين التيارات السعودية، لم يعد المجتمع السعودي كما يبدو لبعض العرب، يعبر عن مزاج واحد، صار فيه أفكار وتيارات وتوجهات مختلفة، وإن لم تتشكل هذه التيارات في شكل أخير، هناك سعوديون أقرب ما يكونون لليبرالية، وهناك سعوديون يخافون من وصفهم بالليبرالية خاصة مع وجود من يصنفها علي أنها نوع من الكفر. هناك من المصريين من يستبشر خيرا بالجيل الجديد من السعوديين الذين يذهبون للدراسة بالخارج، فما رأيك هل يمكن لهذا الجيل أن يغير قيم المجتمع السعودي؟ - لو رجعنا إلي الوراء، إلي الخلاف المصري- السعودي (عبد الناصر-فيصل)، سنجد أن هذا ضرنا ونفعنا، نحن كنا نبعث أولادنا ليتعلموا بجامعة فؤاد، وقتها كان التعليم حقيقيا في مصر، وبعدما صارت عندنا أزمة مع الناصرية، فتشنا عن المكان الذي نرسل إليه أولادنا، فكان أمريكا، واكتشفنا أن التعليم بها تعليم حقيقي، ومن تم ابتعاثهم إلي أمريكا هم من صنعوا تنميتنا ودولتنا الحديثة كهشام الناظر وغازي القصيبي ومحمد أبالخيل وغيرهم، هؤلاء تعلموا في جامعة فؤاد وأكملوا تعليمهم في أمريكا، فأصبح جزء من تكوينهم عربيا وجزء آخر عالميا، الان السعودية بها أكثر من 80 ألف مبتعث ممكن يصلون إلي 150 ألفا، منهم من يدرس بأستراليا ونيوزيلندا وسينغافورة وكندا وبريطانيا وأمريكا، ولا يمكن لهؤلاء إلا أن يعودوا بتجربة مختلفة للبلد. لكن هل المجتمع السعودي مستعد، لاستقبال قيم هذا الجيل الذي يدرس بالغرب ويتشرب ثقافته؟ - استعداد المجتمع السعودي لاستقبال قيم هؤلاء المبتعثين لم يعد خيارا، ولكنه أمر واقع، علي المجتمع أن يتقبل هؤلاء الشباب الذين سيشكلون وعيا جديدا ومزاجا وأفكارا وتجربة جديدة لهذه البلاد، فما يفعلونه أقرب لقوة ناعمة حقيقية، كان الملك عبدالله هو الذي بدأها حينما بدأ برنامج الابتعاث، في البداية ستحدث مشاكل بالتأكيد، لكن علينا أن نعترف أن الثقافات لا تتناغم بسهولة، وعلينا في الوقت نفسه أن نعترف أننا كنا مجتمعا صحراويا جدا، وعن طريق المبتعثين بدأ يتحول إلي دولة حديثة، كما أن التكنولوجيا فتحت المجتمعات علي بعضها البعض، فأصبحت الأم تري كل ما يفعله ابنها في أمريكا، وابنها علي دراية بكل ما يحدث في مجتمعه وهو الأمر الذي يخفف من واقع الصدمات الحضارية. أيمكن القول، أن تجربة سفرك للدراسة بأمريكا هي سبب تحولك من التدين إلي الفكر الليبرالي؟ - أنظر إلي تحولي باعتباره قيمة إيجابية، فمن لا يتطور ومن لا يتغير ليس بإنسان، هيراقليطس الفيلسوف اليوناني يقول في حكمته العظيمة أن الإنسان لا يمر بالنهر مرتين، لأن مياه النهر جريان دائم، ما يلامسه الآن منه، لا يلامسه بعد فترة، وتغيري كان بسبب رئيسي هو أني كائن لا يخضع للأدلجة السياسية، فالأدلجة ضد خيارات الإنسان، لقد تغيرت لأني لا أقبل أن أخضع لآراء الآخرين الذين يحددون لي ماذا أقرأ وماذا أفعل دون أن يكون لي خيار في تحديد خياراتي الشخصية، لكني بالطبع لست ضد التدين أو الدين، لا أريد ولا أجرؤ ولا أتمني، أنا أنظر للدين علي أنه علاقة روحانية سامية بين العبد وخالقه يمكن أن تنعكس تجلياتها إيجابيا علي علاقة الإنسان بالناس، لا أن تكون سوطا أسوط به المخالفين ولا سيفا أشهره علي الآخرين. بمناسبة الدين، قلت في أحد حواراتك أنك تخشي علي مجتمعك من التطرف، هل يمكن أن توضح ذلك؟ وهل تري أن الوهابية تشكل تهديدا لباقي الدول العربية؟ - أنا مؤمن أن التطرف كارثة، وهناك منظومة من الأفكار المتفجرة في كل عقيدة أو منهج موجودة علي الرف ويمكن أن يستدعيها أنصار هذا التيار أو ذاك فيوظفونها في أوقات الصدام، أو يجعلونها لغتهم اليومية التي يتنفسونها صباح مساء، تعالي نطبق علي الوهابية، هناك أفكار جميلة في الوهابية قامت علي تحرير العلاقة بين العبد وربه من الوسائط وهذا لب الإسلام الحقيقي، لكن أن تستخدم الوهابية لتكفير الآخرين فهذا مرفوض، أن يكون الصدام هو اللغة المعتمدة والرفض هو الأصل، هذا وجه من وجوه التطرف دون أدني شك. هناك من يعتقد بوجود صدام بين المشروع الثقافي المصري والمشروع الثقافي السعودي، فما رأيك؟ - (يضحك ساخرا) مش يبقي فيه الأول مشروع قبل أن نتحدث عن صدام في المشاريع، ياريت تكون فيه مشاريع حتي وإن كانت متصادمة، نحن نمر بحالات ضعف نفتقد فيها لأي مشاريع. وهل هناك مشروع ثقافي إيراني؟ - طبعا (وطلب ألا يتم نشر ما ذكره). هناك من يؤيد فكرة أن مصر مازالت هي مركز الريادة في الوطن العربي، وهناك من يؤيد فكرة تعدد المراكز الثقافية، ما رأيك؟ - لم يعد العالم كما كان عليه في السابق، الآن "الريادات" توزّعت، ريادة المؤتمرات الثقافية ومعارض الكتب وسوق الكتاب والروايات المتمردة نعثر عليها في الخليج بشكل أوضح، وبالذات في المملكة العربية السعودية وفي المؤتمرات الناجحة والجوائز المهمة عربياً نجد الإمارات العربية المتحدة. أنا مع فكرة، أن الريادة توزعت، مصر مثلاً لا تزال مرجعاً في الجدل الثقافي والصالون الكلاسيكي والأعمال الكبيرة علي مستوي النقد الفكري التراثي ولدينا أسماء عظيمة مثل: طه حسين، ونصر أبو زيد، وحسن حنفي، وجابر عصفور، والسيد القمني، وفؤاد زكريا، كل هؤلاء يؤكدون ريادة مصر في الحركة والجدل الفكري العميق، أما المغرب العربي فهو مركز في الترجمة ونافذة أساسية علي جدل أوروبا، وهو بوابة الوصول إلي الحالة الفكرية الأوروبية، وهو أيضا يضم أسماء كبيرة مثل أركون والجابري، وهما قامتان شرفت باستضافتهما في برنامج "إضاءات" كما أن هناك أسماء كبيرة في المغرب العربي مثل هشام جعيط وعبد الله العروي. ولبنان لا يزال رائداً في الطباعة والنشر والصحافة والكوادر الإعلامية اللبنانية أثبتت نفسها، إذن هناك توزع للريادات، وليست هناك دولة رائدة لوحدها في كل شيء، هذا التنوع يشكل حالة إثرائية جميلة، وهو ليس مشروعاً استفزازياً ضد أحد بطبيعة الحال. هناك تخوف عربي من وجود انتشار تركي إعلامي في الإعلام المصري والعربي، فهل أنت مع هذا التخوف؟ - مهنتي "إعلامي"، والإعلامي لا يجب أن يخاف من أي مد ما لم يكن مهدداً للإنسان، النفوذ التركي سياسياً وإعلامياً ليس نفوذاً دموياً، بل علي العكس في مسلسل "سنوات الضياع" أو "نور" كانت عاطفة الناس شفيفة، وساهم في نشر مشاهد رومانسية في البيت العربي بين الزوج وزوجته، كدنا أن ننساها، كما أن معدل السياح في تركيا ارتفع بسبب هذه المسلسلات، النفوذ التركي ليس مخيفاً، والإعلامي لا يجب أن يخاف، بل مهمة الإعلامي أن يذهب بقلب قوي إلي قلب الحدث وبينما يهرب الناس من الحدث يأتي هو راكضاً إلي ساحة الحدث. هناك نوع جديد من الروايات السعودية، بعض المثقفين المصريين يرونها روايات تتناول تابوهات المجتمع السعودي، من أجل تحقيق الانتشار والبيع، وهناك من يراها روايات تعبر حقيقة عن تمرد جيل من الكتاب الشباب السعوديين الطامحين إلي توصيل صوتهم لتغيير قيم مجتمعهم، فما رأيك؟ - كتبتُ مقالات عديدة عن هذه الروايات، الرواية السعودية باتت هي المكان الرئيسي للتعبير الاجتماعي الحقيقي! أكثر من أربعمائة رواية سعودية نزلت خلال الفترة القصيرة الماضية، اتسمت هذه الروايات بالجرأة، تناولت شتي الموضوعات الحساسة، وعلي رأسها التابوهات الثلاثة: "الدين، والجنس، والسياسة"، والحقيقة أن قيمة الرواية أنها تقع علي الثقوب المهملة، وتدخل إلي السراديب، وتضع يدها في الجيوب التي علاها الغبار، نعم ... هناك الكثير من الروايات مستواها ضعيف، بنيةً أو أسلوباً، أو لغةً، أو حتي علي مستوي توزيع الشخصيات، وطريقة الحوار، وجمال الأسلوب، وهناك من ركز علي التابوهات الممنوعة بحثا عن التوزيع فقط، لكن لا بأس، فلم لا نستند هنا الي المنطق القرآني: (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)، لكنني أنظر إلي تجربة السعوديين مع الرواية من الزاوية الإيجابية، وهي أننا دخلنا إلي عالم التعبير، ووجد الشباب والفتيات في الرواية فرصة للتنفيس عن أنفسهم، فتكوين شخصيات وصناعتها ونحتها وتكليفها بإقامة حوار اجتماعي أو فكري أو ثقافي أو ديني داخل الرواية كانت بداية للدخول إلي عالم التعبير والتنفيس. لقد اختنق المجتمع السعودي، وكأنه أشبه بالذي كان مكبوتاً لمدة ثلاثين سنة لا يستطيع أن يبوح بآرائه حيال ما يراه خاطئاً، وما يراه صواباً، وبعد أن جاءتنا نعمة الإنترنت الذي فكك الكبت والقمع والتكميم، ثار المجتمع دفعة واحدة، فأصبحت الرواية عبارة عن "همس" ولكنه همس بصوت مرتفع. يعجبني كلام الباحثة النمساوية "إلجا مارتينز وينبيرجر" عن الرواية السعودية وضرورة توجهها للترجمة حينما قالت: "هي حقيقة أنك تستطيع ولا تستطيع مناقشة هذا الموضوع، موضوع الحكم علي الرواية السعودية، فهي مذهلة، ودولياً كثيرون مذهولون بالروايات في المملكة، ولكن الإشكالية في الترجمة، لا توجد أعمال أدبية مترجمة بالقدر الذي يتيح لك الاختيار". وأظن أن الترجمة ستفتح أعين الناس علي الهمس الجماعي والحراك القوي في السعودية، إن الرواية السعودية تعبير وصراخ ... صراخ مجتمع يبحث عن ذاته، ويريد أن يشق طريقه نحو التطور والانعتاق من براثن الانتماء للعالم الثالث.